تحتل تجربة محمد البساطي حقلها الخاص والفريد في الرواية العربية. هذا الكاتب المصري قدم في رواياته حبكات تبنى انطلاقاً من طاقة بصرية جذابة، ومن صور تبقى. هنا حوار مع صاحب "بيوت وراء الأشجار" و"صخب البحيرة": تتميز أعمال محمد البساطي بالحس الهادئ المتأمل إذ ليست هناك نيات مسبقة لإحداث التدفق السردي، كما أن هاجس التجاوز لا يشغله كثيراً. يمتلك حكايته الخاصة التي يسردها ببساطة، غير أن حميمية السرد لا تفارقها، ومصداقية التجاوب مع ما يحيط بها من مؤثرات، وما يصب فيها من معطيات ليست بمعزل عن الرؤية العامة. البساطي لا ينزعج كثيراً ايضاً من اتهامه بأدلجة او تسييس مصادر استهلاماته القصصية والروائية، فهو يرى أن الابداع منتج انساني يقع بالضرورة وعلى نحو تلقائي تحت تأثير معطيات سياسية او اجتماعية كما أنه نتاج يقع ايضاً تحت تأثير التراكم المعرفي بأطيافه. جاء جيل نجيب محفوظ بعد جيل العقاد وطه حسين والشرقاوي، وجئتم انتم بعد جيل نجيب محفوظ، كيف تحقق لكم الحضور الروائي، وما طبيعة التجاوز الذي حققه جيلكم للرواية؟ - أولاً كلمة تجاوز كلمة كبيرة لا يمكن القطع بها ليس عند مقارنة عطاء جيلين متعاقبين وانما عند مقارنة روائي بروائي آخر فليس هناك كاتب يتجاوز كاتباً وانما هناك كاتب يختلف جملة وتفصيلاً عن كاتب. لقد قال نجيب محفوظ شهادته في اعماله الروائية الرائعة، غير أن هذا لا يمنع أن تكون هناك كتابات اخرى رائعة معه او بعده، وهي كتابات بالضرورة مختلفة، ورصد هذه الاعمال ودراستها وتوصيفها يحتاج الى جهد نقدي، ومتعتي التي كانت تتحقق اثناء قراءتي لنجيب محفوظ كانت تتحقق ايضاً بقراءة اعمال لكتاب معاصرين اعتبرها علامات ما بعد محفوظ وجيله. أما ملامح الاختلاف ذاتها فهذه مهمة ناقد، غير أنني أذكر في العموم من بين هذه العلاقات الاسهامات الروائية لجيل الستينات فضلاً عن الاسهامات الشابة التي تصدر بين حين وآخر وتبنى بمستوى رائع في الكتابة. لعل اجابتك تقودني للوقوف على رصدك للمشهد في داخل موقع من مواقع الرصد وأعني "سلسلة أصوات"، فلنرصد تفاصيلَ اخرى لهذا المشهد الذي أراك متفائلاً به وبمستقبله؟ - هناك نماذج حرصت على إصدارها من خلال "سلسلة أصوات" بدءاً بجيل الثمانينات وانتهاء بالجيل الحالي، ولعل من بين الدلائل الاخرى على انتعاش المشهد الروائي هو اتساع ظاهرة الروائيات وللمرة الاولى في مصر تجد هذه الكوكبة النسائية المتميزة الاعمال والتي تمثل سيمفونية ابداعية مصاحبة لحركة تحرر نسائي يتسع نطاقها من جيل الى جيل غير أن العطاء الرائع للشباب لم تتشكل له ملامح واضحة تستطيع رصدها بسهولة وهي محاولات رائعة، كثيراً ما كنت اقارنها ببداياتي فأجدها اروع وأجمل. ألم يشكل تحققهم صعوبة خصوصاً أن جيلكم ظهر إبان عنفوان الحضور لجيل نجيب محفوظ ومعه يوسف ادريس ويحيى حقي وسعد مكاوي وغيرهم؟ - نحن لم يشغلنا الدخول في المقارنة ايماناً بالتعدد والاختلاف من زمن الى زمن ولذلك فقد استلمنا الراية ممن سبقونا وشاركناهم مواصلة المسيرة، التراث الروائي لجيل محفوظ كان قليلاً في الاسماء والأعمال والتعدد، تمثل في انتاج يوسف ادريس والشرقاوي ويحيى حقي وسعد مكاوي وهذا لم يشكل صعوبة الآن، هناك تراث رائع تربينا عليه واتصور أن المهمة كانت أكثر صعوبة إزاء نجيب محفوظ لأنه لم تكن تسبق مرحلته مرحلة غنية بالتعدد الروائي، أما جيلنا فقد كان أسعد حظاً من جيل نجيب محفوظ لأن الستينات شهدت حركة ترجمة نشطة فعرفنا الكُتاب الكبار في الغرب ونحن في سن مبكرة، اذاً فقد انفتحنا على نتاج ما قبل نجيب محفوظ وعلى نتاج جيل نجيب محفوظ وعلى أعمال الغرب فضلاً عن موروثنا الابداعي من الطهطاوي وقاسم أمين الى طه حسين وصولاً الى نجيب محفوظ. من منطلق الاختلاف والمغايرة، ما طبيعة الاختلاف الذي حققه جيلكم؟ - انا لا أعترف بقصدية تحقيق كتابة مغايرة، فهو أمر يتحقق تلقائياً من خلال تضافر موهبة الكاتب مع تراكمه الخاص ثقافياً وانسانياً، والذين كتبوا بقصدية التجاوز أو التجاور مع قامات اخرى كقامة يوسف ادريس مثلاً سرعان ما افلسوا وتوقفوا، يجب أن ننظر الى الكتابة باعتبارها طقساً خاصاً جداً، وعلى رغم وجود قسمة مشتركة او أرضية مشتركة لجيلنا إلا أنه كان متعدد الوجوه والاصوات، ولعل من بين القسمات المشتركة أنه كان الجيل الوحيد الذي عبر عن ثورة تموز يوليو في نجاحاتها وانكساراتها. أنت ابن جيل تربى على أرضية سياسية مشتركة، وواحد من جيل الثورة، الذي تجلى في إسهاماته ارتباط الادب بالواقع المعاش والظرف التاريخي المهم، في أي من أعمالك تجلى هذا؟ - ستجد هذا موجوداً في أكثر من عمل، ولم تخل رواية من هذا بدءاً برواية "بيوت وراء الاشجار" والتي دارت عن 67 والتهجير، وقصة الثأر، وتندهش حينما تعلم أنني كتبت رواية "التاجر والنقاش" في ظروف غريبة، وأذكر أنني كنت في نقابة الصحافيين وكان عبدالناصر يلقي خطاب التنحي وأفاجأ بكل مجموعة المثقفين ينهارون على السلالم ويبكون كالاطفال، وكانت صورة عبدالناصر على شاشة التلفزيون تفجر داخلي أفكاراً رهيبة، فهأنذا أرى هذا العملاق يتهدل وينهار، فتشعر وكأن سكيناً ينغرس في قلبك، هذه اللحظة استدعيتها وأنا أكتب "التاجر والنقاش" وربما كانت هي المفجر الأساسي، وهذا الارتباط لم يتجلّ لدي فقط وانما تجلى لدى كل فرسان جيلي كارتباط منطقي وموضوعي لفترة شديدة الاضطراب، ويصبح كل ما يكتبه مبدع يعيش هذه الفترة ترفاً إذا لم يتأثر بضغوط هذه اللحظة التاريخية ويصبح شعار الكتابة للكتابة كأنه إعلان عن جريمة، وكأن الكتابة خارج سطوة هذا المناخ تؤسس لظرف هلامي وهمي من صنع الكاتب وليس هناك قصدية في الاستجابة لمؤثرات هذا الظرف التاريخي، وانما كنا نجد الكتابة وكأنها تقودنا، وأقول انه في العموم داخل أي روائي جهاز قياس واستشعار تلقائي يقوده للاستجابة لحالة ما عامة، وهذا الحس الرصدي يأتي عفوياً نتيجة لارتباطك الفطري بوطنك وبالظروف التي يجتازها. لكن هذا الارتباط لم يتجلّ لدى اجيال أخرى على رغم ترسخ فكرة الوطن في وجدانهم؟ - لأننا كنا جيلاً مترابطاً من خلال صداقاتنا القوية، أما الكُتاب الجدد على رغم ابداعاتهم الجميلة إلا أن كل واحد منهم يعيش عالمه الخاص، والظرف العام يترك تأثيره في المجموعات المترابطة التي يربطها هاجس انساني وقومي مشترك، غير أن كتاباتهم جسدت الفترة الرديئة الملامح التي نعيش فيها انفصالاً كلياً وتفصيلياً. قيل ان كثراً وقعوا في شرك الواقعية السحرية، والذين نجوا من تأثيرها في بداياتهم هم الذين واصلوا وتحققوا بقوة؟ - نعم، منهم من وقع في براثنها بالفعل لاحتشادها بالسحر والخيال، ومنهم من استسهل الأمر وظلت هذه الكتابة سهلة القياد على رغم صعوبتها، ولم ينتبهوا الى أنها لا تشكل قناعات حقيقية للكاتب في مصر، ومن تنبه منهم غيّر مساره تماماً ونجح في الافلات بموهبته من هذا السحر وحقق إشباعه الحقيقي، ولعل ذلك يذكرني كذلك بمن استسهلوا السير على نهج غوركي وتشيكوف وهيمنغواي فلم يستمروا ايضاً. ولعلني لا أنكر أن بعض مَن واصلوا من جيلي قد تأثر كذلك بكل هؤلاء، ولكن على صعيد الاسلوبية وبعض جوانب المعمار، غير أننا حققنا كتابة محايدة، كما لا أنكر أننا تأثرنا بيوسف ادريس ويحيى حقي وكانت تجليات هذا التأثر متمثلة في اهمية اللغة والعبارة القصصية وعطر الجملة، وعلى صعيدي الخاص فإن أكثر ما تأثرت به من فن الحكي هو "الف ليلة وليلة" ويمكن أن نجد اصداء هذا التأثر واضحة في روايتي الاخيرة. في سياق توالد الحكايات وعبقرية الف ليلة تكمن في تأثيراتها المغايرة في كل روائي بشكل مختلف حتى على الكُتاب الاجانب. يصف البعض ابداعاتك بأنها ذات نفَس هادئ وتنأى عن الكتابة المتدافعة الساخنة الطابع، فالى اي حد يصح هذا التصور؟ - انا بطبعي أبعد عن الكتابة المثيرة، ولو راودتني فإنني أحجمها في الحال، عندك مثلاً "صخب البحيرة" محتشدة بالصراعات لكنها لا تتضمن موقفاً صدامياً واحداً، وأتصور أن الروايات ذات الحس الهادئ أكثر تأثيراً، فالانفجارات الكثيرة داخل العمل تضيّع زهوه، وتقصّر عمره، كل ما يهمني أن أحقق الحبكة، وأحقق التوتر دونما افتعال الانفجار مع حرصي على ان يكون العمل حيادياً.