المشهد الأول: رنّ جرس الهاتف. رفع الصحافي السمّاعة متثاقلاً عارفاً أنه سيتلقّى خبراً رتيباً يشبه ما سبقه، أو سيبرّر لمراسل أو متعاون لجوج لماذا لم ينشر المقال - "التافه" - الذي أرسله منذ شهر، أو... - اصطدمت طائرة مدنية ببرج التجارة العالمي في نيويورك، قال الصوت. - صمت - تعال انظر. وخرج الصحافي من مشهده، تاركاً السمّاعة في الهواء... المشهد الثاني: دخل الصحافي فاتحاً فمه وعينيه إلى غرفة احتشد فيها زملاء لبسوا تعابير وجهه نفسها، مسمّرين أمام الشاشة. كرّرت الشاشة مشهد طائرة مدنية تنغرز في القسم الأعلى من أحد برجي مركز التجارة العالمي، فيبتلعها البرج ويتف ناراً ودخاناً أسود. وما إن همّوا يسألون هل من ركّاب؟... عطل فني؟... غلط ملاحة؟... سكت قلب القبطان؟... حتى سمعوا معلّق "سي أن أن" يقول: "... وثمة طائرة تعبر في خلفية الصورة...". ثم شاهدوا تلك الطائرة تنحرف بحدّة عن مسارها وتغيب وراء البرجين، ليظهر نفث ناري مخيف خلف البرج المصاب أولاً. لقطات متفرّقة سريعة: لم تنتظر الأسئلة أحداً يطرحها. "اندلقت" من الأفواه وراحت تطرق الآذان والهواتف والشبابيك والطرقات... وتطرح نفسها على طارحيها أنفسهم... لكنّها لم تلقَ إلاّ صدى بارداً رنّاناً. وعمّ إحساس ثقيل بحقيقة جديدة. المشهد الثالث: زميل زعق: "انهار البرج"، بينما زميل ال"سي أن أن" الذي لم يفصله عنّا آنذاك سوى زجاج الشاشة، صرخ في هلع: Oh my God. هرع كل الزملاء إلى داخل الكادر. منهم من سبح في الهواء وبقي عالقاً، منهم من استقرّ على رؤوس أصابعه، منهم من عانق الباب، منهم من تمسّك بطاولة... والمتخلّفون قذفوا رؤوسهم إلى حيث يستطيعون المشاهدة. لكأن لوحة "غيرنيكا" بعثت حيّة. ولم يلووا في وضعياتهم المتلهّفة الغريبة تلك إلاّ على عيونهم المشدودة إلى انهيار البرج الأول الذي أصيب ثانياً فانهيار البرج الثاني الذي أصيب أولاً، بعد 20 دقيقة. لقطات منفصلة تحدث في آن واحد: مع تصاعد غبار انهيارات المباني المدنية والعسكرية، حط كل زميل رحاله على كرسيه متفكّراً في ما سيكتب في عدد الغد، أي 12 أيلول/ سبتمبر، أم أن التاريخ تغير؟. للمرة الأولى ينعدم كلام الجرائد. هول الصدمة شلّ الأقلام ويبّس لوحات مفاتيح الكومبيوترات، بينما شاشاتها كانت تعيد عرض الفظاعة: أشخاص يقفزون من الطابق المئة إلى موت "طبيعي" هرباً من موت سوريالي، الطائرات الانتحارية نفسها تضرب المباني من زوايا مختلفة، مارّة يهربون من مبنى يلاحقهم وآخرون تحوّلوا إلى تماثيل تراب... المشهد الرابع: رنّ جرس الهاتف. رفع الصحافي السمّاعة. أخبار "11 أيلول" تنهال عليه وعلى زملائه. أخذت تعابير وجوههم تخبو وتمّحي تضاريسها مع انبلاج التاريخ الجديد. اشتاقوا إلى الأخبار المتشابهة، إلى رتابتها وحتّى إلى الملل، مقابل هول ما حصل.