قد يبدو عادياً لمؤرخ أو باحث اسرائيلي ان ينحاز، او يكون ذاتياً، حين يتعلق الامر بدراسة الاسلام الاصولي. فالأخير، بعد كل حساب، لا يخفي عداءه الصريح للمجتمع والكيان الاسرائيليين بلا تمييز. انه، بالأحرى، العدو الأقصى أو العدو الكامل. وهكذا فإن الاسرائيلي، القومي او الديني، يكره ما هو "اسلامي" في الاصولية الاسلامية، تماماً كما ان الليبرالي او العلماني يكره ما هو "أصولي" فيها. في كتاب عمانوئيل سيفان الذي صدر في 1985 ثم صدر موسّعاً في 1990، من دون ان يتاح للقارىء العربي الاطلاع عليه، لا نقع على شيء من هذا. ف"الاسلام الراديكالي" عن جامعة ييل، 238 صفحة، يخلو من الموقف العاطفي الى حد يحمل على الظن ان الكاتب توصل الى استنتاجاته كلها خلال عملية البحث والتأليف. ذاك ان خلفية الأحكام الجاهزة التي منها ينبثق الكثير من الحجج في العادة، هي هنا في حدّها الأدنى فعلاً. وهذا ما ينقّي نص سيفان من كل تنميط، ليقدمه شهادة حية اخرى ضد النظريات المناهضة للاستشراق التي تبالغ في تسييس المعرفة، وفي المساواة بين عملية التفكير والكتابة وبين الخلفية التي صدر عنها المفكر والكاتب. لهذا ركّز سيفان على "ما هو جديد، وما هو جديد، منظوراً اليه بعمومه، انما هو مستورد الى الشرق الاوسط من الخارج". وهذا يعني ان الموضوع هو الاصولية الاسلامية كظاهرة حديثة وليس، قطعاً، الاسلام نفسه. وعلى أية حال فالفرضية الضمنية للكتاب هي أن الدولة القومية "العلمانية"، والدولة الناصرية هنا هي النموذج المثال، لعبت الدور الحاسم في صعود الاصولية. فتكوينها البعيد التسييس والآيل الى الهيمنة، ونزعتها الى تصوير معتقدها القومي كديانة، دفعا الاسلام التربوي الى حيّز السياسات الراديكالية. هكذا ف"العودة الى الاسلام"، كما يلاحظ الكاتب بحق، "هي في الحقيقة الملاذ الراديكالي. لقد حرّمت قوى الحداثة، ورأس حربتها الأنظمة العسكرية، الاسلامَ في دائرة السياسة ... لهذا انبغى ان يعود الاسلام الى الحقل السياسي". فالراديكالية، في هذا المعنى، كانت ثمرة العداء للدولة القومية التي لم تتسامح مع وجود اي اختلاف في النطاقات التي تسيطر عليها، بينما هي تسيطر على النطاقات جميعاً. وبالاجمال ينبغي ان لا ننسى ان الاسلام السياسي انما بدأ كقوة موالية للغرب ومناهضة للشيوعية ابان التحالف القوي الذي كان قائماً بين القومية العربية والاتحاد السوفياتي. على ان هذا لم يمنع الاصوليين في 1956 من ابداء استعدادهم للقتال الى جانب الجيش والنظام المصريين. بيد انه في 1967، ومن بعد في 1973، غدا موقف من هم اشد راديكالية بينهم على الشكل التالي: "اذا جاء اليهود او غيرهم، فان حركتنا لن تشارك في الصراع ضمن صفوف الجيش المصري. اننا، في المقابل، سوف نهرب الى مكان آمن... ذاك انه لا مجال لاعتبار النزاع العربي - اليهودي حربا اسلامية". وما حدث في هذا الفارق الزمني هو تزايد القمع والتعذيب، وتراجع التسامح حيال الاختلاف. كذلك عمل احتكار الاعلام والدمج الكامل للمؤسسات الدينية في الدولة القومية البيروقراطية، اكانت مصرية او سورية، على تعزيز الوجهة هذه. وتصاحب اخضاع علماء الدين للحكام العسكريين مع ادخال قوانين جديدة صادرت الكثير من صلاحيات المجتمع الديني، لكنها، ابعد من هذا، قدمت تفسيرات للاسلام حاولت، بموجبها، ان تجعله يخدم الاغراض السياسية للمجموعات الحاكمة. والحال ان صعود سيد قطب براديكاليته النارية، ودعوته الى القطع مع الحداثة، ونظرياته عن الجاهلية والحاكمية، كانت تجسيدات حية لرفض الدولة القومية. وفي الوقت نفسه كانت الحداثة المستوردة وما صحبها من ازمات تعليمية وديموغرافية تزيد السوء سوءاً. لقد اصبحت الهوية برمتها مهددة، ف"فالأمة - الدولة ذات السيطرة العسكرية الجديدة وجهت عددا من الضربات القوية لحضارة اسلامية كانت اضعفتها اضعافا كبيرا عقود من الاستعمار، وقرون سابقة من الانحدار البطيء، بحيث غدا من الممكن للمرء ان يتساءل، مع محمد قطب، شقيق سيد، ما اذا كنا لا نزال مسلمين". وهذا فيما كان سيّد يكل الى نفسه مهمة اسباغ الشرعية على ما هو مدان في التيار العريض للفكر السني، أي "الفتنة". فهاجس محمد عبده وبعض رجال الدين التقليديين في مصالحة الاسلام والحداثة، وصولاً الى صيغ مواءمة جديدة، حل محلها رفض كامل لكل ما هو حديث، او ما هو غير مألوف، تقريباً. وسائل الاعلام والتلفزيون والسينما والسياح والفنون والعلوم، كلها امست رموزا دالة على غزو ثقافي متخيل. النساء صُوّرن بوصفهن من يغويهن الشيطان، والأقليات كطابور خامس، والمثقفون كأعداء في الداخل. لقد قام عمانوئيل سيفان بعمل بديع، مبرهناً عن داخليته الحميمة، وراصداً رصدا تجريبيا اصول كثير من التيارات السياسية، ومميزا هذه المدرسة من مدارس الفكر السياسي الاسلامي عن الاخرى. وهو، في الوقت نفسه، حدد فواصل واضحة ومقنعة بين قدامى رجال الدين والراديكاليين الجدد، وبين التقليد السني ومثيله الشيعي، كما بين الدولة القديمة التي تركت المجتمع "لقيادة العلماء في ما خص شؤون الاخلاق والايمان"، وبين الدولة القومية التدخلية الجديدة. لكن ما لم يفعله هو تعقّب الدور الذي ادته المسألة القومية في هذه الثنائىة، ثنائية الاسلام والقومية العربية، وهي المهمة التي ربما احتاجت كتاباً آخر. فالمسألة القومية، لا سيما الصراع العربي - الاسرائيلي، كانت أساسية في تديين الاحتياطي العلماني أو التقدمي الذي يتجسد في الآلاف من أهل المشرق. ففي لبنان، مثلاً، كانت المسألة القومية القاطرة التي تولت نقل التقدميين والعلمانيين الى السياسات والتحالفات الدينية. أما في مصر وسورية، فإن السلطتين الناصرية والبعثية، ومن خلال مبالغتهما في تأدية الموضوع القومي، عبّدتا الطريق نفسه. وبهزيمتهما على الجبهة انتشر الاحباط. ففشلهما القومي غدا التجسيد لكافة انواع الفشل الاجتماعي والديموغرافي والاقتصادي. وفي هذا المنعطف الحرج، استطاعت الاصولية الاسلامية ان تصوّر نفسها كبديل ظافري يستطيع انجاز ما لم يستطع الآخرون انجازه. واذا ما ابقينا في الذهن الطبيعة الرجعية للخمينية في ما خص مسائل كحقوق المرأة والاصلاح الزراعي، أمسى تحول المثقفين اليساريين والعلمانيين الى تأييدها فضيحة بعيدة الدلالة فضيحة كنت انا نفسي احد مرتكبيها. لكن المعنى العميق للحدث هذا هو ان المسألة القومية نجحت في ان تثبت نفسها بوصفها الشيء الوحيد المهم. فما هو اجتماعي، وما هو ثقافي بحت، مجرد تفاصيل. وبما يكفي لاثارة السخرية، فان البيئة اليسارية - القومية العلمانية في المشرق العربي، لا البيئة الدينية السنية، كانت اول المرحبين بالخمينية تبعاً لموقفها المناهض للامبريالية. ويذكّرنا سيفان بأن عمل الخميني الأساسي، اي "الحكومة الاسلامية" 1971 انما نُشر عام 1979 في طبعتين عربيتين "واحدة تولتها دار الطليعة اليسارية في بيروت، والأخرى تولاها المفكر اليساري المستقل ذو الميول الاسلامية، حسن حنفي". وفعلاً كان المثقفون الماويون على الأخص من بدأ التبشير بالدعوة الايرانية التي تشارك الدعوة الصينية عداء ريفياً و"أصيلاً" للغرب.وليُسمح لي بايراد تجربة شخصية رافقت تحولي الى الخمينية يومذاك. فقد شعرت ان الحرب اللبنانية تواجه من هم مثلي بتناقض محدد: اما الوقوف مع الواقع الذي ينهض على صراع قومي - ديني، او الوقوف مع الايديولوجيا اليسارية التي بدت كأنها خرساء لا تقدم اية اداة نظرية مقنعة لفهم الحرب. وباستخدام لغة ذاك الزمن تراءى الاسلام السياسي الايديولوجيةَ التي تستطيع توفير النظرية القابلة لأن تطابق الممارسة القائمة. لكن البعد التراجيدي الكوميدي ان الاصوليين كسبوا جزءاً معيناً من المجتمعات التي نشطوا فيها، من دون القدرة على الامساك بجهاز الدولة. فهم في وسعهم اثارة حروب وفتن، لكن ليس في وسعهم تقديم حلول من اي نوع. وهم يستطيعون منع كل شيء من الحدوث الا انهم لا يستطيعون اطلاق اي شيء جديد وواعد. وفي الجهة المقابلة نجحت الدولة القومية في الاحتفاظ بالسلطة السياسية لنفسها، بيد انها لم تعد راغبة في اقناع المجتمع، او قادرة عليه. لقد تصرفت كأنها، واقعياً، تزرع بذور الحروب الاهلية وتهيء لصعود ورثتها الأصوليين ولو اقتصرت الوراثة على الادعاء النظري وحده. وهذا لم يكن نهاية الامر، اذ كفّت الدولة القومية عن ان تكون قومية بينما كف الاصوليون عن ان يكونوا اصوليين. والمقصود بهذا ان الدولة قصرت اهتمامها على جانب واحد من المشروع القومي العتيد، الا وهو استخدام القومية لاستدراج غطاء تغطي به سيطرة بيروقراطيتها وتنظيمها الحزبي، بينما خسر الاسلاميون تدريجاً مُكوّنهم الايديولوجي، اي الدعوة الى بناء دولة اسلامية والى الوحدة الاسلامية. لقد انتهوا آلة عنف أوحد. وكنا شهدنا هذا العبث المتبادل خلال النزاع الذي عرفته سورية مطالع الثمانينات اذ تبادل طرفاها، الحاكم والاسلامي، نفس اعمال العنف المجاني، فيما كانا يكرران تصميمهما على مقاتلة الصهيونية والامبريالية. والشيء نفسه يصح في مصر حيث نشهد، من قبل الطرفين المعنيين بالنزاع، دفع العنف الى الحد الأقصى ودفع السياسة الى الحد الأدنى. والمعادلة اياها في قيامها على استعباد السياسة تنطبق على لبنان في صيغة معكوسة. فقد اضحى الاصوليون اللااصوليون مجرد آلة عنف لخدمة أغراض الدولة القومية اللاقومية. لكن المثير، هنا، أن لبنان هو المكان الأوحد حيث لم تفقد الدعوات الايديولوجية الاسلامية زخمها الشفوي، الا ان الجميع يعرف حجم الحقائق الزائفة التي تقيم خلف الخطاب المعلن ما دام ان السياسة نفسها مؤجلة ومُصادَرة. في هذا المعنى يبدو كأننا حيال مشهد كامل من التفسخ، يتولى فيه "القروسطي" اقتلاع "الحديث" ولو بأدوات حديثة جداً. أما العنف فيمضي في خنق كل قدرة على توليد المعاني. لقد استشهد سيفان بعبارة شارل بيغي الجميلة: "ما يبدأ في السحر قد ينتهي في السياسة" في وصفه المسار الاصولي. وهذا صحيح شرط ان نضيف ان السياسي قد ينتهي، بدوره، سحرياً في أسوأ معاني الكلمة. × كاتب ومعلّق لبناني