اللهفة التي كانت تخلقها رنة التليفون الثابت في البيت لا يمكن نسيانها، جرس الهاتف يعلن بداية الماراثون، نتسابق جميعا إلى الصالة حيث يربض التليفون بقرصه المستدير وسماعته الثقيلة كقط سيامي في بياضه اللامع، لدي مهارات متعددة في طفولتي منها العد للمائة، وملاحقة سيارة الآيسكريم، لكن ليس أحدها التقاط السماعة بسرعة حين يرن الهاتف، دائما كان يسبقني الكبار. في الزمن الكلاسيكي كان الهاتف وسيلة اتصال بين اثنين، المتصل والمستقبل، لكن في زماننا العجائبي أصبح الهاتف وسيلة الاتصال بين الفرد والأمة، بل بينه وبين الشعوب، بل بينه وبين الكرامة والحقوق والتغيير. يحمله في يده على هيئة مستطيل ذي شاشة ملونة، ويبعث رسائله المكتوبة أو المصورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يتلقاها إمام الجامع ومهرب المخدرات، الوزير وعامل البوفيه، خريج أعرق الجامعات في العالم ومن لم يحصل على حظه من التعليم، ويتلقاها العرب اللاجئون في أوروبا والعرب الباقون في أوطانهم الشرقية تحت القصف الأممي، هذا الهاتف المسحور الذي أعاد للشعوب كراماتها وأسقط المستبد من فوق عرشه، نقل الأخبار وذبح الخوف بسكين الحرية، ما زلنا نتعامل معه بلهفة. لا أنسى الفتاة التي كنتها عام 2011، كنت شخصا رائعا وجميلا وأملك أيفون أبيض، في الأسبوع الماضي كانت ذكرى إحراق البوعزيزي لجسده وتسامي روحه، رافقت صور البطل في الانستغرام كلمات من السباب ودعوات باللعنة وذكرونا بعقوبة المنتحر فأدخلوا البوعزيزي النار لأنه مات كافرا، نعم هو مات كافرا لكنه كفر بكم أنتم، وبالذل، وبالخنوع، كفر بالعبودية والركوع. أدهشني أن أحدا لم يشتم زين العابدين بن علي، لم يتذكروه، بل وبعضهن دافع عن الشرطية التي صفعته، خاصة وأنها خرجت من المحاكمة مرفوعة الرأس حسب وصفهن، ثم ما هي مشكلة البوعزيزي الذي صفعته امرأة؟، لو كان من صفعه رجل لم يكن ليثور أو يغضب، يتخيلن سيناريو موازيا ليستوعب غباءهن. أيقنت أن عالمنا العربي تجاوز الدادائية والسوريالية وكل ما هو غامض وعبثي إلى اللا فهم جاثيا في خرابه العظيم، أما كيف أدركت أني لم أعد تلك الفتاة الجميلة التي كنتها ذلك العام، فإنه حين وجدت جوالي الأيفون القديم رأيت شاشته وقد انشطرت بخط طولي متعرج. وظهرت صورتي متشظية على الشاشة.