تحتفل المانيا بالكاتب غونتر غراس، الفائز بجائزة نوبل احتفالاً رسمياً وشعبياً وأدبياً. وتقام له معارض وتعقد ندوات عن أدبه ومواقفه السياسية. وصدرت حديثاً كتب عن تجربته الروائية. هنا "بورتريه" شامل عنه نحاتاً ورساماً وشاعراً وروائياً من خلال سيرة هي الأولى له. "من العبث محاولة تكوين صورة متكاملة عني". هكذا كتب غونتر غراس في "يوميات حلزون". إلا أن الكثيرين كونوا بالفعل صورة ما عن أشهر أدباء ألمانيا. البعض يرون في قارع "الطبل الصفيح" كاتباً إباحياً صادماً لمشاعر المواطنين الدينية والأخلاقية، آخرون ينظرون إليه باعتباره فارس الخيال المسيطر على ناصية اللغة. هناك من يعتبره ضميراً للأمة، وهناك من يرى فيه كاتباً متعالماً لا يكف عن حشر أنفه في كل شيء مُبدياً النصح أو مُطلِقاً التحذيرات. كان عيد ميلاد غونتر غراس الخامس والسبعون 16 تشرين الأول/ أكتوبر مناسبة انتهزها الوسط الثقافي في ألمانيا للاحتفاء بهذا الأديب الرمز، وإلقاء الضوء على أكثر من جانب من جوانب الرجل المتعددة. هكذا أقامت أكاديمية الفنون في برلين معرضاً كبيراً عن رئيسها السابق، كما اُقيمت الاحتفالات في مدينة لوبيك بمناسبة افتتاح "بيت غراس" الذي يجسد على نحو فريد - كصاحبه - العلاقة الثرية والمتجددة التي تربط بين الأدب والفن التشكيلي. إلى جانب ذلك، وإضافة إلى حفلة التكريم الرسمية التي شارك فيها رئيس الجمهورية يوهانس راو والمستشار غيرهارد شرودر وكلاهما من الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي ينتمي إليه غراس، صدرت كتب عدة تتناول أدب غونتر غراس أو تلقي مزيداً من الضوء على حياة الرسام النحات، الشاعر الروائي، السياسي الناقد للمجتمع، "البطريرك" المشهور بحب الطهو. أضخم هذه الكتب وأشملها عن حياة غراس هو الكتاب الذي أصدره قبل أسابيع ميشائيل يورغس تحت عنوان: "المواطن غراس - سيرة أديب ألماني". في هذا الكتاب يحاول مؤلفه أن يقدم صورة شبه متكاملة عن "المواطن غراس"، مركزاً على الجانب السياسي للمواطن "ذي القدرات الخاصة" كما أطلق غراس على نفسه ذات مرة. الجديد في الكتاب هو اعتماده بصورة أساسية على الأحاديث المطولة التي أجراها يورغس مع الأديب في الأتيلييه الخاص به، وذلك في الفترة بين آذار مارس وكانون الأول ديسمبر 2001، إضافة إلى الحوارات التي أجراها مع عشرات الشخصيات ممن رافقوا غراس أو ممن تقاطعت طرقهم أو توازت مع طريقه. كتاب "المواطن غراس" هو نسيج من الحكايات المسلية والتاريخ: الحكايات عن الإنسان والسياسي والفنان الأديب تتضافر مع تاريخ ألمانيا الحديث، مكونة في النهاية صورة للتطور السياسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية. ولاعتماده على الحوارات الحية جاء الكتاب شيقاً في مجمله، ثرثاراً في بعض أجزائه، مُلقياً الضوء على كثير من التفاصيل المهمة في حياة المواطن السياسي الأديب. عقدة الأم لكي يكتب ميشائيل يورغس عن غونتر غراس كان لا بد من أن يرحل إلى دانتسيك الواقعة الآن في بولندا، فهي المكان الذي لا ينفك الأديب يعود إليه في أعماله، من أولى رواياته "الطبل الصفيح" وحتى أحدثها "مشية السرطان". هناك ولد في خريف عام 1927 لأب بروتستانتي وأم كاثوليكية متدينة كانت حريصة على تربية أبنائها تربية كاثوليكية. الأب - تماماً مثل والد القزم أوسكار في "الطبل الصفيح" - كان يملك محل بقالة، وكان يتودد إلى السلطات النازية إما عن انتهازية أو عن اقتناع، لا أحد يعلم. تماماً مثل الكنيسة الكاثوليكية التي يأخذ الأديب عليها صمتها إزاء جرائم النازية. وفق وصف يورغس كانت الأم أهم إنسان في حياة غونتر غراس. كانت تؤمن به وبتفرد مواهبه. لكن العمر لم يمتد بها لترى ثمار مواهب ابنها، إذ توفيت عام 1954 بمرض السرطان، قبل عامين من صدور أول أعمال غراس: ديوان "مزايا مؤشرات الريح". يتحدث غراس للمؤلف بسخرية عن "عقدة الأم" التي حرر نفسه منها لاحقاً، ويقول إنه كان يشعر بأمه تُطِل من وراء كتفيه عندما يهم بالكتابة، مبدية رضاها أو امتعاضها مما يكتب، بل إنه حذف أحياناً بعض الكلمات من "الطبل الصفيح" لئلا يجرح مشاعر هيلينا غراس! وعندما رأت الأم رسومه الأولى بعد الحرب انتابها الفزع ل"بشاعتها وقبحها"، فسألته: "ألا تستطيع أن ترسم صورة جميلة بالألوان الزيتية؟". وبالفعل يستعير الابن ألواناً زيتية من أحد أصدقائه، ويرسم للمرة الأولى والأخيرة صورة زيتية: باقة زهور، يهديها في ما بعد إلى هيلينا. في عام 1944 يُنتَزع الصبي البالغ من العمر 17 عاماً من دفء الأسرة والمدرسة ليلقى به في أتون الحرب وصقيع الجبهة الروسية. في هذا الفصل المهم "عندما تعلمت احترام الخوف" - الذي يعرض لحياة غراس من 1944 إلى 1952 - يلقي يورغس ضوءاً كاشفاً على الخبرة الأساسية في تكوين غراس الكاتب والسياسي: القتال على الجبهة، والهرب من المعسكر، ثم الانشقاق والعصيان. حتى اليوم ما زال غراس يعتبر المنشقين الألمان انهم الأبطال الحقيقيون في فترة النازية: "عظمتهم تكمن في خوفهم. لم يطيعوا كل أمر يُصدر إليهم طاعة عمياء، بل كان العصيان فضيلتهم". على الجبهة رأى غراس زملاءه يتحولون أشلاء. وهناك يعي أنه "يحيا بالمصادفة"، لذلك يشعر بأن هناك مهمة ملقاة على عاتقه: أن يتحدث باسم الذين قُتلوا. مشاهد وخبرات عدة لم ينسها غراس، وجدت متنفساً عنها في ما بعد في رواياته. على سبيل المثال يذكر يورغس أن غراس عندما هرب من المعسكر تقابل في الغابة مع أحد الجنود الهاربين أيضاً، ثم فجأة تصيب قنبلة كلتا قدمي زميله الذي يسأله تحت وطأة آلامه أن ينظر "إذا كان ما بين فخذيه سليماً"! وعندما يلمح تردد غراس يصرخ فيه راجياً أن يفعل. فيفعل غراس ويطمئنه. حكاية نجدها بنصها تقريباً في "الطبل الصفيح" أثناء الهجوم على مكتب البريد في دانتسيك. ولعل غراس لم يتغلب على خوفه إلا بالكتابة. الكتابة التي تحترم الخوف، وتستدعي من أهوال الماضي ما يحدد التزامات الحاضر. لم يكن أمام غراس اختيار مادة القص كما يحلو له، بل كانت "الخيوط مغزولة" وعليه أن يتم النسيج، كما قال لاحقاً. لم ينس غراس أبداً "أن عدداً لا يُحصى من الموتى يشخصون بأبصارهم" إليه عند الكتابة. بداية ملحمة لكن بداية غراس الفنية لم تكن مع الكلمة بل مع الحجر. بمجرد انتهاء الحرب كان يعرف ما يريد: النحت. وعلى رغم معارضة أبيه ينفذ غراس قراره ويسافر إلى دوسلدورف ويلتحق هناك بأكاديمية الفنون. بعد سنوات صعبة يعاني فيها النحات الناشئ شظف العيش ويسكن خلالها في أحد الملاجئ الخيرية، تتحسن أحواله مع بداية الرخاء الاقتصادي في ألمانيا مطلع الخمسينات، ويستطيع للمرة الأولى السفر في رحلة إلى الخارج، فيختار إيطاليا بلد التماثيل. في رحلة العودة يزور صديقة له في سويسرا. أثناء تناول القهوة يرى الفنان مشهداً ينحفر في ذاكرته، ويصبح حجر الأساس في شهرته اللاحقة. يقول المؤلف نقلاً عن غراس: "كانت الغرفة مزدحمة بأشخاص كبار يتحدثون ويشربون القهوة ويأكلون الفطائر. وفجأة يدخل صبي ومعه طبل صفيح، ثم يطوف في الحجرة ويقرع الطبل من دون أن يعير الكبار نظرة واحدة. يطوف في الحجرة مرة، مرتين، ثم يختفي. بقيت هذه الصورة راسخة في ذاكرتي: هذا العالم الذي يفصل بين الكبار وبين الطفل المستغرق تماماً في طبله". هنا تولد فكرة أولى رواياته وأشهرها جميعاً. ولم يكن لزيارة الصديقة السويسرية تأثير كبير في الروائي فحسب، بل في غراس الرجل الذي يتعرف هناك إلى حبه الأول وزوجته اللاحقة، راقصة الباليه آنه مارغريتا شفارتس. لم يقصر النحات كل جهده في الفن التشكيلي. إنه يجرب قلمه أيضاً، بداية في الشعر، ومن طريقه يُدعى إلى حضور أهم اجتماع أدبي سنوي للمواهب الشابة، وهو اجتماع "جماعة 47" برعاية الناقد هانز فيرنر ريشتر. وسريعاً تصبح هذه المجموعة التي ضمت أدباء أصبحوا نجوماً في سماء الأدب الألماني في ما بعد، مثل هاينريش بُل، وإنتسنسبرغر وأوفه يونسون عائلة بالنسبة إليه، ويغدو ريشتر بمثابة الأب البديل. أما الأستاذ الأعظم الذي يضع النحات على بداية الطريق الروائي فهو ألفريد دوبلين 1878-1957 صاحب الرواية المشهورة "برلين - ساحة ألكسندر". مفلساً يقرر غراس السفر مع زوجته آنه إلى باريس، لأنها تود أن تلتحق هناك بمدرسة باليه. وفي باريس يواصل غراس تجاربه: في الشعر والمسرح، قبل أن يبدأ عمل حياته: "الطبل الصفيح". غراس افاد في الرواية من دراسته النحت، فهو يتعامل مع المادة القصصية كما يتعامل النحات مع الحجر. إنه يخطط في البداية، يصنع اسكتشات، يرسم بعض الشخوص. الرسم قد يولد لديه قصيدة أو فكرة رواية، كما قد يبدأ في الكتابة ليكتشف أن الفكرة تعبر عن نفسها في الصورة على نحو أوضح. السينما وأثرها في باريس يشاهد غراس فيلم "الرجل الثالث" للمخرج أورسون ويلز. يتابع غراس مشاهد هذا الفيلم مبهور الأنفاس، ويرى الكاميرا تصور الأشياء والأحداث من منظور الصبي القابع في الأسفل وهو يراقب تصرفات الكبار. كان هذا الصبي الشاهد الوحيد على جريمة القتل التي وقعت في المنزل. هكذا تأخذ شخصية أوسكار ماتسيرات في التخلق والتشكل، إلى أن تولد حية تأسر من يطالعها. هذا الطفل يرفض النمو، يريد أن يظل قزماً ليراقب الكبار من أسفل رافضاً الاندماج في عالمهم المملوء بالكذب والنفاق والزيف، وليكون شاهداً على جرائمهم. أما وسيلته في التعبير عن الرفض فهي الطبل والصراخ. في عام 1958 يقرأ غراس فصلين من الطبل الصفيح في الاجتماع السنوي لجماعة 47، وينال على الفور جائزة الجماعة لذلك العام. وعندما تصدر الرواية العام التالي وغراس في الثانية والثلاثين من عمره، تحقق له بخبطة واحدة اعترافاً محلياً وشهرة تخطت حدود البلاد الناطقة بالألمانية. في عام 1963 تترجم الرواية في الولاياتالمتحدة، وهناك تحقق نجاحاً يذهل كاتبها الذي ظن أن موضوعها لا يهم القارئ الأميركي من قريب أو بعيد. لحسن حظ غراس لم يسمع الناشر الأميركي برأيه، وخاطر وطبع الترجمة التي تربعت لشهور طويلة على قائمة أحسن المبيعات. ينتبه غراس منذ ذلك الحين إلى دور الترجمة، وإلى أهمية التعاون مع المترجمين وشرح ما غمض عليهم. ويذكر يورغس أن غراس هو الكاتب الألماني الوحيد الذي يشترط على الناشرين الأجانب أن يدعموا سفر المترجمين إلى ألمانيا للاشتراك في حلقة دراسية يعقدها غراس مع المترجمين من مختلف اللغات لمناقشة مشكلات الترجمة معهم. مثل هذه الحلقة الدراسية قد تستمر أسبوعاً لدى عمل ضخم مثل "سمك الترس" أو ثلاثة أيام كما في "مشية السرطان". نجاح "الطبل الصفيح" الهائل لم يمنع نقاداً كثراً من أن يعيبوا على غراس تضخم رواياته، بل وتورّمها في بعض الأحيان. ويذكر المؤلف أن كلاوس فاغنباخ - الذي كان يقوم بمراجعة أعمال الروائي قبل طبعها - اقترح على غراس حذف قرابة 50 صفحة من "سنوات الكلاب" التي تربو عن السبعمئة صفحة. واستجاب غراس للاقتراح للمرة الأولى والأخيرة. وستظل رواياته اللاحقة تعاني الأورام نفسها. معارك وجبهات في سنوات الستينات يسمع الرأي العام الألماني عن غراس السياسي أكثر من غراس الأديب. في هذه السنوات يخوض حرباً ضارية مع صحيفة "بيلد" الواسعة الانتشار، ومع دار نشر "شبرينغر" التي تمتلك أكثر من 30 في المئة من الصحف الألمانية. يتعهد غراس مع أعضاء جماعة 47 مقاطعة صحف شبرينغر، وهو تعهد ما زال غراس ملتزماً به حتى الآن. أما السبب فهو "الأساليب الفاشية" - بحسب تعبير غراس - التي تستخدمها صحف الدار لزيادة المبيعات. تفجرت هذه المعركة من جراء خطاب نشر في صحافة شبرينغر ونُسِب إلى الأديب اليهودي أرنولد تسفايغ الذي كان يعيش في برلينالشرقية. يدعي الخطاب أن الحياة في ألمانيا الديموقراطية "جهنم لليهود". وعلى الفور، ومن دون التأكد من صحة الخطاب أو الرجوع الى الأديب، انتهزت الصحف الفرصة لتشن حرباً شعواء على الشيوعيين. لكن تسفايغ ينفي الخبر جملة وتفصيلاً، ويقول إن هذه الادعاءات أسوأ مما كان يحدث أيام وزير الدعاية النازي غوبلز. وبالفعل كان الخطاب مدسوساً من وكالة أخبار تدعى "برانتل برس"، كان يقف وراءها - كما يبين ميشائيل يورغس - جهاز الاستخبارات الإسرائيلية الموساد. في فصل "أنصحكم بانتخاب الحزب الاشتراكي الديموقراطي" يركز يورغس على العلاقة التي ربطت الأديب بالحزب الاشتراكي الديموقراطي، والصداقة التي ربطت بينه وبين مرشح المعارضة لمنصب المستشار فيلي برانت، الذي يصبح - على حد قول يورغس - الأب البديل الثاني للكاتب. وإذا كان من المعروف أن غراس لم يطمح لمنصب سياسي في الحزب، فإن مؤلف الكتاب ينقض هذا الرأي، ويؤكد أن سياسيي الحزب فكروا بعد نجاح فيلي برانت 1969 أن يعهدوا لغراس بأحد المناصب، مثلاً سفيراً لألمانيا في بولندا حيث تقع الآن دانتسيك، إلا أنهم تخلوا سريعاً عن الفكرة، لأن صاحب "الطبل الصفيح" لم يكن أبداً طبالاً، بل مواطنٌ ذو رأي مستقل يتعارض في كثير من الأحيان مع الحزب" مواطنٌ متعالم لا يكف عن إلقاء الدروس السياسية إلى درجة أزعجت المستشار الجديد الذي قال ذات مرة، والعهدة على يورغس: "ازيحوا هذا المتحذلق المتعالم من طريقي". بعد فترة النشاط السياسي المكثف يعود الخطيب إلى مكتبه، ويكتب عام 1977 رواية "سمك الترس"، وبها يحقق نجاحاً يعيده إلى أمجاده الروائية السابقة. وبعدها بعامين يحوِّل فولكر شلوندورف روايته الشهيرة "الطبل الصفيح" إلى فيلم جماهيري ناجح ينال السعفة الذهبية في مهرجان "كان" كأول فيلم ألماني بعد الحرب العالمية الثانية. في سنوات الثمانينات يخرج غراس من دائرة السياسة الحزبية نحو الشأن العام. يتظاهر احتجاجاً على إعادة تسليح ألمانيا بالرؤوس النووية. يلقي الخطب. يحاضر. يتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون بلاده. له دائماً رأي، ورأي مسموع. كثيرون من أصدقائه ومنتقديه يعتبرون نشاطه السياسي مبالغاً فيه، وينصحونه بالعودة إلى مكتبه. لكن غراس لا يجد الكلمات: "نحن نحيا في عصر يمتلك مقدرة تدميرية لا تكفي لمحو الجنس البشري وحده، بل كل ما يزحف ويطير أيضاً". هذا الخطر الماثل يستدعي كتابة أخرى، كلمات لم يجدها بعد. عندما كان يمسك بالقلم، كانت تتراءى أمامه صور، تدفعه إلى البحث عن الريشة. يبدأ في رسم مجموعة من اللوحات محورها الجرذان، ومن هذه الرسوم يبدأ في التخطيط لروايته الجديدة بعد صمت أدبي دام 4 سنوات: "الجرذة"، وفيها يستلهم جو الصراع النووي، ويتخيل فناء العالم وخلوه من البشر. الجرذان تحكم العالم، وتسعد بهواء نظيف وبحار وأنهار لا تلوثها نفايات الإنسان. إلا أن رد الفعل النقدي على "الجرذة" دفعه إلى الانسحاب من الحياة الأدبية، بل من ألمانيا كلها والسفر إلى الهند لستة أشهر، بحثاً عن الراحة من "الوطن المُتعِب". إلا أن الهجوم النقدي الضاري يتكرر، بل ويزداد ضراوة مع روايته اللاحقة "مجال شاسع" 800 صفحة، التي يعبر فيها غراس عن آرائه المتعلقة بالوحدة الألمانية التي كان منذ البداية معارضاً لها، أو على الأقل لحدوثها بمثل هذه السرعة. ولكن عندما تصدر مجلة "دير شبيغل" المشهورة وعلى غلافها أكبر نقاد ألمانيا على شكل كلب يمزق بين أنيابه رواية "مجال شاسع" تخرج المعركة من دائرة الأدب والنقد إلى حيز التشهير والتجريح، وتغدو - وكما يقول أحد الصحافيين - شنقاً علنياً للأديب. المشاكس في صباح يوم 30 أيلول سبتمبر 1999 يتناول غراس الفطور مع زوجته آنه ويستعدان للسفر إلى هامبورغ. موعد عند طبيب الأسنان. جرس الهاتف يرن. يسأل زوجته ان ترد. من ملامح وجهها يستشف خبراً مهماً. يتناول السماعة منها ويسمع الخبر الذي ينتظره منذ عشرين عاماً. يلتفت إلى زوجته ويقول بلهجته الهادئة: "ولكن علينا أولاً السفر إلى هامبورغ". وعندما يقابله الصحافيون يقول لهم: "أنا أنتظر هذه الجائزة منذ عشرين عاماً. الانتظار حافظ على شبابي، والآن تبدأ الشيخوخة". لكن الشيخوخة الذهنية ما زالت بعيدة من غراس الذي بدأ - بعدما تجاوز السبعين - يتعلم من أحفاده كيفية البحث في الانترنت. ولم يتوقف هذا الشيخ عن الكتابة والرسم والنحت والحفر، وإثارة المعارك السياسية. بل ربما سيظل غراس مشاكساً حتى بعد الموت، كما يقول يورغس الذي يستشهد في نهاية كتابه بأبيات كتبها غراس تحت عنوان "زاد الطريق": "مع كيس ملئ بالمكسرات/ أود أن أُدفن/ بأسنان جديدة تماماً. وعندما يتصاعد ضجيجٌ/ من مرقدي/ فخمِّنوا/: إنه هو،/ ما زال".