الحادي عشر من أيلول سبتمبر... بغداد. كانت فترة بعد الظهر بالغة الهدوء، تبعث على الطمأنينة والملل، كالفترات المماثلة في صيف بغداد الحار، حيث تتراجع الحرارة في شوارع المدينة المكتظة، الى أدنى مستوى، ويكون الصمت سيد الموقف، حتى أذيع، عبر التلفزيون العراقي خبر التطورات في نيويورك... الهجوم على مبنيي مركز التجارة العالمية، فكانت هزة كبرى عكرت صفو الهدوء الطاغي، وبدا الأمر وكأن سهماً من التوتر والحيرة الشديدين، غطى بشظاياه أجواء السكون... دق جرس الهاتف في غرفتي في فندق "المنصور ميليا"، على شاطئ دجلة في بغداد، فكان رنينه غريباً ومفاجئاً في فترة الظهيرة الميتة. أبلغني صديقي الذي كنت قد فارقته قبل أقل من ساعة، بنبرة اندهاش: "ألا تتابع الأخبار؟"، قلت متعجباً: "ما الأمر؟"، رد "أدر جهاز التلفزيون... هناك حريق هائل في قلب نيويورك...". كانت محطة تلفزيون "الشباب" العراقية تبث لقطات مباشرة نقلاً عن محطة تلفزيون "الجزيرة"، للحريق الذي شب أولاً في أحد برجي مركز التجارة العالمية في نيويورك. ظننت للوهلة الأولى، ان الأمر مجرد حريق قد يندلع في أي مكان، وان كنت قد استهولت الحادث. لكن ما هي إلا دقائق حتى ظهر مشهد طائرة تصطدم بالبرج الثاني للمركز... وتوالت الأنباء عن هجمات أخرى، بالطائرات المخطوفة... بدوت وكأنني وحيد في مبنى الفندق الضخم، الذي كان هادئاً، على خلاف العادة، ربما لعدم وجود مؤتمرات أو نشاطات تضامنية رئيسة مع العراق. شعرت لأول وهلة ان في الأمر، ربما، نوعاً من الخدع السينمائية، ثم شعرت لوهلة وكأن الحرب العالمية الثالثة اندلعت... وأنا في بغداد، بعيداً من الأهل وبعيداً من الأنباء المتلاحقة في بيروت... نظرت من الشرفة الى الشوارع المقابلة، عند نهر دجلة، فبدت الحركة عادية، وان كنت تصورت ان الهدوء في ذلك اليوم الحار، أشد مما هو معتاد... ضاقت مساحة الغرفة بي، فارتديت ملابسي سريعاً وهبطت الى باحة الفندق مستعجلاً، وكأن زلزالاً حصل، تدفعني الرغبة الجارفة لمعرفة المزيد عما يجري. كان الشيء الوحيد المختلف ان الباحة في زاوية الفندق، حيث المقهى العربي وجهاز التلفزيون، استعادت الكثير من حركتها، إذ احتشد ما يربو على الثلاثين شخصاً ما بين نزلاء وموظفين في الفندق، فوق الأرائك، وعيونهم مسمرة على جهاز التلفزيون الصغير، بعضهم يرتشف الشاي العراقي والقهوة العربية، لكن الجميع في صمت ومن دون تعليقات تذكر. عندما انهار مبنيا مركز التجارة العالمية، وجرى الإعلان عن اقتحام طائرة ركاب لمبنى "البنتاغون"، قرب واشنطن، استمر الصمت... علامات واشارات التعجب والذهول، تكسو الوجوه، من دون كلام أو تعليقات تذكر، لا شيء سوى دعوات بين الفينة والفينة لفلان أو علان للجلوس في فسحة فارغة أو للاقتراب من الشاشة الصغيرة التي تصور مشاهد مذهلة من عالم آخر، منقولة عن محطتي الجزيرة "سي ان ان". لم يطرح أحد أسئلة، أو استنتاجات، لكن الواضح ان تياراً من القلق، انضم الى الشعور الطاغي بالحيرة. والى الرغبات الغامرة بالاستفسار عما يجري. فالعراق في نظر مواطنيه، مستهدف دائماً، وربما كان الحدث مناسبة سوداء تعرضه لتجارب أصعب من السابق. يقول صديق عراقي: "في ودنا ان نتعاطف مع المدنيين الذين سقطوا في الهجما في نيويوركوواشنطن، الا ان أحداً منهم لم يتعاطف معنا في مآسينا، عندما كنا وأطفالنا تحت القصف والدمار". ويقول ثالث: "لا نريد سوى السلام... عندما تؤمن أميركا بالعدل يتحقق السلام في العالم". ويتذكر رابع المأساة الحاصلة في فلسطين، من دون أن يتحرك العالم، بما يكفي لوقفها. مسؤول عراقي رفيع المستوى، يقول مساء الحادي عشر من أيلول، "ان ما جرى يظهر هشاشة الولاياتالمتحدة... فما تحصده الولاياتالمتحدة هو نتاج الظلم الكبير الذي زرعته في سياساتها الخارجية والداخلية وتزرعه..."، ويتساءل: "هل يمكن ان ينفذ مثل هذه الهجمات، إلا من هو على معرفة واسعة بالداخل الأميركي... ليس هناك أي جهة في المنطقة العربية، تملك الامكانات والمعلومات، بما يمكنها من تنفيذ مثل هذه الهجمات...". الحركة في شوارع بغداد الرئيسة، في ذلك المساء، خصوصاً في شارعي السعدون والعرصات الهندية، المكتظين بالسيارات والبائعين والمارة ورواد المقاهي، كانت عادية، كأي يوم، لكن شيئاً من القلق كان بادياً على وجوه الكثر ممن التقيتهم سواء أكانوا عراقيين أم عرباً يزورون العراق... والسؤال الأساسي كان، ما هو رد فعل أميركا؟ وما الذي سوف تفعله؟ يقول صديق لبناني: "يفترض الآن في الحكومة العراقية ان تبدي حزنها على سقوط الضحايا المدنيين، وان تعرض تقديم مساعدة انسانية لهؤلاء المدنيين..."، فيرد آخر مستهجناً بقوله: "لا وجود للعواطف في العلاقات العراقية - الأميركية". يقول صحافي عراقي: "أرجو ألا يكونوا أبلغوا الرئيس جورج بوش حتى الآن أن وحداتنا اسقطت طائرة استطلاع أميركية، من دون طيار، فوق منطقة الحظر اليوم...". الحدث الأميركي، كان في اليوم الأول على رأس اهتمام محطات الاذاعة والتلفزيون العراقية، كما هو الأمر في الغالبية العظمى من بلدان العالم، إلا انه كان الثاني من حيث الأهمية في تغطيات غالبية الصحف العراقية التي صدرت بعد الحدث. وبقيت تطورات وأحداث العراق في رأس الصفحات الأولى. الكثر من العراقيين، أبدوا تخوفاً من ان يكون العراق عرضة للانتقام، بصرف النظر، عمن هو فعلاً وراء الهجمات ضد نيويوركوواشنطن، لا شيء سوف يتغير... لقد خبرنا كل شيء...". في اليوم الأول للحدث الأميركي تزايد القلق عند البعض الى حد قول أحدهم: "هذه المرة، ستكون الضربات الأميركية أشد بكثير... أميركا تريد الحفاظ على هيبتها العالمية... وقد تستخدم أسلحة نووية... في الانتقام لما حصل في الحادي عشر من أيلول". استبعاد بغداد من موجة الاتهامات الأميركية الرسمية وغير الرسمية، حدَّ في الأيام التي تلت، من الترقب والقلق لدى عامة الناس في بغداد، وان كان الكثر اعتبروا ان واشنطن قد تظهر شراسة أكبر في التعامل مع مختلف قضايا سياساتها الخارجية، حتى التي لا علاقة لها بحدث الحادي عشر من أيلول. لا شيء تغير في صورة الحياة في بغداد على الصعيدين الرسمي والشعبي، واستمر المسؤولون في نشاطاتهم ولقاءاتهم المعتادة، بحسب ما ظهر في وسائل الإعلام. الاجراءات الحدودية كانت اعتيادية في طريق الإياب من بغداد، وان كان تغييراً ظهر في الجانب الأردني من الحدود، حيث ازدادت الأسئلة الأمنية... فالقلق موجود أيضاً في الأردن، الذي غالباً ما تطاله بشظاياها غالبية أنواع التطورات في المنطقة.