بدأ بهاء طاهر مسيرته الإبداعية بكتابة المسرح، ونشر مسرحيتين، غير أن اغترابه في جنيف، وبداية رحلة الانهيار التي أصابت المسرح المصري حولا اتجاهه تماماً إلى دراسة التاريخ وكتابة القصة والرواية. وخلال سنوات استطاع طاهر ان يحتل موقعاً بارزاً في حركة الرواية المصرية الجديدة والعربية ايضاًَ وتشهد اعماله القصصية والروائية على تجربته المميزة والفريدة. قبل ايام باشرت دار الآداب في بيروت اعادة اصدار اعمال بهاء طاهر القصصية والروائية في طبعات عربية جديدة. هنا حوار معه في المناسبة. تصور البعض أن دراستك للتاريخ اقتصر تأثيرها على "أنا الملك جئت" حيث كان التأثير أكثر جلاء فيما خفت هذا التأثير في الأعمال الأخرى. لنبدأ من التاريخ ذاته ورؤيتك اليه روائياً.. وعلاقتك به؟ - فهمي للتاريخ قد يختلف كثيراً عن فهم الآخرين له، فالتاريخ ليس أحداثاً ماضية أو تامة أو ميتة إنما هو فعل متجدد، ولذلك وقعت في عشقه منذ كنت طالباً، بل كنت عضواً ثم رئيساً للجمعية التاريخية في المدرسة. ومن وجهة نظري كروائي أتصور أن دراسة التاريخ أحد الأسس المهمة في عدة المثقف والروائي لأن التاريخ حاضر ممتد، وحاضرنا الآن ما هو إلا نتاج مراحل تاريخية ومتعاقبة ومختلفة، وأعتقد أن الخبرة التاريخية والوعي التاريخي لدى أي كاتب ينعكسان على كتاباته ليس بالضرورة في ما يكتبه عن الماضي وإنما - وبالأخص - في ما يكتبه عن الحاضر. هل كان وصفك للإنسان المصري في أحد أحاديثك بأنه كائن جيولوجي مرادفاً تاريخياً للرؤية الجغرافية لجمال حمدان.. ومرجعيته الإنسانية والمعرفية هي جمع لتراكمات حضارية وتاريخية؟ - بالضبط، ذلك أننا كما نُعنى بدراسة الطبقات الأرضية في دراسة الجيولوجيا، وكما عُني العبقري جمال حمدان بارتباط شخصية المكان بشخصية البشر والعكس، فهناك مرادف تاريخي وحضاري لهذه الرؤية، فإننا حينما نعنى بدراسة الطبقات التاريخية لوطن ما أو بلد ما، يمكننا التعرف على جانب مهم من سمات البشر في هذا البلد. ذلك أن الجيولوجيا البشرية المصرية عجيبة التكوين من حيث تعاقب المراحل التاريخية على الشخصية المصرية. وقد بدت هذه الشخصية في مجمل سماتها معادلاً إنسانياً للتركيبة التاريخية لهذا البلد. وأزعم أننا في حاجة لعبقرية مماثلة الى عبقرية جمال حمدان في ما يتعلق بدراسة التكوين التاريخي لهذا الإنسان، وسأبوح لك بسر، أن هذه القضية شغلتني منذ دراستي الجامعية، وبمجرد أن عملت في البرنامج الثقافي عرضت على استاذنا محمد شفيق غربال أن يكتب لنا دراسات عن هذه الجيولوجيا التاريخية الفريدة للإذاعة فكتب لنا سبع حلقات وضع يده فيها على عناصر بالغة الذكاء والأهمية، وطبعها في كتيب صدر عن وزارة الإرشاد في عهد الاستاذ فتحي رضوان. ولكننا لا زلنا في حاجة للغوص في البحار العميقة التي خاض فيها جمال حمدان ولكن على المستوى التاريخي، وربما لشدة اهتمامي بهذا الأمر وانشغالي الدائم به اشتبكت معه روائياً. اننا في حاجة الى دراسات متعمقة في هذا المجال. وصف أحد الزملاء، ومن بعده آخرون بأن جيلكم هو جيل الهزيمة، هل هذا التوصيف ينطوي على تصنيف إبداع هذا الجيل، وفقاً لملامح وسمات لحظة تاريخية وسياسية؟ - أنا لا أعرف ما هو المقصود بجيل الهزيمة، وفقاً لأي معنى كان فهل كان الجيل السابق علينا جيل انتصار؟ أو اللاحق علينا جيل انتصار؟ لعل القصد من ذلك هو الإشارة الى أن كتاباتنا ونحن في مطلع الشباب كانت متزامنة مع هزيمة 67، ولكنني لا أتصور أن الهزيمة قد اقتصر تأثيرها على الكتّاب الذين يكتبون في حينها، وإنما أمتد تأثيرها على أجيال أخرى، وإذا كانت تهمة بأننا كرسنا لمعاني الهزيمة في أعمالنا فإنها تهمة تمتد لأجيال ولعلني لا أذكر قائل بيت الشعر "نحن من قبل الهزيمة قد هُزِمْنا". ولكن هناك هزائم أخرى فادحة كذلك كالهزائم القيمية. ولعل وصف جيلنا بأنه جيل الهزيمة يكون مسيئاً في حالة واحدة وهي إذا كان جيلنا قد بشّر بها في الوقت الذي أتصور فيه أن جيلنا هو أكثر الأجيال التي دفعت ثمناً غالياً لهذه الهزيمة لذلك فقد كان جيلاً مقاوماً لها. ليست العلاقة بالتاريخ هي المنطقة الوحيدة التي تحرك فيها أدبنا العربي، وإنما العلاقة بالآخر أيضاً التي عبر عنها غير عمل من الأعمال الروائية العربية ليحيى حقي وطه حسين وسليمان فياض والطيب صالح وسهيل إدريس وغيرهم، ولديك أخذت العلاقة شكلاً مغايراً فهل يمكننا الوقوف عنده؟ - إجابتي الدائمة على هذا السؤال، ومع احترامي لكل النماذج التي ذكرتها فإنني لم أنظر للآخر من منظور الاختلاف وإنما من منظور التشابه بمعنى أنني كنت معنياً بالبحث عن المشترك الإنساني بين أي إنسان وأي "آخر". وقد كان الاهتمام بالآخر في تصوري أكثر جلاءً في رواية "خالتي صفية والدير" وليس في رواية "بالأمس حلمت بك" أو "الحب في المنفى"، حيث كنت معنياً بالبحث عن المشترك بيني وبين المختلف عني. ولكن ذلك موجود أيضاً بصورة أو بأخرى في القصص التي لم تتناول العلاقة بين الشمال والجنوب والشرق والغرب. أما في "خالتي صفية والدير" فإن المسألة هي أن الهمّ الإنساني همّ واحد. وهذا ما تقوله بوضوح رواية "الحب في المنفى" حيث تعرض عليك مشاكل بعض الشخصيات من شيلي وأميركا اللاتينية وغينيا وصبرا وشاتيلا. وعلى ما أعتقد فما أحاول أن أوصله عبر الكتابة هو أن الخلاص الفردي فكرة مستحيلة حيث نحتاج دائماً التضامن الإنساني للخروج من المأزق الحضاري حتى وإن اختلفت مشاربنا وجنسياتنا. بعد قراءتي لأعمالك لاحظت أن هناك منهجاً روائياً ثابتاً، يجمع ما بينها، علماً ان آلية الكتابة متنوعة لديك؟ - في الأساس أنا لديّ حساسية مرضية في أن أكرر نفسي، وأؤكد لك أن ما أحجبه عن النشر أكثر بكثير مما أنشره، ولا بد أن تكون لديّ قناعة بأنني أحقق إضافة نوعية الى ما سبق أن قدمته، وأعتقد مخلصاً أن هذا النهج هو الأفضل في جميع الأحوال وبالنسبة لكل كاتب، فكثيراً ما كنت أقرأ أعمالاً لكتّاب أشعر أنها إضافة كمية أو مكررة لأعمال سابقة. طبيعة الحوار داخل أعمالك الروائية، واحتشاد المشهد بالتفاصيل الموظفة جيداً، والنصوص المسرحية التي كتبتها ونشرتها في مستهل مسيرتك الإبداعية كلها تؤكد أنك كاتب مسرحي متميز، فلماذا لم تستمر في هذه التجربة؟ - بالفعل كتبت مسرحيتين في بداية حياتي، ونشرتهما، وهما أول ما نشرت، وأنا عاشق للمسرح جداً، وكتبت في النقد المسرحي على مدى خمسة أعوام في مجلة "الكاتب" كما اصدرت الدراسات التي نشرتها في كتاب "عشر مسرحيات مصرية". ولكن ربما استشعرت في نفسى أنني مؤهل أكثر لكتابة القصة والرواية، ثم إنني - عندما بدأت الكتابة القصصية بشكل منتظم كان المسرح في حالة انحسار اعقبت حالة الانتعاش في الستينات، بعدما تعرض لضربات متلاحقة استهدفته وانتهت بالقضاء عليه، كما ذكر الناقد فاروق عبدالقادر في كتابه "صعود وانكسار المسرح المصري". أود أن أتوقف معك عند مقال كتبه الناقد عبدالقادر القط عن روايتك "قالت ضحى" فقد لاحظت أن جانباً كبيراً في هذا المقال كان عن الأسطورة؟ - للناقد القط وجهة نظر أعرفها جيداً في هذه الدراسة، فهو يرى ضرورة أن تتخلل العمل من بدايته، ولكن كان هناك مقابل آخر أيضاً مثل نقد الراحل علي الراعي، وغيره الذين رأوا أنه ليس ثمة منهج واحد متبع في التعامل إبداعياً مع الأسطورة، والمهم في جميع الأحوال هو قدرة العمل على الامتاع والوصول الى القارئ، ومن دون قدر كبير من الغرور. أعتقد أن النجاح الذي حققته "قالت ضحى" لدى نشرها، والدراسات الكثيرة التي نشرت عنها في ذلك الحين، وحتى وقتنا شهادة تبرئة للرواية من هذه التهمة. لاحظنا - في الستينات - أن المبدع والمثقف كان يلعب دوراً تنويرياً بل ثورياً وريادياً بالنسبة للجماعة في المجتمع، وقد شهد هذا الدور انحساراً واضحاً، بل إن المثقف والمبدع أصبحا يعيشان مأزقاً هو العزلة عن الجماعة والمجتمع.. كيف ترى هذا الأمر؟ - أزعم أن المثقف المصري يواصل في ظل ظروف هي شديدة الصعوبة الدور الذي بدأه المثقفون المصريون في منتصف القرن الماضي. وأذهب أبعد من ذلك إذ أقول إنهم يلعبون هذا الدور بالطاقة نفسها، والسؤال الواجب طرحه الآن هو لماذا تخلت أجهزة الثقافة والتعليم عن احتضان هذه الأدوار والمهمات؟ المبدعون والمثقفون هم أكثر الناس قبضاً على جمر التجربة السياسية، وعندما نقرأ بعض الأعمال الروائية نجد الموقف الإيديولوجي والسياسي للمبدع وارداً على نحو ظاهر يقترب من حدود وجهة النظر السياسية التي ترد على لسان أحد شخوص أعماله وليست داخله في نسيج العمل الروائي، فعلى أي نحو ينبغي أن تكون شهادة الروائي في تصورك؟ - الإيديولوجيا في كثير من الأحوال تؤثر سلباً على العمل الإبداعي، وخصوصاً عندما ترد على نحو ظاهر كما ذكرت أنت، وخير مثال على ذلك تلك الأعمال التي صدرت في الفترة السوفياتية الستالينية. فالكتابة الإبداعية تتعرض لمناطق إنسانية وكيان إنساني والسياسة أحد جوانبه وإحدى طبقاته. والاعتماد على البعد الايديولوجي لهذه الذات الإنسانية من شأنه أن يفضي الى عمل أدبي فقير. أود أن أحصل على رأيك في المشهد الروائي ما بعد مرحلة نجيب محفوظ.. كيف تراه؟ - أراه بكل تفاؤل، وبكل تقدير، ولست مبالغاً حينما أقول - على رغم أني لست مؤهلاً لإطلاق الأحكام - أن هناك علامات روائية ممتازة في المشهد العربي، والرواية المصرية تشهد ثراءً لا يكاد الإنسان يلاحقه وهذا الثراء يجسده عطاء الأجيال المتعاقبة، والموجودة في الساحة الآن. وتوجد بين أعمال الشباب أعمال فاتنة، وهي في الوقت نفسه أفضل ما يعبر عن الفترة الزمنية التي نعيشها. إذا لاحظ البعض أن تفككاً ما قد لحق بالزمن، وأن هناك تشتتاً في الرؤية فذلك من دلائل صدق الاعمال وقدرتها على التقاط سمات وملامح هذا العصر وهذه الفترة التاريخية الصعبة التي نعيشها. وأنا شديد الإعجاب بأعمال روائيين جدد يحضرني منهم الآن منتصر القفاش ومصطفى ذكرى وشحاتة العريان وابراهيم فرغلي وميرال الطحاوي وسعيد نوح وحسني حسن وغيرهم.