الكتاب: نقد الحداثة المؤلف: آلان تورين ترجمة: أنور مغيث الناشر: المجلس الأعلى للثقافة، مصر تتوازن طروحات هذا الكتاب مع مفهوم "التقدم والتنمية"، هذا المفهوم الذي اسقط اليوم مبدأ التوازنات الدولية التي كانت قائمة بين الشرق والغرب. إذ يبدو من عنوان الكتاب ان الحداثة وما بعد الحداثة هما ميدانه الفعلي. فالنص يذهب بنا إلى السوسيولوجيا وعلم النفس والفكر والفلسفة وبنية المجتمع، مما يعني ان الحداثة لا ترتبط بالأدب أو الثقافة أو المنتج الاعلامي الحديث، بل تتصل بالبنى المكونة الكبيرة للمجتمع. اتسع ميدان الحداثة اليوم ليشكل التكنولوجيا والاقتصاد والسياسة والصحافة وكل الفروع الأخرى حتى غدونا لا نستطيع التفكير بأي مسألة إذا لم نضع في تصورنا تاريخ هذه المسألة. إن ما حدث في القرن الحالي كان غاية في العمق بحيث لا يستطيع أحد أن يحلم بالعودة إلى المياه الهادئة لفلسفة التنوير، للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فالحداثة هي ثورة في كل ميادين البناء، وبرغم أنها من نتاج المجتمع المعاصر، إلا أنها لم تقطع الصلة بالتاريخ، ولا بنظام العالم القديم، أعني الدين والفلسفة القديمة. إلا هذا التكوين المعرفي الثابت أو شبه الثابت لم يكن بمنأى من النقد: ركز الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو نقده للسلطة المركزية التي تدعيها الحداثة، وهي سطلة الدولة - سلطة الطبقة الحاكمة - سلطة الدين، في حين أن تطور المجتمعات الليبرالية المعاصرة يلغي مثل هذه المركزية الصارمة ويعطي دوراً للفرد أو للذات لأن تكون في مركز مهم من مراكز الفعل الاجتماعي، وبهذه الفكرة البسيطة أزاح فوكو عن هيمنة السلطة المطلقة للدولة أو للمؤسسة من موقعها التاريخي القديم إلى فاعلية الفرد. ونتج عن هذا التصور للحداثة أن تفتحت آفاقها لمرحلة أكثر تحديثاً، خصوصاً عندما تتوزع المركزية بين شرائح اجتماعية وفردية عدة. وقد ينبئ هذا التصور بتفكيك البنية العسكرية لاحقاً للدول الكبرى بعد ان يتم تفكيك الدولة المتعددة القوميات، والدولة الايديولوجية القارة. الكتاب واحد من سلسلة كتب تنهض بأعباء البحث عن افق جديد للثقافة من خارج ميدان الأدب، فالنقد الأدبي الذي فجر في أواسط الستينات مفهوم ما بعد الحداثة لم يدر أنه جاء لتخريب بيته. كشف ان نص ما بعد الحداثة لا يكمن في النقد، بل في حركة الحياة. وبميادين أوسع منها ما يتطرق إليه آلن تورين في هذا الكتاب "نقد الحداثة" وغيرها. والمقصود هنا بالنقد هو الخروج من إطار المفاهيم القديمة إلى مفاهيم معاصرة ذات بنية كبيرة موازية لحركة تطور المجتمع المعاصر. ومن ثم الكشف عن الأبعاد الجديدة القابلة للتطور في الحداثة لنص ما بعد الحداثة، تلك النصوص التي رافقت النهوض السياسي والايديولوجي في ستينات فرنسا الشبابية، فما كان من المؤلف إلا أن عمق نظرته السوسيولوجية، ليشمل بها النقد الأدبي والثقافي والفكري، خصوصاً ذلك الذي تسيد الثقافة الأوروبية في الفترة التي انتعشت بها البنيوية. من مهمات كتاب "نقد الحداثة" تأمل شروط وجود مجتمع جديد والطريقة المثلى التي يمكن للأزمة الفكرية السائدة في المجتمعات الأوروبية الحديثة أن تجد حلولها المنهجية، خصوصاً تلك التي تجمع بين الصراعات الاجتماعية الكبيرة - البطالة، السوق، التعليم، الإعلان... الخ، وبين أن يجد المجتمع طرقاً أكثر مرونة لوضع تنظيم جديد ثقافي لتكوين مجتمع جديد مثالي مع نسيان حقيقي للمتمزقات والانقلابات التي توشك على الحدوث فيه. هذا ما أشار إليه المؤلف في مقدمته واصفاً إياها من مهمات الكتاب الذي يكشف عن طريق السوسيولوجيا سبل تقويم ما يصبو إليه. ولهذا سار الكتاب في أول مهماته بمنهجية نقد الاتجاهات السوسيولوجية السابقة في الحداثة، والقائمة فعلاً على فاعلية الأفراد في الابتكار وفي التخطيط، وهذا الاتجاه الذي تسيد ما يمكن تسميته بديكتاتورية المؤسسة الاقتصادية، أصبح عائقاً أمام تطور القدرات الذاتية للأفراد من خارج هذه المؤسسة. وهو ما بنت الرأسمالية الحديثة عليه تصورها لندرة الاكتشافات والمبادرات والأفعال الفردية الخلاقة. آلن تورين يرى العكس في تبني اتجاه سوسيولوجي في ما يخص قدرات الأفراد، ففاعلية الأفراد لم تعد وحدها قادرة على مسايرة تطورات المجتمع المستجدة والمتسارعة، مما يعني ان الاعتماد على المنطق الداخلي لتطورات النظام الاجتماعي الحالي من دون وضع منهجية صارمة لا يمكن ان ينمي أي اتجاه حداثي، ولذلك يجري الآن الاعتماد على الفاعلين الاجتماعيين، ويعني المؤسسات ذات البنية المنفتحة على الحداثة الجديدة التي لا تتعامل مع سياقات الأفراد، وفي الوقت نفسه يجري الانتباه إلى التراث من خلال نقده المستمر والكشف عن آلياته الخفية التي لم تستطع القدرات الفردية الكشف عنها، ومن ثم فهمه وفحص مفرداته الأساسية ومكوناته المعرفية القارة فيه ثم العودة ثانية إلى مبدأ الاصلاح، مما يعني توسيع دائرة الدرس الجامعي بإطر أكثر مرونة مع مستجدات المجتمع. وعلى رغم اننا نقرأ كثيراً في الكتاب كلمات مثل: الاصلاح، النهضة، وهي كلمات قديمة، لكنها تعود بالتصورات الحديثة، من خلال الاعتماد على العقل الجماعي، والمؤسسات المنظمة، والبنى الكبيرة من غير السياسية - العسكرية، وعلى فاعلية التراث القومي، وعلى التجاور مع الايديولوجيات المهمة في العصر، كل ذلك من أجل وضع تصور جديد لعالم اليوم. فقد قامت الحداثة على نقد المقدس، وعلى تفكيك العقلاني، ونقد الدين والفلسفة، ولذلك لم تعد قادرة اليوم على مسايرة فكرة العودة لفاعلية الأفراد الاستثنائيين في التخطيط والابتكار، فعندما جعلت المقدس مناقضاً للحداثة، نشطت في الوقت نفسه ما يناقض المقدس من داخل المؤسسة المقدسة نفسها، بمعنى أنها بالنقد أكسبت المقدس مناعة مضادة للتيارات التي تحاول تهميش المقدس. ومن الأسس التي تبناها الكتاب في نقد الحداثة العودة إلى العمل الجماعي، ومن الموضوعات الاقتصادية الكبيرة إلى الموضوعات الفردية، الشخصية والاخلاقية الذي من شأنه أن يردم الهوة بين تشكل الرأسمالية الفظة وبين المؤسسات الاجتماعية والاخلاقية، وهذا ما يدل على التفكك الكبير الذي يصيب المؤسسات الباقية من المجتمع الصناعي وتتحول إلى وكالات للاتصال السياسي، في حين ان المحركات الجديدة تحرك المبادئ والمشاعر. وخلاصة القول في هذا إن آلن تورين يفسح مجالاً للحياة اليومية وللمثيولوجية المدنية الحديثة في أن تلعب في الحداثة الجديدة دوراً لا يلغي الفرد ولا يعتمد عليه كلياً، وهذه الموازنة كانت الحاثة تفتقدها في بنيتها السابقة. وثمة نغمة سياسية يعتمدها آلن تورين عندما يعول على نقد اليسار الأوروبي من أنه يضع حواجز ايديولوجية سابقة أمام حركات اجتماعية تعتمد حقوق الإنسان والدفاع عن الفقراء والمنبوذين والقوميات الصغيرة، هذه الحقوق التي كانت لا تجد لها مجالاً في أي تصور سياسي سابق، مما يعني ان مجتمع الحداثة الجديدة يقوم على الدفاع عن هذه الفئات المضطهدة في عموم العالم، وهذا الدفاع يشكل بنية سياسية ولكن غير منظمة من قبل الرأسمالية بحجج موهومة. وهو ما يطلق عليها بالقوى الاجتماعية الجديدة التي نشأت في أوروبا في السنوات الأخيرة. وثمة نقطة جوهرية يتطرق إليها الكتاب، وهي المزج بين اللذة الجسدية واللذة العقلية، ويعتبر ذلك من منطلقات الحداثة في منطقها التطوري في المجتمع الرأسمالي الحديث، وهذا المبدأ جعل الثقافي مرتبطاً بالنمو الاقتصادي، ولكن ليس الثقافي العالمي، بل الثقافي الأوروبي الذي وقف حائلاً أمام تقدم الثقافي في بلدان العالم الأخرى، ولأن الثقافة جزء من بينية اجتماعية - اقتصادية أصبحت على يد المؤسسات الكبيرة قوة قامعة لتيارات غير أوروبية. فدور المثقفين، كما يرى، ليس هو الربط بالمؤسسات الاقتصادية، إنما هو رفضها جملة وتفصيلاً لأنها تحوله إلى سلعة في السوق ونمط من انتاج بضائعي مألوف. والكتاب بعد ذلك لا يغيب عن فاعلية الحركات السياسية في العالم غير الأوروبي، فهو يشير غليها خفية وإلى دورها اللاحق في تغيير مسارات العالم اللاحقة، ومن هنا فهو سوسيولوجيا يسقط التوازنات الكبرى، وإن بدت الآن فاعلة على المستوى السياسي والعسكري، ففي عالم اليوم وبعد ان مهد القرن العشرين مفهوم الشعبي، بعد الرأسمالية في القرن العشرين والكولينالية في القرن التاسع عشر، يعود بنا إلى فاعلية الإنسان بمختلف قومياته ومواقعه من دون اعتبار لأي موازنات دولية لاحقة، فالشعبية قد تقضي على بقايا كل الصور المتزمت في التاريخ المعاصر.