ما حققه دعاة تغيير النظام العراقي بالقوة العسكرية ينطوي على استبعاد اعادة تأهيل العراق في البيئة العربية والاسرة الدولية من المعادلة، وتقنين الخيار بين الحرب على الرئيس العراقي صدام حسين وبين التشدد في احتوائه وعزله اقليمياً ودولياً. فانهياره، حسب هؤلاء، سيتم حتماً ان لم يكن بتصفيته جسدياً، فبانهاكه ونظامه سيكولوجياً. بينهم من يتمنى ان يستخدم النظام العراقي الاسلحة الكيماوية او البيولوجية، بل ان يوجه صاروخاً من نوع "سكود" نحو اسرائيل لتزعم انه يحمل جراثيم بيولوجية حتى وان لم يكن يحملها، وذلك تبريراً لاطلاق سلاح نووي على العراق، انما بعيداً عن الآبار النفطية. فهؤلاء دعاة الكراهية القاطعة ليس فقط لصدام حسين، فهو ذريعة مستحبة، وانما للعرب ككل. وهم يريدون اعادة رسم الخريطة العربية جذرياً وعبر كارثة عليها. لذلك، حان للعرب التفكير بغير النمط التقليدي المعهود، وحان لهم اتخاذ مواقف واجراءات سياسية ومالية واعلامية تتعدى تعابير رفض الحرب على العراق، عليهم الآن فتح ملف اسلحة الدمار الشامل في كامل المنطقة بجرأة وتحدٍ، والا فهذه الاسلحة قد تفتك بشعوب المنطقة. صدام حسين بطش بالعراقيين واستخدم الاسلحة الكيماوية ضد شعبه وضد الايرانيين الذين بدورهم استخدموا السلاح الكيماوي ضد العراقيين. تحدى المجتمع الدولي وصنّع اسلحة الدمار الشامل المحظورة وغزا الكويت وأخفى المعلومات عن برامج التسلح حتى بعدما تعهد الكشف التام عنها. اتخذ القرارات الخاطئة وأساء قراءة العلاقات الدولية ولم يفهم جدية ما فعله نحو الكويت وجدية العزم الدولي على منعه من الاحتفاظ بها. وضع النظام فوق البلاد، واستخدم الشعب العراقي لغاياته السلطوية وتعمّد كسر ظهر هذا الشعب فمحى، بمساعدة العقوبات، الطبقة الوسطى. راهن على الشارع العربي من اجل طموحاته الانانية واستعدى بيئته المباشرة وغطس في عزلة مريضة. هذه السيرة لا تجعل صدام حسين اكثر خطورة من ارييل شارون، الابن المدلل لدى زمرة الداعين الى القضاء على صدام حسين وفي بالهم تمجيد ارييل شارون وتنفيذ غاياته. فشارون ارتكب المجازر واشرف على بعضها من دون تمييز بين اطفال ونساء وبين مقاتلين. غزا لبنان وعزز الاحتلال المدني عبر المستوطنات في الضفة الغربية واعتمد سياسة الاغتيالات وانتهك كل قانون انساني او دولي معني بحماية المدنيين في اوقات الحرب. جوّع الفلسطينيين وحاصرهم وانزل بهم العقاب الجماعي وطرد عائلات وهو يعتمد الآن سياسة الانهاك الجسدي والسيكولوجي للفلسطينيين كي يشردوا من بلادهم ليتحقق له حلم الاردن كوطن بديل للفلسطينيين. وان لم يشردوا فهو عازم على تشريدهم ولن يتردد في استخدام اي وسائل وادوات. فلماذا يوثق بهذا الرجل المعروف بكنية "الجرافة"، والذي له سجل حافل وواضح بارتكاب المجازر وبالبطش ان يمتلك السلاح النووي باعفاء كامل من الشفافية والضمانات؟ اميركا، عندما وجدت مصلحتها الوطنية مهددة، استخدمت السلاح النووي ورمت قنبلتها على هيروشيما، بلا تمييز بين مدنيين او مسؤولين، بين رجال واطفال. واميركا دولة مسؤولة فيها دستور يضمن عدم تسلط الديكتاتورية مع الكثير من الشفافية والمحاسبة. اليوم، تعاقب اميركا الفلسطينيين كافة على العمليات الانتحارية وتعتبرها ارهاباً صرفاً فيما تمكّن القوة القائمة بالاحتلال من العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني المحتل، وهذا يتنافى مع القانون الدولي، فليست اسرائيل وحدها من يمارس العقاب الجماعي. ان هذه الادارة تمارس العقاب ضد الفلسطينيين. الرئيس جورج بوش قال قبل ان يستولي على ذهنه تيار التطرف، ان الاحتلال يجب ان يزول، الآن يستخدم وزير دفاعه دونالد رامسفيلد تعبير "ما يُدّعى انه احتلال". بالامس، وقبل ان يطير صواب الادارة الاميركية المتمثلة برئيسها، قال بوش ان اميركا ملتزمة رؤية قيام دولتين، فلسطين واسرائيل. اليوم، تجرف اسرائيل الفلسطينيين احياء كما فعلت في جنين وتقوّض كل اساس لقيام الدولة الفلسطينية. والمهم الا يُسمّى ذلك "مذبحة" وان يحلل كل شيء باسم الامن. بالامس، انصب اهتمام الولاياتالمتحدة ادارة ورأياً عاماً واعلاماً على ما يحدث في الساحة الفلسطينية الاسرائيلية. اليوم، كل الاهتمام ينصب على ما اذا كانت الولاياتالمتحدة ستشن حرباً على العراق. وهذا ليس من قبيل الصدفة. فأحد اهداف دعاة الحرب على العراق هو تحويل الانظار عما يقوم به شارون، كي يفلح به، وبهذا نجح حقاً المحافظون الجدد الذين ينطلقون اصلاً من معادلة "اسرائيل اولاً" على كل حساب. هؤلاء يقومون بحملة مدروسة ومنظمة وفائقة النفوذ وهم من اصحاب النفوذ في الادارة الاميركية والاعلام. ان يُشتموا وان يكتب عنهم في الاعلام العربي بغضب واحتجاج، فلا جدوى من ذلك. ان يُعتبروا في حسابات القيادات العربية هامشيين يستحقون فقط الاهمال، فهذا غير واقعي بل يشبه دفن الرؤوس في الرمال. انهم يعملون ضمن آلية متفوقة تفهم السياسة والتأثير في الرأي العام والنفوذ مع ذوي السلطة وفي اقتناعهم ان ما يرسمونه من سياسة سيُنفّذ بصبر ومثابرة واصرار. لا توجد آلية مماثلة تمثل المصالح العربية في اميركا، كما هذه الآلية العاملة من اجل مصلحة اسرائيل. توجد محاولات فردية هنا وهناك، تستحق التقدير والتشجيع. انما، ليس هناك ميكانيزم لمواجهة هذه الآلية الفاعلة. وفي معظم الاحيان، تكون الطروحات العربية دفاعية في احسن الاحوال. فالايدي مقيدة بسبب التشرذم العربي والانقسام الجذري في شأن مثل العمليات الانتحارية ومثل العراق. الساحة العربية، بقياداتها واعلامها وشعوبها تلهث وراء التعرف الى ما في ذهن اميركا، قيادة واعلاماً وشعباً، ومعظمها في حال تنظير او قلق، شتيمة او استياء، استسلام او تسليم بالحاضر والمستقبل. الساحة الدولية ايضاً تتلهف للتعرف الى ما في ذهن الادارة الاميركية نحو العراق. حديث الاممالمتحدة ينطلق من وينتهي مع التساؤل "متى" ستتوجه اميركا عسكرياً نحو العراق، بعدما كان سؤال الامس القريب "هل" ستحسم اميركا عسكرياً او ديبلوماسياً في العراق. والساحة الاميركية بدورها منقسمة، ليس في ناحية تأييد اطاحة نظام صدام حسين، فعلى ذلك اجماع. الانقسام هو حول خوض اميركا الحرب بمفردها، وان كانت هذه الحرب ستكلف اميركا ارواح جنودها كما مالياً، وما اذا كان العراق يشكل حقاً تهديداً مباشراً لاميركا من ناحية تورطه في الارهاب. الفارق بين الساحتين العربية والاميركية ان الاميركيين على اقتناع بأن العراق يمتلك اسلحة الدمار الشامل المحظورة ويجب تجريده منها كلياً، فيما العرب منقسمون الى حكومات توافق على ذلك وشعوب تشير الى امتلاك اسرائيل هذه الاسلحة بموافقة اميركا وباعفاء من المحاسبة. معظم الحكومات الاوروبية والعربية يرى ان افضل سبيل للتأكد من تجريد العراق من اسلحة الدمار الشامل هو عودة المفتشين، وعليه فانه يشجع الخيار الديبلوماسي على الخيار العسكري. الادارة الاميركية منقسمة بين من يتبنى هذا المنطق وبين من يعارضه على اساس ان النظام العراقي لن يتعاون مع المفتشين، ولن يسمح لهم بالتصرف بحرية، وهو اساساً سيراوغ من اجل الاحتفاظ ببرامج الاسلحة وبالعلماء العراقيين لاحياء قدرات تصنيعها لاحقاً. القاسم المشترك داخل الادارة الاميركية، بالمعتدلين والمتطرفين فيها، ينطوي على الاسس الآتية في السياسة الاميركية: اولاً: اذا وافقت بغداد على عودة المفتشين، فهذه نقطة انطلاق وليست محطة وصول. بالتالي فإنها خطوة ضرورية انما ليست نهائية. فالمطلوب ليس عودة المفتشين فقط، وانما التحقق من خلو العراق من اي قدرات، برامج او علماء، مع نصب رقابة دائمة تضمن ذلك على المدى البعيد. نائب الرئيس ديك تشيني اوضح "ثانوية" المفتشين وعملهم وهو بذلك عزّز الانطباع بأن الادارة الاميركية لا تريد في واقع الامر وحقاً، عودة المفتشين الى العراق. وثانياً، ان الادارة الاميركية بشقيها المعتدل والمتطرف، لن توافق ابداً على رفع العقوبات عن العراق، مهما فعل النظام العراقي. قد تتغير الامور لاحقاً، اذا تم التأكد من خلو العراق من الاسلحة المحظورة. اما الآن فليس هناك اي استعداد كان للاعلان عن نية تخفيف العقوبات، مهما فعل العراق، طالما ان صدام حسين في السلطة. فالسياسة الاميركية هي "تغيير النظام" وأحد وسائلها في اطار سياسة الاحتواء، هو منع وصول العائدات النفطية الى ايادي السلطة العراقية. وعليه، فإن مجلس الامن، بروسيا والصين وفرنسا، يقدم لبغداد الآن معادلة بسيطة لا علاقة لها بالقرارات وهي اما مواجهة الحرب، او الموافقة على عودة المفتشين بلا مقابل ولا مكافأة ولا نقاش. بعد ذلك يمكن الحديث، اما الآن فلا مجال. لذلك، دعم مجلس الامن بصورة غير مباشرة قرار الرئيس التنفيذي للجنة الرصد والتحقق والتفتيش انموفيك هانز بليكس بعدم تلبية دعوة وزير الخارجية العراقي ناجي صبري للتوجه الى بغداد والبحث في متطلبات عودة المفتشين. تبنى بليكس، منذ تسلمه مهماته، موقفاً متشدداً قام على اذعان العراق لقرارات مجلس الامن خصوصاً 1284، بلا نقاش او شرح او مقايضة. وهو أوصد الباب، منذ البداية، امام اي نقاش سياسي. امام كل هذه المعطيات، ماذا امام العراق، وماذا امام الساحة العربية عامة؟ قد تعتقد الحكومة العراقية ان النقاش والانقسام داخل الولاياتالمتحدة ومع اوروبا والمنطقة العربية هما لصالحها اذ انهما سيؤديان الى التخلي عن الخيار العسكري. اذا اعتقدت ذلك، فإنها في منتهى الخطأ. فالى حد ما، ان ما يقدمه مجلس الامن لها من خيارين بين الحرب وبين التنفيذ بلا مساومة او مكافأة هو الخيار الواقعي، مهما انحاز المجلس بعيداً عما تنطوي عليه قراراته. وعلى بغداد ان تدرك ان صداقات الامس التي تمثلت في روسيا والصين وفرنسا ليست ابداً صداقات اليوم. فالزمن انقلب، والمصالح تطلبت اعادة النظر، ثم ان بغداد اساءت حقاً استثمار الفرص برغم المحاولات. فالعتب عليها واضح. اليوم لم تعد عودة المفتشين ورقة لدى بغداد، واذا ادركت بغداد مصلحة العراق، فعليها المبادرة الى فتح الابواب امام عمليات تفتيش بشفافية مهما كانت قسرية بلا شروط ولا عراقيل ولا مساومات ولا مكافآت. وهكذا فقط يمكنها تجنب الحرب المدمرة. عربياً يجدر التفكير ضمن اطار الحرب على العراق واستناداً الى غايات الدعاة لها. هذه الغايات، بشقها الاسرائيلي النووي كما بالشق المتعلق باعادة رسم الخريطة العراقية للاستيلاء على حقول النفط والاموال السعودية في الولاياتالمتحدة تتطلب استراتيجية اقل تقليدية. استراتيجية غير خجولة ومترددة تخرج من نطاق تلبية المطالب او التماس المعذرة. على القيادات العربية ان تطالب الادارة الاميركية بضمانات علنية بعدم استخدام اسرائيل اسلحتها النووية او الكيماوية او البيولوجية، والا. تلك ال"وإلا" ستكون فارغة ما لم تُستَخدم ادوات النفط والمال. فبدلاً من تهديد زمرة المتطرفين من المحافظين الجدد بالاستيلاء على حقول النفط والاموال في اميركا التي تبلغ 700 بليون دولار، يجب اتخاذ الاستعدادات لسحب هذه الاموال - الامر الذي يضرب عصب الاقتصاد الاميركي في صميمه - وسحب الشراكة الحربية في افغانستان - الامر الذي يوقظ هذه الزمرة الى مساهمة العرب فيها واستخدام شركات النفط شريكاً جدياً وليس مجرد مستفيد ومفيد لغايات مالية حصراً. عندئذ، تؤخذ مواقف عربية بجدية فلا لزوم للانتظار حتى التئام العرب في استراتيجية منسقة متماسكة قائمة على التضامن فهذا حلم فات عهده. ان المسألة اليوم مسألة بقاء. بقاء حكومات وبقاء شعوب. وقد تكون الحرب سيكولوجية ليس على النظام في العراق وحده بل على انظمة عربية اخرى. وقد تكون الخطط حقيقية. المهم الا تسقط شعوب المنطقة ضحية مهاترات او اعتذارات او مؤاخذات. ان هجوم المحافظين الجدد يتطلب هجوماً مضاداً من نوعه. هكذا فقط يمكن وقف هذا التيار المرعب. والمرعب فيه انه ليس مجرد ايديولوجية ونظريات. انه قيد التنفيذ. وهذا يتطلب اجراءات.