في الصفحة 65 من سيناريو "عقل جميل" الذي كتبه أكيفا غولدمان وصف لما نراه بعد نحو ساعة وربع الساعة من الفيلم: داخلي - قاعة محاضرات هارفارد جون يقف على المنصة، وراءه لوح أسود عليه كتابة بالأرقام. انه يتكلم، بادئاً محدقاً في جمهوره: "... اذاً نعرف ان الأصفار بحسب توظيف رايتمان لها، تلتقي ومفردات الزمن الفضائي قبل أن تنهار منظومة الأرقام التقليدية في وجه الاكتشاف النسبي...". صوت ناش يتبدد. رجلان دخلا الشرفة يرتديان معطفين ويعتمران قبعتين". صوت ناش يتبدد ثانية. رجل آخر يدخل الممر الرئيس ايضاً يرتدي معطفاً وقبعة. ناش ينظر الى أحد الطلاب ويسأله. ناش: "هل هناك مخرج آخر من هنا؟". وسط حيرة الطالب يشير بإصبعه الى باب جانبي. ناش يستدير ويهرع منه تاركاً المنصة. الجمهور يحدق في تعجب. هذا الجزء من سيناريو غولدمان، المرشح بدوره لأوسكار أفضل سيناريو مقتبس، يكشف حين قراءته وبعد مشاهدة الفيلم، عن تلاقي العناصر التنفيذية الثلاثة في شكل مُوحّد وثابت: المخرج رون هوارد نفّذ المشهد المكتوب بدقة، والممثل راسل كراو جسّده بحركاته كما يجب. انه يكشف ايضاً عن معضلة في فيلم "عقل جميل" هي واحدة من أكبر معضلتين فيه وهي أن أحداً - بمن فيهم الكاتب على ما يبدو وبمراجعة السيناريو كاملاً - لم يكترث لما على شخصية جون ناش وهي شخصية واقعية يتابعها الفيلم من العام 1947 الى العام 1994 قوله بخصوص علمه في ميدان الفيزياء. العبارة التي يقوم بقراءتها عن وظيفة رايتمان ومفردات الزمن الفضائي ومنظومة الأرقام التقليدية في وجه الاكتشاف النسبي، لا تعني شيئاً لأحد من المشاهدين. ومن يستطيع التأكيد أنها كلمات ذات مغزى مفهوم حتى بالنسبة الى من يفترض بهم أن يكونوا طلاباً في الصفوف العلمية؟ في الحقيقة، قليلة هي المرات التي يتولى فيها جون ناش راسل كراو قول شيء علمي ذي دلالة واضحة ومحددة. معظم ما يقوله يبقى أشبه بالحوار في الأفلام المصرية حين نسمع شيئاً مثل: "مجلس ادارة الشركة قرر توقيع عقد بثلاثة ملايين جنيه" او "عندي اجتماع مهم وأول ما خلص منو على طول اتصل بيكي" فلا تعرف اي عقد وما هو ذلك الاجتماع وما هي أعمال تلك الشركة. ضعف وقوة في تجسيده شخصية جون ناش يدخل كراو الى منتصف الطريق بين البقاء هو نفسه وبين الانتقال الى شخصية الرجل الآخر. وحين ترى المشهد المذكور أعلاه على الشاشة يتبدى لك أن مقدرات الممثل الواعية حركته عميقاً في داخل شخصية كان يمكنها أن تسقط فيسقط الفيلم معها تماماً ومن دون تردد. اللقاء القائم بين كراو والشخصية في منتصف الطريق مثالي ومسؤول عن نجاح ذلك التشخيص. فكراو لم يحاول ابتكار شخصية خيالية تماماً ولا هو استعار من شخصية جون ناش نفسه أكثر مما هو ضروري كمفردات عمل ربما طريقة مشيه، نظارتيه الخ..... البقية من فعل وإمعان ممثل أذاب الكثير من ذاته في الدور من دون أن يذيب الكل. الى ذلك، فإن كراو احتوى عناصر أساسية في تقديم هذه الشخصية المحيّرة: جاذبية تلعب ضد طبيعة الشخصية الداكنة، وذكاء يناسب ما يتولد عنها في الوقت ذاته. راسل هو بالتأكيد أحد أفضل المرشحين للأوسكار هذا العام، وربما أكثرهم حظاً، ان لم يكن بسبب ما ذكرناه من نوعية وسياسة تجسيد، فلأن الجائزة كثيراً ما ذهبت من قبل الى ممثلين أدوا أدوار المصابين بعضال نفسي او جسدي. منهم داستين هوفمان في دور عبقري حسابات متخلف في كل شيء آخر في "رجل المطر" باري ليفنسون - 1985. انه ليس بالطبع أمر مفروض او نتيجة شعور بالأسى يلف المقترعين، بل عادة ما يقوم على إجادة الممثل لدور الشخص المعوق الذي يلعبه وما يتطلبه ذلك من جهد وسبر غور. لكن كما هو معلوم، فإن راسل كراو نال اوسكار أفضل ممثل في العام الماضي عن دوره في "المصارع". دور يختلف تماماً في شروطه ومقدراته. قيمة هذا الممثل هي أنه اذ جسّد دور المصارع القوي في فيلم ريدلي سكوت عكس ايضاً ملامح ضعف ممتزجة او تحت سطح تلك القوّة الظاهرة. في "عقل جميل" لعب العكس الى حد النقيض: شخصيته المنفصمة تترجم بضعفها أساساً، لكن راسل كراو عكس فيها قدراً من القوّة الداخلية حيث أصبحت أكثر كثافة مما كان من المحتمل لها أن تجيء. الأسود ضد الأبيض! منافسو راسل كراو في مسابقة أفضل ممثل في دور أساس لا يقلّون عنه جدارة، لكنها جدارة تتفاوت من ممثل لآخر ومن طبيعة دور لطبيعة دور آخر. انهم دنزل واشنطن في "يوم التدريب"، ويل سميث في "علي"، توم ويلكنسون في "في غرفة النوم" وشون بن في "أنا سام". انها المرة الأولى التي يتنافس فيها ممثلان أسودان على الأوسكار معاً. اذا ما شملت الترشيحات ممثلاً أفرو - اميركياً فإن العادة جرت أن يكون الممثل وحيداً من عنصره في هذا الخضم. لذلك من المثير مشاهدة ما ستنجلي اليه هذه المسابقة واذا ما كان المقترعون، معظمهم من البيض بالمناسبة، سيجدون أن أحدهم ليس فقط أفضل من الآخرين، بل أفضل من الممثلين البيض في السباق. بالنسبة الى ويل سميث، فإنه الممثل الآخر الذي يستند الى شخصية واقعية. جون ناش في "عقل جميل" شخصية حقيقية تم اقتباس الفيلم عن كتاب وضعته المتحدرة من أصل عربي سيلفيا نصر غير معروفة على نحو عام وهذا داخل في نجاح الفيلم التجاري اذ أثار الرغبة في معرفة الشخصية المعقدة. "علي" المقتبس عن قصة للسينما وضعها غريغوري هوارد، شخصية معروفة تماماً، ولذلك فإن واحداً من فتور الإقبال على الفيلم في اميركا على الأقل يعود الى أن الجمهور شاهد الكثير من بطل الملاكمة ولم يحركه فضول لمعرفة المزيد. لذلك واجه ويل سميث معضلة لم يواجهها منافسه الرئيس راسل كراو. فبينما استند كراو الى حريته في التصرّف بالشخصية الى حد كبير، كان على سميث الالتزام بها الى أقصى حد ممكن. فشخصية علي معروفة، ولا أحد يتمنى أن يخرج عن إدائها بأمانة مطلقة قدر المستطاع لأنه يعلم أن الجمهور سيحكم أولاً على صدقية الممثل تجاه الشخصية التي يؤديها. المقارنة هنا لا يمكن تجنبها. الى ذلك، أمّ سميث الدور وثوابث صاحبها يُقال إن سميث اعتنق الإسلام كما محمد علي شرطاً أساساً لإنجاح التجربة، وهو نجح في هذا التجسيد الصعب. مثل "عقل جميل" هو أفضل عناصر الفيلم وأهمها. واذا ما رأى أترابه المقترعون من أعضاء الأكاديمية الجهد الذي كان عليه أن يبذله لتقديم شخصية لا تزال حية في أذهان الناس، فإن الأوسكار قد يكون من نصيبه هو. المنتقل لا المتطوّر دنزل واشنطن أمر مختلف تماماً. في "يوم التدريب" يقفز على الشخصية من صبيحة اليوم الذي تقع فيه الأحداث يوم كامل من الصباح حتى منتصف الليل. السيناريو يقدم تحرياً يبدو نظيفاً وقوياً من دون نقاط ضعف، عليه أن يدرب تحرياً شاباً إيثان هوك ينتقل من وراء المكتب الى حياة الشارع. جزء كبير من عبء هذا الانتقال يتحمّله المدرّب لأنه، وكما يقول لتلميذه في أكثر من موضع، هو المسؤول عن تعليم طالبه كيف يبقى على قيد الحياة. لاحقاً يتبدى لذلك الطالب كما لنا أن هذا التحرّي فاسد ومرتش ولا يتورّع عن الخروج عن القانون، مرتكباً السرقة والقتل في سبيل أن يصرخ في النهاية "كينغ كونغ ليس في قدرتي". التمثيل من أول خيطه الى نهايته مفعم بالقوّة المندفعة ضمن طلاسم النفس البشرية المنتقلة من مظهر البراءة الى حقيقة الخطيئة. لكن هذا ليس مردّه التطوّر في الشخصية التي يؤديها واشنطن، لأنه كان تطوّر بعيداً من الكاميرا وانتهى أمره من قبل أن تبدأ حياتها على الشاشة. إيثان هوك الذي نجده مرشحاً بين الممثلين المساندين هو الذي كان عليه عبء تجسيد التطوّر من البراءة الى الإدراك. معايشة حياة يصل اليها غير ملم بما فيها، الى تعلم أسرارها مع نهاية الليل. هذا هو العام الثاني على التوالي الذي يتم فيه ترشيح دنزل واشنطن والمرة الخامسة في تاريخه. في العام الماضي انطلق ليقدم دوراً رائعاً في "العاصفة"، الفيلم الذي يتحدث عن ملاكم ايضاً من الواقع يتهم بجريمة يدعي انه لم يرتكبها وكيف أنه قضى عشرات السنين في السجن بريئاً من التهمة ورافضاً، في الوقت ذاته الخنوع الذي يواجهه اي سجين. ما حال دون فوزه بالأوسكار في حينه ليس فقط قوة أداء راسل كراو في "المصارع" بل اطلاق إشاعة من أن الملاكم الحقيقي لم يكن بريئاً من التهمة في نهاية المطاف. هذا جعل عدداً كبيراً من المصوّتين يربطون، عوض أن يفصلوا، بين تمثيل الممثل لتلك الشخصية وحقيقة تلك الشخصية في الحياة الواقعية. شون بن الذي لم تتح لنا مشاهدة فيلمه بعد، واحد من اولئك الممثلين الذين كادوا أن يصلوا الى التقدير الشامل بجوائز ونقاد وما شابه أكثر من مرة. ولن يكون مفاجئاً اذا ما أخفق هذه المرة في بلوغ المنصة وحمل الأوسكار. مع عدم مشاهدة "أنا سام" فإنه من المستحيل الحكم له او عليه او مقارنته بتمثيل بقية أترابه. لكن "أنا سام" لا يبتعد كثيراً عن "عقل جميل" من حيث أنه يطرح ايضاً مشكلة رجل بذهن مبتل بمعضلة عويصة. بن يجعل من شخصيته كوالد يسعى جهده للاحتفاظ بابنته الصغيرة على رغم قرار المحكمة بنقلها الى عهدة الأم بسبب حاله العقلية. وضع قيل ان الممثل يؤديه بالمقدار الكافي من الذكاء والعاطفية معاً. يبقى توم ويلكنسون في "في غرفة النوم". إنه الزوج الذي يدرك أن صمت زوجته وغرقها في ذاتها عميقاً وصدها له في شكل سلبي غير مباشر لن يغيّره سوى الانتقام من قاتل إبنه. الزوجة سيسي سبايسك من أقوى المرشحات بين الممثلات لأوسكار أفضل تمثيل نسائي رئيس لا تدعوه مباشرة او تتوجه اليه بالطلب. هذا هيّن، الى حد تجسيده، الصعب هو كيف يمكن إظهار الزوج وهو يقرر التحوّل الى الجريمة المضادة من دون أن ينبس ببنت شفة عما هو بصدده. كيف يتابع الحركة التلقائية من الرجل العادي الى الرجل غير العادي نسبة الى ما سيقدم عليه من دون افتعال او مشاهد جانبية توضح استعداده لذلك. توم ويلكنسون، وهو البريطاني الوحيد في المجموعة، مناسب جداً لهذا الدور سناً ومقدرة. لكن المرء لا يستطيع أن يرى أن ذلك سيكون كافياً في توجيه دفّة السيناريو ناحيته. حال شريرة في مسابقة أفضل ممثل مساند، خمسة ممثلين مختلفي التقنيات التعبيرية كاختلاف الصيني عن الفرنسي او كوز الذرة عن البسطرما. هناك جون فويت في "علي" وإيان مكيلين عن "سيد الخواتم" وبن كينغسلي عن "وحش جذاب" وجيم برودبنت عن "إيريس" وإيثان هوك عن "يوم التدريب". بن كينغسلي في الآونة الأخيرة سعى الى بلورة مفرداته على نحو حاد من دون أن يخل توازنه كثيراً. بينما لا يمكن تقويم تمثيل إيان مكيلين في "سيد الخواتم" على أنه أكثر من لعب فانتازي، على هذا الممثل ذي الخبرة المسرحية الغوص فيه بأقل ما يمكن من أدواته المسرحية، يمكن هذا الممثل البريطاني، شأن كينغسلي والمرشح الآخر جيم برودبنت، أن يجعل الدور المساند قوياً. على عكس ما فعله ريتشارد هاريس في دور مماثل في السن وفي الحجم في الفيلم الفانتازي ايضاً "هاري بوتر وجوهرة الفيلسوف" فاستكان الى الدور كاملاً ورضي بأن يكون وظيفي الاداء. لكن هذا لن يحمله الى الفوز. جون فويت، المرشح عن دوره في "علي"، ممثل جيد على العموم ومنذ أن كان شاباً في دور التكساسي الذي يغزو نيويورك في "راعي بقر منتصف الليل" جون شليسنجر، وهو ينتقل بين الأدوار كاسراً حواجز كثيرة. هنا في "علي" يدرك أنها فرصة جيدة للإتيان بما تحرمه اياه أفلام كثيرة أخرى: الموهبة. يستخلصها ويوفرها ويعمل ضمنها لكن طاقته النهائية ليست طاغية. كان أبرز الغائبين عن اللعبة هذا العام الممثل جين هاكمان عن دوره في "عائلة تننبوم الملكية"، وهو دور عاد اليه ببعض الجوائز النقدية الأميركية كما سحب به جائزة غولدن غلوب كأفضل ممثل في فيلم كوميدي. لكن هاكمان كان وسيبقى الممثل الذي يدعوك لمعايشة أزماته غير العاطفية على عكس ما ذهب اليه هذا الفيلم. حضوره مميز بإيصاله رسائله الى مشاهديه بدنياً ولفظياً وبملامح غير مثيرة للتعاطف. وهي أدوات كثيرة الاستخدام في أفلام بوليسية وأكشن ورعاة بقر عادة لا تصل الى الخط النهائي.