Gژrard Mendel. Une Histoire de L'Autoritژ. تاريخ للسلطة. La Dژcouverte, Paris. 2002. 284 Pages. جيرار ماندل واحد من قلة من المفكرين الفرنسيين المعاصرين من أصحاب الرؤى الكبيرة. فهو يجمع بين مناهج ثلاثة: التحليل النفسي والانثروبولوجيا وعلم الاجتماع السياسي، فضلاً عن نزعة عقلانية جذرية يزيدها تشدداً في الانتصار لسلطة العقل إدراكاً بأن اللاشعور البشري هو خزان كبير للامعقول. وقد فرض جيرار ماندل نفسه في ساحة الفكر الفرنسي، بل العالمي، مع كتابه "التمرد ضد الأب" الذي تواقت صدوره مع ثورة الطلبة الأوروبيين عام 1968 والذي ترجم إلى أكثر من عشرين لغة خلا العربية. كتابه الجديد، الذي يقترح فيه قراءة "مختلفة" لتاريخ السلطة، هو بنوع ما استمرار لأطروحته المركزية في "التمرد ضد الأب". ولكن مع هذا الفارق: فموضوع التمرد ههنا ليس الأب بذاته، بل وظيفته ولازمته الأساسية: السلطة. فكل سلطة هي بالضرورة أبوية، وهذا حتى في الثقافات التي قتلت الأب، أو في الأديان التي استبدلت الأب الذي في الأرض بالأب الذي في السماء. انطلاقاً من واقعة التمرد هذه على السلطة الأبوية يؤكد جيرار ماندل أن البشرية عرفت خمس حداثات، لا حداثة واحدة. فما دامت الحداثة قابلة للتعريف بأنها "القطع مع التراث"، وما دام التراث في مضمونه الايديولوجي والديني والسياسي والنفسي على حد سواء هو تراث الاب، فإن لحظة القطع هذه لا يموضعها ماندل - كما درجت العادة - في عصر النهضة، أي عصر اختراع المطبعة واكتشاف أميركا والثورة الكوبرنيكية، والاصلاح الديني، بل يعود بها ألفي سنة إلى الوراء ليموضع زمن الحداثة الأولى في اثينا في القرن الخامس قبل الميلاد. لماذا؟ لأن دستور اثينا، كما وضعه حاكمها اقلستانس سنة 506 ق.م، أرسى اللبنة الأولى للديموقراطية في تاريخ البشرية. فضداً على تقليد العائلية السياسية وسلطة الأسر العشائرية الكبيرة، أعطى أقلستانس حق الانتخاب للفرد بما هو كذلك، بصرف النظر عن موقعه الاجتماعي أو مهنته أو نفوذ أسرته. فبدلاً من رابطة جماعية واجماعية مؤسسة على علاقة النسب والانتماء العائلي والقبلي، تحولت أثينا، بعد تقسيمها إلى مئة "دائرة" انتخابية، إلى "مجتمع" يشكّله أفراد لا تنتظمهم من رابطة أخرى سوى "المواطنة"، أي الانتماء إلى المدينة. ولكن لحظة الحداثة الأولى هذه لم يقيّض لها أن تعمّر طويلاً. فخلافاً لما هو شائع في الاعتقاد، فإن الديموقراطية الاثينية لم تعرف عصرها الذهبي مع بيركليس الذي حكم بين 454 و430 ق.م، والذي جدّد "انتخابه" خمس عشرة مرة على التوالي. ففي عهده تحولت أثينا نحو "الامبريالية"، فحلت محل النزعة الفردية الوليدة رابطة جماعية واجماعية جديدة هي العصبية الاثينية المؤسسة على علاقة عداء وحرب مع سائر المدن اليونانية الأخرى. لحطة الحداثة السياسية الثانية مثلتها الجمهورية الرومانية. فالانجاز الكبير لهذه الجمهورية، كما كانت أوضحت حنة آرنت، هو تأسيسها ل"سلطة معلمنة". فالرومان كانوا ذرائعيين ودنيويين حتى في تعاملهم مع آلهتهم التي أنزلوها إلى الأرض ووظفوها في خدمة الدولة. وفضلاً عن ذلك، كانوا سباقين إلى تقسيم السلطة السياسية، وبالتالي نزع الطابع المطلق عنها، باختراعهم نظام مجلس الشيوخ والقناصلة وفكرة مساواة المواطنين أمام القانون ووضع "الفضيلة المدنية" في رأس الفضائل وسلّم القيم. ولكن ههنا أيضاً لم يقيض للحظة الحداثة السياسية الثانية هذه أن تعمر طويلاً. فحروب الفتح وتكاثر المستعمرات وتعاظم أعداد الأرقاء والحروب الأهلية، وصراعات القادة العسكريين على السلطة، فضلاً عن ضغط قبائل البرابرة على الحدود، كل ذلك أدى في عام 29 ق.م إلى سقوط الجمهورية وتحول روما إلى امبراطورية يحكمها أباطرة مؤلهون ووراثيون ودمويون في آن معاً من أمثال نيرون وكاليغولا. أما لحظة الحداثة الثالثة فلا ترتبط بتطور سياسي، ولا بظهور تاريخي لدولة جديدة، ولا حتى بتيار ايديولوجي أو فكري جديد. وانما تتمحور حول شخص مفرد، هو القديس اوغسطينوس، وحول كتاب مفرد من كتبه هو "الاعترافات". فأشهر آباء الكنيسة اللاتينية هذا، الذي هو من أصل شمال - افريقي، أدخل، من خلال اعترافاته الشخصية، مفهوماً جديداً على الفكر البشري هو مفهوم "الأنا". وصحيح ان اوغسطينوس عاش في زمن انتصار المسيحية وتحولها الى دين دولة 345 - 430، ولكن قراءته الشخصية للكتاب المقدس كانت قراءة داخلية في المقام الأول، وقائمة على "فحص الضمير". ومع اوغسطينوس تحول علم النفس، الموروث عن افلاطون وارسطو، من علم موضوعي ولاشخصي الى علم ذاتي واستبطاني. فالفرد قد غدا سيد مملكته الذاتية، وقبل سلطة الدولة وسلطة الكنيسة، فإن ضميره الشخصي هو محكمته. ومن خلال بلورة مفهوم "الأنا" ووعي الذات سجل اوغسطينوس سبقاً بمقدار ألف سنة على الحداثة الأوروبية. ولكن هذا السبق، بحكم سبقه المبكر تحديداً، بقي بلا غد. وكان لا بد من انتظار لحظة الحداثة الرابعة في عصر النهضة الأوروبي كيما يعاود الاستيقاظ. فما كان صنيع فرد مفرد في القرن الخامس تحول الى ظاهرة عامة في مفصل القرن الخامس عشر/ السادس عشر. فالنهضة الأوروبية انطلقت في اساسها من تفرد الفرد. بل ان عالم الاجتماع الالماني جورج سيمل لم يتردد في ان يرد النهضة بأسرها الى "أزمة اللباس" في فلورنسا في أواخر القرن الخامس عشر. ففي تلك الأيام طغت الفردية الى درجة انتفى معها الزي الموحد الموروث عن القرون الوسطى، وصار الرجال - وليس فقط النساء - أحراراً في أن يرتدوا ما شاؤوا من الثياب. ولكن لم يكن اللباس وحده هو مظهر التعبير عن القطع مع التقليد. فالمطبعة التي كان اكتشفها غوتنبرغ قبل قرن واحد أحدثت تحولاً جذرياً في فعل القراءة، ولا سيما قراءة الكتاب المقدس. ففي طريق تعميم الكتاب غدا الفرد حراً في ان يقرأ النصوص المقدسة ويفسرها بصورة شخصية من دون المرور بوساطة الكاهن والسلطة الكنسية والمرجعية التراثية. وكان تحرير فعل القراءة هذا هو المقدمة الكبرى لحركة الاصلاح الديني التي قادها لوثر والتي استهدفت السلطة البابوية من حيث هي سلطة فوقية ولاشخصية. وقد ترافق هذا التحول في المضمار العقلي باكتشاف القارة الاميركية الذي أتاح لمئات الآلاف ثم للملايين من المهاجرين الأوروبيين ان يقطعوا حبال موروثهم وان يؤسسوا لأنفسهم في العالم الجديد عالماً من صنع أيديهم وان ينظموه وفق قوانين هي بدورها من ابتكارهم. فليس من موضع هزمت فيه السلطة بمعناها السلفي كما في تلك الولايات الأميركية التي كان فيها المواطنون سابقين في الوجود على الدولة. وبالمقابلة مع حداثة عصر النهضة، ومن بعده عصر الانوار، التي كانت من طبيعة عقلية، والى حد بعيد عقلانية، فإن الحداثة الخامسة، حداثة العصر الماضي، هي من طبيعة اقتصادية، والى حد غير قليل لاعقلانية. فلحظة الحداثة الخامسة بدأت مع انتصار نظام الرأسمالية الاقتصادية على المستوى الأوروبي - الاميركي ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر، ثم على مستوى العالم اجمع منذ منتصف القرن العشرين وصولاً الى عصر العولمة. والحال ان هذه الحداثة، التي نعيش في ظلها قد أدت الى تفتيت جميع منظومات القيم وأدخلت مبدأ السلطة في طور أزمة مفتوحة، وذلك بقدر ما أدت الى "تسليع" العلاقات الانسانية واحلال عبادة المال محل كل العبادات الأخرى التي باتت بحكم المتقادمة. والحال ايضاً ان نمط العقلانية الذي طورته هذه الحداثة هو حصراً العقلانية الأداتية، وذلك بقدر ما ان الحداثة الاقتصادية الرأسمالية نزعت منزعاً انتاجياً خالصاً وجعلت من الآلة إله العالم المعاصر وعقله في آن معاً. وهذا النمط الاحادي من العقلانية الأداتية ترك الأفراد المذررين والمنخلعين عن منظوماتهم القيمية بلا مقاومة في مواجهة اللامعقول. وهذا ما يفسر ان الحداثة المعاصرة شهدت تطوراً خارقاً للمألوف لجميع تقنيات الهرب من المواجهة مع الذات التي ما عادت تحتمل ذاتها بعد تفكك مرجعياتها وانهيار نظام دفاعها القيمي. فلم يحدث قط في تاريخ البشرية ان عمّ تعاطي المخدرات والمسكرات والمهدئات - فضلاً عن السجائر - على المستوى الجماهيري كما هو الحال اليوم. وفي العام 2000 وحده قدر استهلاك المجتمعات الصناعية من عقار "بروزاك" المضاد للاكتئاب ببليونين ونصف البليون من الدولارات. والحاجة الى مقاومة الفراغ الداخلي هي التي تفسر ايضاً ذلك المرض الكبير الآخر من أمراض الحداثة: السمنة. فنصف الأميركيين الشماليين يعانون من فرط الوزن، وربعهم - أي نحو من 68 مليون فرد - يعانون من فرط السمنة. ولئن يكن القرن العشرون هو القرن الذي ذهب الى أبعد مدى في تفريد الفرد، فلا عجب ان يكون هو ايضاً القرن الذي تمخضت فيه الايديولوجيات الجماعية الاجماعية كالفاشية والنازية والشيوعية. ولئن تكن الحداثة الغربية هي التي فرزت "أمراض الطفولة" هذه، كما يسميها جيرار ماندل بالاستعانة بالتعبير اللينيني المشهور، فها هي الحداثة الاسلامية تشهد بدورها تمخض مرضها الطفولي المتمثل بالأصولية. فكأن انهيار المرجعيات ومنظومات القيم يخلق في كل مكان، وعلى سبيل التعويض والدفاع الذاتي، حاجة الى خلق أشكال جديدة وطفولية من التبعية تحل محل التبعية التقليدية للسلطة. ما الذي يقترحه ماندل كمخرج من "أزمة السلطة" هذه وكعلاج ل"أمراض الحداثة الطفولية" تلك؟ هنا لا يملك القارئ ان يدفع عن نفسه شعوراً بأن ماندل قد اقتاده، في خاتمة كتابه، الى طريق مسدود. فكل نقده لأشكال السلطة التقليدية تمحور حول كونها سلطة أبوية. ولكن ها هوذا، في كل نقده للحداثة الخامسة، يركز على كونها حداثة بنوية. فلئن كان ماندل، الذي انتصر بقوة للحداثات الأربع الأولى من حيث هي تعابير عقلانية على "التمرد على الأب"، يريد، من خلال نقده للحداثة الخامسة، أن يؤسس نفسه متمرداً على حداثة الأبناء. ورفعاً لهذا التناقض نستطيع القول إن ما يحلم به ماندل حداثة تكون أبوية - بنوية في آن معاً. ولكن هنا يثور سؤال: أليس من شأن هذا التعقّل للحداثة وللحضارة بمفردات الآباء والأبناء أن يعيدنا إلى تلك "النزعة العائلية السياسية" التي كان ماندل نفسه اعتبرها "مرض شيخوخة السلطة"؟