كأنما نعيش الأيام ذاتها في المواسم ذاتها من كل عام. في البداية هناك موسم الجوائز الممتد من مطلع كانون الأول ديسمبر الى نهاية آذار مارس من كل عام. بعد ذلك تأتي فترة راحة تتخللها مهرجانات محلية او إقليمية صغيرة، قبل أن يبدأ موسم جديد يُطلقه مهرجان "كان" في أوروبا وفيلم ضخم لجمهور الصيف في أميركا. هذا الموسم يمتد طوال الصيف ويشهد ايضاً بضعة مهرجانات مهمة في مقدمتها لوكارنو وكارلوفي فاري. وهذا الموسم يتداخل سريعاً في نهاياته مع مجموعة كبيرة من أهم المهرجانات الدولية في مقدمتها البندقية، تورنتو، سان سابستيان، ومن بينها لندن، طوكيو، دوفيل ولايبزغ الخ... ما تكاد هذه الطفرة تنتهي، حتى ندخل حيّزاً صغيراً غير ملموس عادة، قوامه الأفلام التي تريد أن تسجّل نفسها في عداد الأعمال التي ستدخل حمى المنافسة في موسم الجوائز. وهذه، عادة، أفلام تعتبرها هوليوود فنية او عالمية تريد أن تشترك في مسابقتي جائزتي "الغولدن غلوب"، التي توزعها "جمعية مراسلي هوليوود الأجانب" و"الأوسكار" التي توزعها "أكاديمية العلوم والفنون السينمائية". موسم الجوائز بدوره مقسّم الى تظاهرات واحتفالات ومسابقات. انه سلسلة متوالية من الترشيحات والنتائج وبعض المهرجانات الأساسية. مجلات "هوليوود ريبورتر"، و"فاراياتي" و"سكرين انترناشونال" وهي ثلاث مجلات أولى عالمياً في مجال رصد الجوانب المختلفة للفيلم تخصص صفحات كثيرة للحديث عن هذه النشاطات واحتواء كل ما من شأنه الإتصال بجوانبها فنياً، صناعياً او تجارياً. ورفعت الستارة موسم الجوائز بدأ هذا العام في برلين عندما تم توزيع جوائز الفيلم الأوروبي في الثاني من كانون الأول ديسمبر الماضي. والفائز الأكبر كان "أميلي" لجان - بيير جينو الذي خرج من المسابقة الأوروبية بأربع جوائز، بينها، كما كان متوقعاً منذ البداية، جائزتا أفضل فيلم وأفضل إخراج، كذلك نال الفيلم جائزة أفضل تصوير وجائزة الجمهور لأفضل فيلم. كان الفيلم الكوميدي الذي ابتدع فيه جينو ضروباً تقنية وأسلوبية جميلة وحيوية، اقترح على مهرجان "كان" السينمائي في المسابقة، لكن المهرجان أعرض عنه، كذلك لم يلق الصدى الايجابي من معظم النقاد الفرنسيين ما دفع المخرج لأن يقول معلقاً بعد حين: "لا يزال النقاد هنا فرنسا يفضلون ثرثرة الممثلين في المطابخ" قاصداً الأفلام التي تدور حول زوجين او عشيقين يقضيان الوقت في نقاشات عقيمة. مهرجان تورنتو السينمائي الدولي الذي أقيم في أيلول سبتمبر الماضي، فتح للفيلم السوق الأميركية كلها وهو افاد كلياً من ذلك. ايرادات "أميلي" الى الآن من سوق اميركا الشمالية تزيد قليلاً على 20 مليون دولار تضاف الى ما حصده الفيلم من ايراداته الأوروبية والآسيوية ليصبح المجموع 97 مليون دولار وليضع "أميلي" في المرتبة الأولى بين أكثر الأفلام رواجاً لا في السنة الماضية فحسب، بل في عداد السنوات الخمس الأخيرة. في عداد الرابحين في مسابقة الفيلم الأوروبي التي أقيمت في برلين الممثل البريطاني بن كينغسلي عن دوره في "الوحش الجذاب" بينما نالت ايزابل أوبير جائزة أفضل ممثلة عن "معلمة البيانو". الفيلم التسجيلي الألماني "الصندوق الأسود" لأندرياس فيل نال جائزة أفضل فيلم من نوعه وتحدث عن قيام مجموعة "الجيش الأحمر" سنة 1989 بقتل ألفرد هرهاوزن رئيس مجلس إدارة "دوتش بانك". بينما نال دانيش تانوفيتش جائزة أفضل سيناريو عن فيلمه "أرض لا أحد". وعاد الأميركي إيوان مكروغر الى بلاده حاملاً معه جائزة تقديرية خاصة عن مجمل أدواره وهو الذي شارك نيكول كيدمان بطولة "مولان روج". هذه الجائزة تتبع ما يعرف ب"الجائزة العالمية" وهي لا تحتوي على مسابقة بل يتم اختيار الفائز بها على نحو منفصل. المؤكد أن جائزة الفيلم الأوروبي تنطلق من موقع الحرص على سينما أوروبية نشطة وناجحة في مواجهة سينما اميركية سائدة الى حد الطغيان. على عكس بقاع كثيرة في العالم، حافظت السينما الأوروبية على وجودها تحت ضغط المنافسة، وبل شهدت في جزأيها الشرقي والغربي انتعاشاً ملحوظاً في العام الماضي على صعيد الأفلام المنتجة كما على صعيد الإقبال العام. حلقات النقاد حسنات هذه الجائزة تبقى، على رغم ذلك، محصورة في القارة الأوروبية ذاتها وقلما يتردد صداها في الولاياتالمتحدة، باستثناء ما ينشر في نطاق نشر النتائج إثر المسابقة. لكن هذا لا يعني أن الإهتمام معدوم بالسينما الأجنبية في تلك السوق الكبيرة. أكثر من أي عام مضى شهدت السوق الأميركية هطولاً من الأعمال الفرنسية والإيطالية والمكسيكية والهندية والإيرانية بين غيرها. وفي الموسم الحالي هناك 51 فيلماً مرشحاً لدخول مسابقة الأوسكار، الى جانب ما أتت به مسابقة "الغولدن غلوب" في حفلتها التي أقيمت في العشرين من الشهر الجاري. لكن قبل "الغولدن غلوب" وقبل "الأوسكار" هناك الجمعيات النقدية الأميركية التي تتكاثر وتندفع لمنح جوائزها في الوقت ذاته. اذا حاولنا الحصر فهناك سبع جمعيات نقدية تمنح جوائز كل سنة وهي: "حلقة نقاد نيويورك"، "الجمعية الوطنية لنقاد السينما"، "المجلس الوطني للفيلم"، "جمعية نقاد لوس أنجليس"، "جمعية نقاد لاس فيغاس"، "جمعية نقاد بوسطن" و"جمعية نقاد السينما التلفزيونيين". الخلطة كبيرة والأفلام كثيرة، ومن المثير معرفة أي فيلم وممثل ومخرج أصاب، وأي منهم انزلق في نهاية المطاف، خصوصاً أن كل هذه المسابقات أعلنت نتائجها في الأسبوعين الأولين من شهر كانون الثاني يناير الجاري. ويمكن تلخيص ما خرجت به مسابقات الجمعيات النقدية الأربع الرئيسة من نتائج على النحو الآتي: * جمعية نقاد لوس أنجليس: أفضل فيلم: "في المخدع" وأفضل مخرج: ديفيد لينش وأفضل ممثل: دنزل واشنطن عن دوره المؤثر في "يوم التدريب" وأفضل ممثلة: سيسي سبايسك البارعة في دور الزوجة التي تدفع زوجها للإنتقام من قاتل ابنهما في "في المخدع" وأفضل فيلم أجنبي: "أرض لا أحد" بوسنيا. * جمعية نقاد نيويورك: أفضل فيلم: "مولهولاند درايف" وأفضل مخرج: روبرت ألتمن عن "غوسفورد بارك" وأفضل ممثل: توم ويلكنسون عن "في المخدع" وأفضل ممثلة: سيسي سبايسك عن "في المخدع" وأفضل فيلم أجنبي: "في المزاج للحب". * الجمعية الوطنية لنقاد السينما: أفضل فيلم: "مولهولاند درايف" وأفضل مخرج: روبرت ألتمن وأفضل ممثل: جين هاكمان عن دوره في "عائلة تننبوم الملكية" وأفضل ممثلة: ناوومي واتس عن دورها في "مولهولاند درايف" وأفضل فيلم أجنبي: "في المزاج للحب". * جائزة المجلس الوطني للفيلم: أفضل فيلم: "مولان روج" وأفضل مخرج: تود فيلد عن "في المخدع" وأفضل ممثل: بيلي بوب ثورنتون" عن أفلام ثلاثة لهذا العام وأفضل ممثلة: هال بيري عن "كرة الوحش" وأفضل فيلم أجنبي: "الحب كلب" المكسيك. هذه الجوائز أصبحت مما تعتمد عليه هوليوود من أجل ترويج الأفلام المرشحة للأوسكار. اما الإهتمام الجماهيري العام فمحدود بينما يرتفع لدى هواة السينما وقراء النقد عموماً، خصوصاً أن هذه الأفلام هي من بين زبدة الأعمال الجيدة التي خرجت. وبما أن معظم هذه الجمعيات يتكون من عدد محدود من الأعضاء فإن الفارق بين الفيلم او المخرج او الممثل الرابح وبين ذلك الذي يخسر قد لا يتعدى الصوتين كما حدث هذا العام مع جائزة المجلس الوطني للفيلم حيث فاز "مولهولاند درايف" على "غروسفورد بارك" في نظر العديدين أفضل أفلام ألتمن منذ سنوات بصوتين، وفاز ألتمن على مخرج "مولهولاند درايف" ديفيد لينش بثلاثة أصوات على جائزة أفضل مخرج. سندانس وبالم سبرينغز وسط ذلك كله يقام خلال هذه الفترة أول مهرجانين لهما أهمية كبيرة ولو على صعيد دون آخر. انهما مهرجان "سندانس" للسينما المستقلة و"بالم سبرينغز" الدولي. في السنوات الخمس الأخيرة عزز مهرجان "بالم سبرينغز" مكانته اميركياً باستقدام عدد كبير من الأفلام الأجنبية المرشحة للأوسكار. بذلك ربط بينه وبين ما سيعكف اعضاء أكاديمية العلوم والفنون السينمائية المانحة جوائز الأوسكار على مشاهدته تمهيداً لانتخاب الأفضل بينها. وإلى جانب أنه يحتوي ايضاً على بعض الأفلام الأميركية الحديثة، وعلى عدد من الأفلام الكلاسيكية الصامتة من باب الإحاطة بكل جوانب التاريخ قديماً وحديثاً، فإن "بالم سبرينغز" الواقع في واحة صحراوية تبعد نحو ثلاث ساعات شرقي لوس أنجليس من أكثر مهرجانات العالم هدوءاً. فصل الشتاء يضمن لبلدة بالم سبرينغز، حيث يعيش بعض معتزلي السينما من أجيالها السابقة، جواً لطيفاً ما يجعله الفصل الوحيد الصالح لاستقطاب الحشود. غولدن غلوب الجائزة الثانية من حيث الأهمية في اميركا قد تصبح، اذا ما استمر نجاح أيامها وما تشهده من اهتمام وتحبيذ هوليوود لها، الجائزة الثانية من حيث الأهمية في العالم. حتى وقت ليس بالبعيد كانت لا تزال موضع ريب من قبل هوليوود. بل أن بداياتها المتواضعة أصبحت القالب الذي لا تستطيع جمعية مراسلي هوليوود الأجانب الخروج منه. فهي اعتبرت جمعية متطفلة، وراج أن جلهم مزيّف لا يكتب النقد او الصحافة ويعمل في مجالات أخرى. في الثمانينات كانت سمعتها لا تزال طرية وبعض الفنانين المحتفى بهم في السينما الأميركية يتهرّبون من حضور حفلاتها. منذ مطلع التسعينات أخذت الصورة تتغير. لاحظ الجميع فجأة أن صحافييها أناس جادون يعملون في المهنة ويؤثرون فيها. وأن اختياراتهم من الأفلام والشخصيات الفائزة قد تكون ذات نفع كبير اذا ما جيّرت لمصلحة ترويج الأفلام في معركة الأوسكار. الأهم من هذا وذاك حقيقتان: ان جوائز "الغولدن غلوب" ومنذ السبعينات وهي أسست قبل ذلك بعقدين بدأت تتنبأ بما سيكون عليه حال "الأوسكار". فكونها تسبق نتائج الأوسكار بشهرين كاملين منحها القوّة في أن تصبح النتائج التي ستنسخ عنها الجائزة الأخرى. الحقيقة الثانية التي تقف وراء نجاح جائزة "الغولدن غلوب" هي أن حيز الأفلام الأميركية من السوق العالمية تضاعف كثيراً عما كان الحال عليه في مطلع الثمانينات. مهرجان برلين لا يهدد جو الحفلات جدية المناسبة، وينصرف الجميع وهم يتساءلون عمن من تلك الأسماء التي رشحت والتي فاز بعضها سيظهر من جديد حين تعلن أكاديمية العلوم والفنون السينمائية ترشيحاتها الرسمية. الى أن يأتي الجواب في مطلع الأسبوع الثاني من شهر شباط فبراير، هناك فرصة لمشاهدة بعض الأفلام الأكثر تردداً في هذا الموسم على شاشات مهرجان برلين السينمائي الدولي. أحد هذه الأفلام التي ستشهد عرضها العالمي الأول في برلين هو "عقل جميل" لرون هوارد بطولة راسل كراو، اد هاريس وجينفر كونولي. و"علي" لمايكل مان مع ويل سميث مؤدياً شخصية الملاكم الأشهر. سيقام "برلين" هذا العام ما بين السادس والسابع عشر من شباط تحت إدارة جديدة. برلين هو أكثر ثباتاًَ من منافسه "البندقية" الذي يتعرض كل عام او عامين لتدخل السياسيين الأيطاليين ليصبح موضع تجاذب بين خصمين دائمين في الحياة السياسية الإيطالية اليسار واليمين. أخيراً حاولت الحكومة الإيطالية شراء المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي وتعيينه مديراً للمهرجان خلفاً لرئيسه اليساري الحالي، لكن سكورسيزي فهم اللعبة وأخبر المتصلين به أنه لا يجد نفسه في منصب إداري ويفضل البقاء في السينما مخرجاً وليس موظفاً. هذا العام سيتم الإحتفاء بمايكل أنجلو أنطونيوني وكاترين دينوف. وفي حين أن المرء شبع احتفاء بها، على رغم قيمة بعض أفلامها في السبعينات خصوصاً، الا أن الاحتفاء بانطونيوني هو أمر محبب للنقاد والجمهور المثقف. كذلك سيتم تقديم حلقة دراسية عن سينما الستينات تضم اليها أعمالاً لجان لوك غودار والبريطاني الراحل ليندساي أندرسون من بين آخرين. هناك اشتراكات هندية وهولندية ومجرية والمانية تأكدت لكن المهرجان لم يكشف بعد كل اوراقه حتى اللحظة. ثم "الأوسكار" موسم الجوائز بعد "برلين" يقترب من بيت القصيد. صحيح أن هناك جائزة الفيلم المستقل التي تزداد أهمية عاماً بعد عام بسبب ارتفاع نسبة الأفلام المستقلة المعروضة على نطاق تجاري في اميركا، وجائزة "جمعية المخرجين" لأفضل مخرج لكونها جائزة يمنحها أهل البيت لواحد منهم، الا أن العيون تبقى منصبة على الحفلة الأكبر. ومع عدم صدور الترشيحات النهائية بعد، فإن ما لدينا هو التنافس الشديد الذي تشهده مسابقة الأفلام الأجنبية. انها المرحلة الأخيرة قبل اختيار الترشيحات الرئيسية التي قيل أن فيلم "أرض الخوف" لداوود عبدالسيد فقد حظه فيها بسبب عدم حماسة منتجيه لصرف كلفة ارسال نسخة نظيفة الى الأكاديمية. على اي حال هناك فيلم عربي مشترك في هذه المرحلة هو "انشالله الأحد" ليمينة بنغيغي، دراما عائلية عن امرأة جزائرية تنتقل الى فرنسا - السبعينات لتقابل زوجها الذي لم تلتق به من قبل اذ تم تزويجها بالمراسلة. الفيلم كان ربح جائزة النقاد الدوليين فيبريسي خلال عرضه في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي وأثار حديثاً ايجابياً خلال عروضه الفرنسية في الفترة ذاتها. هذا الفيلم لن يكون أقوى الأفلام المتنافسة على الوصول الى الترشيحات الرسمية. لا الظرف السياسي مناسب ولا خلت العديد من الأفلام الأخرى من ايجابيات مماثلة او أكثر مما هو متوافر للفيلم الجزائري. الأضواء الفعلية ستسلط على "أرض لا أحد" لدانيس تانوفيتش المقدم بإسم بوسنيا والهرسك - وهو سبق أن حصد عدداً كبيراً من الجوائز منذ أن عرض أول مرة في "كان" أفضل سيناريو كما حصل على جائزة الجمهور في مهرجان سان سابستيان. "أرض لا أحد" بنظرته السياسية الواعية سينافس "إميلي" بأسلوبه الكوميدي الراقي. والإثنان سيجدان في الفيلم البلجيكي "بولين وبوليت" وفي الفيلم الإيراني "باران" لماجد ماجيدي من أفضل أفلام العام الفائت وفي الفيلم الايطالي "غرفة الإبن" لناني موريتي منافسين أقوياء. هناك اشتراك اسرائيلي كالعادة هذه المرة في فيلم بعنوان "زواج متأخر" أخرجه دوفر كوشافيلي عن أم تعارض زواج إبنها من يهودية مغربية واشتراك من إخراج فتى لبناني هو جوزف فارس الذي صنع فيلماً ذكياً خفيفاً بعنوان "يللا يللا" مقدم بإسم السويد لكنه من المحتمل أن لا يصل اي منهما الى النتائج النهائية على اي حال.