بعد عشر سنوات تقريباً قضاها الاعلامي محمد سعيد محفوظ أمام الكاميرا، معداً ومقدماً لأكثر البرامج التلفزيونية إثارة للجدل، قرر الابتعاد طوعاً عن الأضواء والتفرغ لدراساته العليا في مجال صناعة الأفلام في بريطانيا. وفي استراحته اللندنية أجرى محمد سعيد نقداً ذاتياً لمسيرته سينمائياً، فجاء فيلمه الأخير بعنوان «أي كلام»، الفائز بجائزة مهرجان «الجزيرة للأفلام الوثائقية» هذا العام، ليعبّر عن احتجاجه على المناخ السياسي والإعلامي في العالم العربي، ولكن بلغة رمزية، يوثق بها لحلم راوده تحت تأثير المخدر أثناء خضوعه لجراحة لإزالة ورم من رأسه، فإذا به يستعرض أخطاءه المهنية بشفافية، ويستنكر استغلال السلطة له ولزملائه، ويأسف لنظرة الجمهور للإعلام على أنه مادة للتسلية، ما دفعه لتصوير نفسه مرتدياً زي المهرج خلال تقديمه برنامجه الجاد في أحد مشاهد الفيلم! تحت تأثير المخدر، يذهب سعيد إلى ماضيه الثري بالأحداث، يواجه نفسه بحقائق تتعلق بنظرته للمهنة، واحترام الجمهور لها، ويحاسب نفسه على ترديد معلومات غير دقيقة، ساهمت، من وجهة نظره المتشددة، في غزو الولاياتالمتحدة العراق، ويستخلص في النهاية أن «الصحافيين لعبة تخدم السلطة وتسلي المشاهدين». تدور أحداث الفيلم بالكامل في عقل سعيد الذي يحقنه الطبيب بالمخدر فيستسلم لحال من الهذيان، يصرح خلالها بكل ما يدور في نفسه من أفكار وانطباعات عن حياته ونفسه وعمله. تبدأ القصة وتنتهي في غرفة العمليات، لتتحول على نحو ما إلى قاعة محاكمة، يقاضي فيها سعيد تاريخه وإنجازاته. يستدعي سعيد أحداثاً فاصلة في حياته. ولا شك في أن هجمات 11 أيلول (سبتمبر) كانت من أهمها. وفي ذلك الجزء من الفيلم، تنشطر الشاشة إلى نصفين، في أحدهما تعمّ الفوضى شوارع نيويورك بعد اصطدام الطائرتين بمركز التجارة العالمي، وفي الآخر يبدو سعيد في باريس وهو يسجل مقدمة لإحدى حلقاته التلفزيونية. وتوحي اللقطة ذات المشهدين بأن أحداثهما تجري في اللحظة ذاتها، وهو ما حدث في الواقع بالفعل، لكن انهيار البرجين يطغى، بصوته العنيف، على صوت سعيد الذي يختفي تدريجياً، ويبقى فمه يتحرك من دون أن نسمع منه كلمة واحدة، لنفهم أن ذلك الحادث، بكل تداعياته، قد هيمن على أجندة الإعلام، وألغى كل ما عداه من أولويات. وللمفارقة، فإن برنامج «مقص الرقيب» الذي كان يقدمه سعيد في «تلفزيون ابو ظبي» ومهمته الدفاع عن الحريات، أوقف بثه في أعقاب أحداث 11 أيلول (سبتمبر). وفي غرفة العمليات، يستعد فريق الأطباء لإجراء الجراحة، بعدما انتهى من تخدير سعيد كلياً وموضعياً، فيما يواصل سعيد حلمه العبثي ويستدعي مقاطع متفرقة من برامجه السابقة على مقطوعة موسيقية مقتبسة تحمل اسم «الوداع». وكان ذلك الجزء بمثابة استعراض زمني آخر لكنه حيّ هذه المرة، يكرس إحساسه بالمرارة نتيجة لمنع برنامجه. نصطدم في هذا الجزء من الفيلم بلقطات قد تؤذي مشاعر الجمهور، لمقص الطبيب يعبث في رأس سعيد، في محاولة لاقتلاع الورم من جذوره. ويقول سعيد أنه استعان ببعض هذه اللقطات «للتأكيد على الإسقاط الرمزي المحوري في الفيلم»، من خلال التشبيه بين استئصال الورم من رأسه، وتحرير الفكرة الحبيسة في عقله، وفي هذا الجزء يبدأ الورم في الخروج، متوازياً مع الفكرة التي تتضح وتتبلور شيئاً فشيئاً. واللافت في الفيلم مشهد الشطرنج، حيث نرى شخصين منهمكين في ممارسة لعبة الشطرنج، في جو من الغموض يؤكده الظلام المحيط. على رقعة الشطرنج التي يتأملها اللاعبان في قلق، نفاجأ بأشخاص حقيقيين بأحجام القطع الصغيرة ذاتها. ومن الأدوات التي يمسكون بها، نخمن بسهولة أنهم صحافيون يمارسون المهنة بفنونها المختلفة (التصوير الفوتوغرافي، التصوير التلفزيوني، الكتابة ...)، ولكن في حذر وترقب. فهم يتلفتون في كل اتجاه، وهو تماماً ما يجري في الواقع، حيث يعمل الصحافي في العالم الثالث على الدوام في إطار من الهواجس الأمنية والرقابية، وغالباً ما يهيمن عليه الخوف من العقاب إذا ما صرح بوجهة نظره. هذا ما يتجسد لبطل الفيلم سعيد في أحلامه، فهو يعتقد أن الصحافيين أدوات تستخدمها السلطة لتحقيق مآربها، وهي أزمة جديدة من أزمات سعيد في الفيلم، التي لا يستطيع التعبير عنها في يقظته، فتتسرب منه في منامه. لا أحد يتذكر الماضي بحذافيره، وإنما على النحو الذي فهمه ورآه به، ويسقط منه التفاصيل غير الضرورية. وهكذا استعاد بطلنا مشهداً مستقراً في ذاكرته، وقع له قبل نحو عامين ونصف عام على إنتاج الفيلم، عندما التقته صدفة إحدى السيدات التي كانت تتابع برامجه بإعجاب، وعبرت عن ذلك بقولها إن «برامج سعيد هي المادة الوحيدة للتسلية أثناء إعداد وجبة الغداء!». وبينما كانت السيدة العراقية التي تعيش في نيوزيلندا تقصد المديح استقبل سعيد إطراءها مصدوماً، فقد أدرك أن الناس الذين يدافع بحماسة عن حقوقهم يشاهدون أعماله كي يقتلوا فراغهم. وهنا قفزت إلى ذهنه صورته كمهرج، واستقرت لسنوات، حتى شاهدناها في هذا الفيلم، عندما فتح الأطباء رأس سعيد، وكشفوا عن خباياها. وعن الهروب في المشهد الأخير من الفيلم يقول سعيد: «كنت أشعر بأن لديّ تركة ثقيلة من الاضطرابات القيمية، لم أجد حلاً سوى التخلص منها، والهرب. لذا فقد وقفت لحظات أمام الكاميرا، أتأمل كل ما مضى من الفيلم - أو من حياتي - قبل أن أستدير بعزم، وأنطلق باتجاه قرص الشمس». الجديد في «أي كلام» أنه يوثق لانطباعات تدور في الخيال عن أحداث ومواقف حقيقية، ويرى سعيد أن «الانطباعات، وحتى الأحلام، هي جزء من الواقع، فالانطباعات هي قراءة للواقع، والأحلام انعكاس له، ومعرفة أحدهما أو كليهما يساعد في فهم الشخصية، من دون الحاجة إلى توجيه أسئلة مباشرة».