تراهن الإدارة الأميركية على رفض الحكومة العراقية عودة المفتشين الدوليين إلى العراق بلا شروط وقيود، وكخطوة مستقلة تسبق النظر في تعليق العقوبات ثم رفعها. كما تراهن على تعطيل بغداد مهمات المفتشين حتى وإذا رضخت أمام حتمية عودتهم. ثقة الإدارة بهذا الرهان تجعلها عازمة وحازمة في السعي إلى إحداث تغيير في النظام، الأرجح بشبه اجماع دولي، مهما تعالت أصوات التحفظ في أوساط عربية. أمام وضوح معالم مواقف الحكومة العراقية والإدارة الأميركية، لا بد للساحة العربية، الرسمية والشعبية بشقي النخبة والشارع، أن تجيب عن سؤال رئيسي: لأيهما الأولوية، العراق أو النظام؟ الرئيس العراقي قرر أن النظام هو العراق، والعراق هو النظام. هناك من يعتقد أن صدام حسين قايض العراق من أجل النظام. وهناك من يصر على اعتبار مجرد طرح السؤال خيانة وطنية عربياً. وفي كل الأحوال، ان المسألة لم تعد نظرية، وعلى الساحة العربية أن تقرر إن كانت مصرة على انقاذ النظام أو العراق. كثيراً ما يضيع العراق كبلد في المعركة بين الحكومتين الأميركية والعراقية والتي زادت على عقد ومرّت بأكثر من عقيدة، من المواجهة إلى الاحتواء، من هزيمة في حرب إلى انتصار في بقاء نظام. وكثيراً ما يرتبط العراق كبلد مع العراق كنظام في ذهن شطر من الرأي العام العربي ينظر إلى العداء الأميركي للعراق على أنه عداء للشعب العراقي وللعراق كبلد. هناك اعتقاد راسخ لدى بعضهم بأن الغاية الأميركية أساساً هي تدجين العراق وكفاءاته ومقوماته وموارده الطبيعية. جزء منهم ينظر إلى صدام حسين على أنه العائق أمام استكمال هذه الغاية، وصمام الأمان للعراق. جزء آخر يعتبره شريكاً في تنفيذها اما تعمداً وإما اضطراراً لأنه وضع النظام قبل العراق. آخرون يعتبرون موضوع العراق بأكمله حلقة في قرارات استراتيجية أميركية نحو الخليج بكامله، فكان لا بد من اختراع التهديد الآتي من العراق وتحويل صدام إلى شيطان وبعبع المنطقة. وحسب هذا البعض، كان لا بد من بقاء صدام حسين في السلطة، بقرار أميركي، بصرف النظر عن مزاعم الرغبة في التخلص منه ومن نظامه. ثم هناك من يلوم الرئيس العراقي وحده بسبب غزوه الكويت أولاً، ثم بسبب مغالاته وترفعه عن حلول واقعية مرّت به غير مرة. يلومه على غطرسته حتى وهو قابع في عقلية الحصار وفي حصار فرضه على نفسه كما على شعب العراق. بين اعجاب بعضهم بشخصية الرئيس العراقي الرافضة والصامدة، وكراهية آخرين لهذه الشخصية لما يرتبط بها من اضطهاد وقمع، ضاع شعب العراق. فالذين يحمّلون أميركا وحدها مسؤولية تجويعه عبر حصار وعقوبات لا سابقة لها لا يسألون ان كان يعاني من اضطهاد حكومته وقمعها. والذين يعادون الحكومة العراقية لما فعلته نحو جيرتها ويعتبرونها وحدها المسؤولة عن معاناة شعبها، لا يحسنون أكثر من النفاق في التعاطف مع هذا الشعب. تلك الحال دامت سنوات عديدة، لكن الأمر الآن يتطلب أكثر من المواربة والاعتذار، ذلك ان العراق على مفترق. القرار الأميركي واضح وجلي وهو القضاء على النظام العراقي بكامل بنيته التحتية. هذا لا يعني أن أميركا ستشن عمليات عسكرية على العراق في غضون أسابيع وان لديها خطة عسكرية متكاملة في هذا المنعطف. فعلى رغم الاجماع داخل الإدارة، وبدعم ساحق من الكونغرس والرأي العام على ضرورة التخلص من صدام حسين، تختلف النظريات حول وسائل تحقيق الغاية وتوقيتها. ظاهرياً، تبدو الإدارة بأنها تطالب بتنفيذ قرارات مجلس الأمن لا سيما باصرارها على عودة المفتشين للتأكد من خلاص العراق من أسلحة الدمار الشامل وبرامجها المحظورة. فعلياً، إعلانها العزم على التخلص من النظام العراقي يتنافى مع سكة القرارات الدولية. هذا إضافة إلى التملص من كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تعليق العقوبات أو رفعها في مقابل تعاون العراق. بغداد سهّلت على واشنطن هذا التملص بسبب رفضها التعامل مع القرار 1284 الذي وضع شروط وظروف تعليق العقوبات ثم رفعها بتزامن وترابط مع عودة المفتشين. استمرت في هذا الرفض نحو سنتين، فيما تباهت بكسر طوق الحظر وتقويض العقوبات. تصرفت ببالغ الثقة وافترضت أنها انتصرت ليس فقط على الولاياتالمتحدة، وإنما على مجلس الأمن بكامله من خلال منع عودة المفتشين والالتفاف على العقوبات. وهذا ما جعل إدارة جورج دبليو بوش تتخذ قراراً يختلف جذرياً عما تبنته الإدارة في عهد بيل كلينتون يقوم على رفض استمرار الوضع الراهن. إدارة كلينتون تعايشت مع الوضع في العراق ورضخت تحت ظروفه. إدارة بوش تبنت سياسة منع استمرار الوضع الراهن في العراق، بنظامه وباستفادته من الالتفاف على العقوبات ومن بقاء المفتشين خارج العراق. قررت اغلاق هامش المناورة وسحب "الجزرة" في معادلة الترغيب بالتعاون والمكافأة عليه. العناوين الرئيسية في الشق الديبلوماسي من استراتيجيتها تشمل عودة المفتشين، وتشديد أواصر العقوبات لنسف استفادة النظام منها، ومنع وصول أموال العائدات النفطية إلى حكومة العراق. وتعمل إدارة بوش مع أعضاء مجلس الأمن من أجل حشد الاجماع وراء هذه المطالب. فرنسا أصبحت أكثر تشدداً في ابتعادها عن العراق وتوافق الولاياتالمتحدة على هز "العصا" في وجه بغداد وتهيئة الأرضية الدولية لاجماع ضدها. وروسيا تزداد ابتعاداً عن الحكومة العراقية وتتواهن في اصرارها على ربط عودة المفتشين بتعليق العقوبات. والصين لا تضع علاقتها مع العراق في صدارة أولوياتها. وبريطانيا جاهزة كعادتها للشراكة مع الولاياتالمتحدة على رغم تمسكها رسمياً بالقرارات الدولية حصراً من دون اقحام ازالة النظام العراقي فيها. فإذا كان في ذهن الحكومة العراقية التفاوض مع مجلس الأمن، عبر أحد أعضائه أو عبر الحوار مع الأمين العام للأمم المتحدة، على عودة المفتشين بشروط وقيود لها علاقة اما بحرية حركتهم وإما بارتباط العودة بتعليق العقوبات أو رفعها، ستجد أن الأبواب مغلقة في وجهها. فالخيار الوحيد أمامها الآن هو الموافقة غير المشروطة على عودة المفتشين إلى أي موقع يريدونه في العراق، ولو كان قصور الرئاسة بلا استثناء. والقراءة الأميركية لمواقف الحكومة العراقية أنها لن توافق، مما يبرر تفعيل الشق العسكري من استراتيجية الإدارة أمام الرأي العام العالمي، والعربي في شكل خاص. المعركة على الرأي العام، من وجهة نظر بغداد، ستكون لمصلحتها لا سيما أمام رفض واشنطن ربط عودة المفتشين بتعليق العقوبات أو رفعها وتجاوز أميركا قرارات مجلس الأمن. وشطر مهم من الحملة العراقية سيصب في خانة موازين القوى في المنطقة، تحديداً اعفاء إسرائيل من المحاسبة على اقتنائها أسلحة الدمار الشامل، فيما الحرب تُشن على العراق لأن في حوزته "برامج" أسلحة دمار شامل قد يكون في المستطاع احياؤها. القاسم المشترك في ذهن الإدارة الأميركية والحكومة العراقية هو تقليص العراق إلى نظام. فكلاهما ينظر إلى العراق عبر رجل اسمه صدام حسين بارتهان لأكثر من عشرين مليون عراقي. وهكذا يفعل أيضاً قطاع كبير من الرأي العام العربي، النخبوي والشعبي. هذا القطاع أسدل الستار على وضع الشعب العراقي بغرقه في معارك رجال السلطة في واشنطنوبغداد. صادق على منع المواطن العراقي من حق اختيار حكومته وحكم عليه بالرضوخ. لام أميركا وحدها وأعفى حكومة العراق من كل مسؤولية عما لحق بشعبها من مأساة. رفع شعار العروبة والوطنية وتناسى ما يأتي به القهر والبؤس والاستبداد. كذلك فعل قطاع كبير من الرأي العام الأميركي في الاتجاه المعاكس. تغاضى عن سياسة أميركية فاشلة عاقبت شعب العراق ودمرت نسيجه الاجتماعي وبنيته التحتية. وقع في مصيدة "شيطنة" صدام لتخدم غايات سياسية وقفز على كل الاعتبارات الاخلاقية نحو الشعب العراقي. هذا الشعب القابع في عزلة تامة وتحت الحصار، لا أحد يسأله رأيه في شأن مصيره وخياراته. كثيرون نصّبوا أنفسهم متحدثاً باسمه وخلعوا عنه حق المشاركة في التعبير والقرار. الآن وقد بدأ العد العكسي لمعركة حاسمة في شأن بقاء النظام العراقي أو زواله، بافرازات غير معروفة على العراق وجيرته، لربما حان الوقت لمساهمة عربية مختلفة نوعياً عن النمط المعهود. فلن يفيد العراق وشعبه الاكتفاء بالصراخ ضد عمليات عسكرية أميركية لتغيير النظام. فالعراق أهم من أي نظام. والفارق كبير بين الدفاع عنه وبين الدفاع عن نظامه، بين سيادة العراق وسيادة النظام. وإذا قُدِر لمساهمة عربية أن تكون في مصلحة العراق، لا بد لها من مطالبة حكومته بتغيير جذري في فكرها ونهجها بما يقارب الانقلاب. هذا التغيير يتطلب اجراءات تتعدى الامتثال التام لقرارات مجلس الأمن واثبات الصدق الكامل في تحويل العراق إلى قوة مدنية خالية كلياً من برامج أسلحة الدمار الشامل. يتطلب خطاباً سياسياً نحو البيئة الاقليمية جديداً في فحواه، مع وقف المزايدة على قضايا الآخرين مثل القضية الفلسطينية التي لها أهلها وأصحابها. يتطلب أساساً وقف ارتهان الشعب العراقي واعطاءه حق المشاركة السياسية في مصيره مع الاقرار بحق المعارضة في العمل داخل العراق. إذا تبنت الحكومة العراقية هذه المواقف ستحبط الغايات العسكرية الأميركية وتنقذ العراق. والأرجح أنها لن تفعل ذلك لا سيما إذا استمرت القاعدة الشعبية العربية في الايحاء لها بأنها ليست مطالبة بمثل هذا التغيير. وهنا تكمن المسؤولية العربية. فما لم يقرر الرأي العام العربي أن عليه ابلاغ رسالة إلى بغداد وليس فقط إلى واشنطن، سيساهم من دون قصد في ترجيح كفة الحرب والعمليات العسكرية في العراق. ذلك أن الحكومة العراقية ما زالت تراهن على الشارع العربي لينهض ضد حكوماته ويأخذ من صدام نموذج القائد إلى خلاص المنطقة... أو هلاكها. معظم النخبة يحرّض ويركب موجة العداء للولايات المتحدة وطموحاتها العسكرية، معفياً بغداد، ما يؤدي إلى تضليل الحكومة العراقية. إن معارضة العمليات العسكرية الأميركية في العراق تستوجب مطالبة حكومته بسحب ذرائع هذه العمليات واحباط الرهان الأميركي على مواقف بغداد. وزير الخارجية الأميركي كولن باول، ضم صوته هذا الأسبوع إلى صوت المتشددين في الإدارة فأغلق حلقة الاجماع على إطاحة النظام في العراق. وحرص على التمييز بين العراقوإيران كقطبين في "محور الشر"، فحجب أي احتمال للحوار مع العراق وعرضه بحماسة على إيران وكوريا الشمالية، في محاولة واضحة لقطع الطريق على تقارب عراقي - إيراني رداً على "محور الشر". نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني سيمهد الأرضية السياسية في جولته على المنطقة الشهر المقبل، فيما الاستعدادات العسكرية تُتخذ تدريجاً. حتى الآن لا مؤشر إلى اطلاق العمليات العسكرية قبل الصيف، إلا إذا قررت بغداد استفزاز واشنطن قبل استكمال استعداداتها العسكرية. ويمكن الحكومة العراقية استخدام الفسحة الزمنية الضيقة لإنقاذ العراق، لكن خياراتها محدودة، تنحصر في تنازلها عن السلطة أو في انقلاب جذري على نهجها وفكرها. لذلك يبقى السؤال: لأيهما الأولوية للعراق أو للنظام، فائق الأهمية.