Guillaume.Serge Les Dژbuts. La Dژmocratie: الديموقراطية: البدايات. Hatier, Paris. 2000. 168 pages. باستثناء الاسم نفسه ما كان للديموقراطية الحديثة أن ترث أي شيء عن "الديموقراطية" اليونانية القديمة. فسكان أثينا في عهد بيريكليس ما كان لهم أن يتفرغوا للسياسة ويكرسوا حياتهم للاجتماع والاقتراع بصورة شبه يومية، إلا لأن تعدادهم ما كان يجاوز عشرين ألف "مواطن" مقابل مئتي ألف من العبيد الذين كانوا ينوبون عنهم، في المزارع والورشات، في انتاج الشروط المادية لوجودهم. والواقع أن الديموقراطية ما كان لها أن ترى النور زمنياً قبل "قطيعة" الحداثة. والحداثة كما هو معلوم واقعة تاريخية شرعت تنتقش في الجغرافية الأوروبية ابتداء من القرن السادس عشر قبل أن ينطلق قطارها بأقصى سرعته على سكة الثورة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر. ولئن انتهت الديموقراطية في مسيرتها التاريخية التي دامت قروناً ثلاثة إلى أن تنتزع لنفسها مصداقية كونية بوصفها النظام السياسي الأكثر تقدماً للبلدان الأكثر تقدماً في العالم، فإن بداياتها لا يزال يحيط بها غموض كبير ومن طبيعة إشكالية علماً بأن ما هو إشكالي، على عكس ما هو دوغمائي وقطعي، يحتمل تعداداً لا متناهياً في التفسير. وبالفعل، ان السؤال الذي لا يفتأ يطرح نفسه بإلحاح، على كل من تصدى للتأريخ لبدايات الديموقراطية، هو التالي: لماذا انفرد المختبر الأوروبي وحده باختراع الصيغة الكيميائية للديموقراطية؟ في الإجابة لا بد أولاً من استبعاد التفسير بالمعطيات الطبيعية أو العرقية، كالتي تنسب إلى جغرافية القارة الأوروبية، أو إلى العبقرية الآرية أو الانغلو - ساكسونية، فضيلة اكتشاف الديموقراطية وغيرها من مقولات الحداثة. فصحيح ان الحداثة واقعة أوروبية، لكنها أيضاً واقعة تاريخية. فأوروبا وجدت دائما منذ وجود العالم القديم، لكن الحداثة الأوروبية، وبالتالي الديموقراطية الأوروبية، لم تبدأ بالتمخض إلا في سياق تاريخي محدد هو سياق القرن السادس عشر الذي كفّ التاريخ ابتداء منه عن أن يكون تكرارياً ليغدو تراكمياً. لماذا القرن السادس عشر حصراً؟ لأنه قرن الكشوف الجغرافية الكبرى، اذ اكتشفت القارة الأميركية ومن بعدها الاوقيانوسية، فلم تتوسع صورة العالم كمياً فحسب، بل طرأ عليها انقلاب نوعي. فعلاوة على أن الأوروبيين من البحارة الاسبانيين والبرتغاليين قد اكتشفوا يومئذ وجود قارة أكبر حجماً من قارتهم بأربع مرات يبلغ اجمالي مساحة القارة الأميركية 42 مليون كلم مربع مقابل 10 ملايين كلم مربع لأوروبا، فإن اهتزازاً عنيفاً قد طرأ على صورة العالم الموروثة عن قصة الخلق التوراتية والمكرسة من قبل السلطات الفكرية القائمة آباء الكنيسة والتراث اليوناني الافلاطوني - الارسطي. فعلى حين غرة كفّ العالم عن ان يكون مطابقاً للتصور التقليدي السائد عنه، وقام دليل قاهر على أن واقع الأشياء يمكن ان يكون مفارقاً للاعتقاد ومخالفاً لما استقر عليه الايمان. أضف إلى ذلك أن كشوف كولومبوس وأمريغوس وألفارو كابرال أعطت الدليل القاطع على كروية الأرض، الأمر الذي هز بدوره قناعة ثابتة في التصور الديني التقليدي حول تسطيح الأرض ومركزية القسم الجاف منها - حيث يعيش إنسان الخليقة التوراتية - لبحار "الظلمات" التي تحيط به من كل جانب. بيد أن الكشوف الملاحية الكبرى للقرن السادس عشر لم يقتصر أثرها على الذهنيات والاعتقاديات، بل شمل أيضاً، وبطبيعة الحال، الماديات. فقد تدفقت على أوروبا، من جراء نهب كنوز ممالك الآزتيك والمايا والإنكا والموارد المنجمية لجبال الآند، أموال طائلة. وقد قدرت المصادر التاريخية كمية المعادن الثمينة التي استخرجت من مناجم البيرو وحدها في الفترة ما بين 1503 و1660 ب185 ألف كلغ من الذهب، وب16 مليون كلغ فضة. وتحولت أوروبا، بين عشية وضحاها، من قارة فقيرة إلى غنية، وتكونت فيها امبراطورية تجارية بحرية غير مسبوقة تتوزع مراكزها ما بين جنوى في ايطاليا واشبيلية في اسبانيا ولشبونة في البرتغال وآنفرس في بلجيكا، وروتردام في هولندا. بل إن تطور التجارة البحرية والحركة الملاحية نقل مركز الثقل الحضاري تدريجياً من أوروبا الجنوبية المتوسطية إلى أوروبا الغربية والشمالية الأطلسية التي غدت، وللمرة الأولى في التاريخ، مركزاً جديداً للعالم، على حين أن مركز العالم القديم الذي كان يمثله الإسلام العربي، فقد اعتباره وغدا منزوع المركز، في الوقت الذي أمست فيه السفن التي يجهزها المقاولون الأوروبيون قادرة، بفضل اكتشاف رأس الرجاء الصالح، على الالتفاف على العالم العربي والإسلامي، وعلى الاتصال بالهند وبسائر الممالك الآسيوية مباشرة وعن غير طريق الحرير والتوابل البرية التقليدية. ولم يقتصر الأمر على انزياح القارات الحضاري هذا، بل تعداه إلى تشكيل طبقة اجتماعية جديدة كل الجدة في التاريخ هي طبقة المقاولين ومجهزي السفن وتجار الموانئ التي من رحمها ستتولد الطبقة البورجوازية التي ستجترح مأثرة تاريخية حقيقية بإضافتها إلى المصادر التقليدية الثلاثة للثروة: الأرض والحرب والصلاة، مصدراً رابعاً: العمل. وإذ انضافت على هذا النحو الطبقة البورجوازية إلى الطبقات الاجتماعية المعروفة: النبلاء والفلاحين والاكليروس، فقد بدأت في أوروبا الغربية سلسلة تحولات اقتصادية واجتماعية وديموغرافية وتقنية وجدت تتويجها في الثورة الزراعية للقرن السابع عشر، ثم في الثورة الصناعية للقرن الثامن عشر. ولقد مثلت جملة هذه التحولات نوعاً من قطيعة في التاريخ البشري تمثلت في ما بات يعرف باسم الرأسمالية. وكان تأسيس البنوك الأولى في أوروبا، مثل بنك امستردام عام 1609 وبنك انكلترا عام 1694، بمثابة المؤشر المادي على دخول أوروبا الغربية في المرحلة الرأسمالية، على حين كان صدور كتاب آدم سميث: "أبحاث حول طبيعة وأسباب غنى الأمم"، الذي صاغ للمرة الأولى فكرة القوانين الاقتصادية، بمثابة المؤشر الفكري على وعي الذات لدى الطبقة الرأسمالية الصاعدة. وقد اقترنت هذه التحولات المادية بتحولات فكرية لا تقل ثورية. وقد مهدت لهذه التحولات الفكرية حركتان انقلابيتان كبيرتان: المذهب الإنساني والانشقاق اللوثري في القرن السادس عشر. فقد أحدثت هاتان الحركتان صدعاً في التصور الفلسفي واللاهوتي السائد ومهدتا الطريق أمام النقلة الجذرية من مركزية الله للكون التي كانت سائدة على امتداد القرون الوسطى إلى مركزية الإنسان للكون التي ستغدو، ابتداء من الثورة الفرنسية عام 1789، بمثابة العلامة الفارقة للحداثة. فالمذهب الإنساني أعاد اخضاع المعرفة لفحص العقل وأوجد نصاباً جديداً هو معرفة الواقع واكتشاف قوانينه بدلاً من الاكتفاء بالتأويل السكولائي للنصوص المقدسة وشبه المقدسة سلطة ارسطو. كما أن الثورة اللاهوتية التي اجترحها لوثر أعادت وضع الإنسان في مركز العقيدة الدينية، إذ رهنت خلاصه الروحي به هو نفسه، لا بوساطة الكنيسة. في هذا السياق الذي أعاد وضع الإنسان بعد طول تهميش في نقطة المركز، رأت النظرية السياسية الحديثة النور. وقد تمخضت على شكل انقلابي. فعلى مدى العصور الوسطى كانت مسألة السلطة لا تُطرح ولا تُقترح لها حلول إلا في الإطار اللاهوتي عينه: مركزية الله للكون. فالأمراء وكذلك الخلفاء في الحضارة الإسلامية لا يحكمون إلا بإرادة إلهية. وليس غير هذه الإرادة - خلا القوة العارية - مصدراً للشرعية. ولكن المذهب الإنساني للقرن السادس عشر انطلق من فكرة "المملكتين" ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، ليكرس الانفصال، لا الاتصال، ما بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية. فالسياسة هي مجال الزمني المحض. والسلطة مسألة دنيوية خالصة. وممارسات الملوك والأمراء يحكمها منطق واحد وحيد، هو الحفاظ على تلك السلطة تحت غطاء من الدين والاخلاق إذا أمكن، وبدون هذا الغطاء إذا ما اقتضت الضرورة. وتلك هي أصلاً نظرية ميكيافيلي في كتابه الشهير "الأمير" 1513 الذي أرسى حجر الأساس للعلم السياسي الحديث بقدر ما بنى تحليله لآليات الاستيلاء على السلطة أو الحفاظ عليها، لا على المبادئ الاخلاقية المجردة، بل على التجربة وعلى الممارسات الفعلية، للملوك والأمراء. ويمكن أن يعدّ الفليسوف الانكليزي توماس هوبز 1588-1679 المؤسس الثاني للحداثة السياسية بقدر ما اعتبر، هو الآخر، ان مملكة السياسة مملكة إنسانية خالصة، وليست إلهية. فطاعة المواطن للأمير ليست نسخة طبق الأصل عن طاعة المؤمن للكنيسة. فبما أن الإنسان، بطبيعته، ذئب للإنسان فإن سلطة الأمير ضرورية للحد من هذه "الذئبية" ولخروج البشرية من وضعية "الغاب" إلى وضعية "المجتمع". وصحيح أنه صادر على أن سلطة الأمير لا بد أن تكون مطلقة، لكن ذلك لا يمنع من اعتباره أبا الفكر الديموقراطي، وذلك بقدر ما أنكر الأصل الالهي لسلطة الأمير وردّها إلى فعل تعاقدي يتنازل بموجبه المواطنون عن بعض حرياتهم "الطبيعية" لكي يتاح لهم أن يصيروا "مواطنين" فلا يبقوا مجرد "ذئاب". وانطلاقاً من هوبز ستفرض فكرة "العقد" نفسها بوصفها المصدر الوحيد للشرعية السياسية. ولئن يكن إسهام هوبز قد انحصر في "علمنة" السلطة المطلقة بإركازه إياها على أساس تعاقدي دنيوي، فإن اهتمام جون لوك 1632-1704 من بعده قد تركز على الحد من السلطة المطلقة حتى في صيغتها التعاقدية. والواقع أن لوك الذي عاش وكتب عن ثورة 1688 التي أطاحت حكم الملك جاك الثاني، الذي أراد أن يفرض على الشعب البريطاني عقيدته الكاثوليكية، كان معنياً في المقام الأول بالآليات القانونية التي من شأنها أن تحول سلفاً دون طغيان الأمير. ومن هنا تركيزه على دور المجتمع المدني الذي يعود إليه وحده أمر تنصيب الأمير وخلعه من خلال ممثليه في البرلمان. ومن هنا أيضاً حرصه على التمييز بين السلطتين التشريعية والتنفيذية كضمانة لعدم طغيان الأمير. فالسلطة الأولى، التي تتمثل بالبرلمان، مهمتها إصدار القوانين. أما السلطة الثانية، وعلى رأسها الأمير، فليس لها من دور آخر سوى تطبيق القوانين. فهي سلطة تابعة، وليس كما عند هوبز مطلقة. وإذا أخلت بهذا الشرط الأساسي من شروط العقد، وتصرفت كسلطة مطلقة، انحل العقد من تلقاء نفسه، وجاز للمحكومين ان يتمردوا على الحاكم، تماماً كما فعل البريطانيون عندما اجبروا جاك الثاني على الفرار. ولئن تكن فكرة العقد قد بقيت محاطة لدى فلاسفة السياسة الانكليز بضبابية فلسفية، فإن الفكر السياسي الفرنسي للقرن الثامن عشر استطاع أن يجسد فكرة العقد المجردة في "الدستور" الذي غدا بمثابة العتلة الرافعة لكل نظام ديموقراطي. ولكن مع تبلور فكرة الدستور عقب الثورة الفرنسية استكملت الديموقراطية مرحلة البدايات النظرية ودخلت في طور التطبيق العملي. وهذا مسار تطوري طويل سيستغرق قرنين بكاملهما من الزمن ولن يخضع فيه التطور المطّرد للديموقراطية لآمر آخر غير آمر العقلانية، وهذا إلى حد سيتبدى معه كل نظام سياسي غير ديموقراطي وكأنه من صنع اللاعقل، أو في أحسن الأحوال ما قبل العقل.