"كتاب تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين عمل مرجعي جليل، هو تتويج معاصر لتراث قديم بدأ عند ابن النديم في الفهرست المؤلف عام 377 ه. ثم وصل الى درجة من الشمول والاحاطة عند طاش كبرى زاده المتوفى 968 ه. في مفتاح السعادة، وعند حاجي خليفة المتوفى 1067 في كشف الظنون، واسماعيل البغدادي المتوفى 1339 ه. في هداية العارفين". هذه الفقرة الواردة في التقديم الذي وضعه الدكتور محمود فهمي حجازي، للترجمة العربية لكتاب المؤلف التركي فؤاد سزكين الذي يعتبر اوفى مرجع وضع في القرن العشرين عن تاريخ التراث العربي، تحدد الشجرة العائلية المختصرة لتيار موسوعي عربي اهتم دائماً بدراسة المؤلفات العربية في شتى حقول المعرفة، ووصل الى اوجه مع الالماني كارل بروكلمان كما مع فؤاد سزكين الذي اشتغل، اصلاً، على عمله، لكي يطور عمل بروكلمان ويحدثه. والمهم، هنا، بالنسبة الينا، ان شجرة العائلة هذه تغوص في الزمن حتى "فهرست" ابن النديم الذي يبدو رائداً كسفر اول في هذا السياق، وهو ما يجمع عليه العلماء والباحثون والمؤرخون. فهؤلاء يقولون ان "الفهرست" اذ وضع في اوجه ازدهار الفكر العربي، اتى ليؤرخ لذلك الفكر، حتى زمنه في اداء موسوعي لم يكن معروفاً من قبل. وفي هذا الاطار يبدو ابن النديم شديد التواضع حين يكتفي بأن يقدم لكتابه، الذي سيعيش طويلاً من بعده بهذه العبارات المقتضبة: "النفوس، اطال الله بقاء السيد الفاضل، نشرئب الى النتائج من دون المقدمات، ونرتاح الى الغرض المقصود، من دون التطويل في العبارات. فلذلك اقتصرنا على هذه الكلمات في صدر كتابنا هذا، إن كانت دالة على ما قصدناه في تأليفه ان شاء الله فنقول ...: هذا فهرست كتب جميع الأمم، من العرب والعجم، الموجود منها بلغة العرب وحكمها في اصناف العلوم، وأخبار مصنفيها، وطبقات مؤلفيها، وانسابهم، وتاريخ مواليدهم، ومبلغ اعمارهم، وأوقات وفاتهم، وأماكن بلدانهم ومناقبهم، ومثالهم، منذ ابتداء كل علم اخترع، الى يومنا هذا وهو سنة سبع وسبعين وثلثمئة للهجرة". اذاً، نحن هنا في صلب العمل الموسوعي الذي لم يكن معروفاً عهد ذاك، فيمكن القول والحال هذه، ان ابن النديم، فيما كان يجمع ويصنف، لم يكن يدري تماماً انه في عمله ذاك انما كان يبتكر صنفاً علمياً، سيسهم لدى امم اخرى لاحقاً، في بناء عصور النهضة والتنوير ويكون له اثر كبير في نوعية انتجت انعطافات حضارية. ومن الواضح ان هذه لم تكن غاية ابن النديم. فهذا الرجل - الذي لا يُعرف الكثير عن حياته - كان مجرد وراق ينسخ الكتب ويبيعها. وهو اعتاد كما يبدو ان يدون جانباً معلومات واختصارات تتعلق بالكتب التي يعرفها او يسمع عنها، فاجتمعت له مجموعة كبيرة هي التي صنفها وضمنها كتابه هذا، من دون ان يدري، ايضاً، انه في عمله ذاك خلد ذكر المئات من الكتب التي اختفت تماماً ولم يعد لها من اثر سوى في فصول كتابه، او انه انما يؤسس لتاريخ حقيقي للثقافة العربية ومنتجاتها. غير ان هذا لم يكن كل شيء في كتاب "الفهرست". ذلك ان ابن النديم او النديم بحسب مصادر عدة لم يكتف بالتصنيف والتعريف، بل انه دبج، ايضاً، نصوصاً تحلل باسهاب، كما فعل في "الفن الأول" من المقالة الاولى حيث وصف لغات الأمم من العرب والعجم، ونعوت اقلامها، وأنواع خطوطها وأشكال كتاباتها. من الطبيعي القول هنا ان قروناً طويلة من المعارف الانسانية والتاريخية والفيلولوجية تنسق معظم ما بناه ابن النديم من اسس، وتظهر سذاجة وتبسيطية معظم مدوناته التاريخية، لكن المهم هنا - في اعتقادنا - ليس صحة او خطأ ما يأتي به، علماً ان ما يبدو اليوم خطأ كان يمكن ان يكون حقائق مطلقة في زمن سابق، المهم هو المنهج الذي اتبعه وتوغله في تواريخ حضارية من المدهش اليوم ان نجده، في ذلك الزمن المبكر، خائفاً فيها، وعبر تفاصيل مدهشة. يبدأ ابن النديم، اذاً، بوصف اللغات، وفي مقدمها طبعاً اللغة العربية، بل بحسب تحليله "القلم العربي" الذي "اختلف الناس في اول من وضعه". والمؤلف يردد هنا مختلف الحكايات، الاسطوري منها والواقعي، وصولاً الى البحث في "خطوط المصاحف". ومن "القلم العربي" ينتقل المؤلف الى "القلم السرياني" ف"الفارسي" و"العبراني" و"الرومي" و"الصيني" ... الخ. وهو يورد نماذج من تلك الاقلام، ويشرح الفروق بين قلم وآخر، في المضمون وفي الشكل. ومن اللافت هنا انه، في معظم ما يشرح ويحلل هنا، يستند الى معرفته الشخصية وخبرته، اذ دائماً ما نجده يقول كيف انه التقى بصيني او بفارسي او بيهودي شرح له كذا وكذا. ومن اللغة ينطلق المؤلف الى "اسماء كتب الشرائع المنزلة" فإلى "نعت الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه". وبهذا يختتم المقالة الاولى التي يتبعها بالثانية و"هي ثلاثة فنون في النحويين واللغويين" ويعود هنا الى ابتداء النحو والى اخبار النحويين البصريين ومعنى العرب وأسماء كتبهم، ثم الى الكوفيين ثم الى الذين خلطوا المذهبين البصري والكوفي. وهكذا، اذ يكون ابن النديم قد وضع الأسس ليصبح في امكانه الآن ان يصنف ويؤرخ تباعاً: فنون الأخبار والآداب والسير والانساب 3 فنون. والشعر والشعراء فنّان. الكلام والمتكلمون خمسة فنون. الفقه والفقهاء والمحدثون ثمانية فنون. الفلسفة والعلوم القديمة ثلاثة فنون. الاسماء والخرافات والعزائم والسحر والشعوذة ثلاثة فنون المذاهب والاعتقادات فنّان. اما الجزء الاخير من الكتاب فيكرسه لأخبار "الكيميائيين والصنعويين من الفلاسفة القدماء وأسماء كتبهم". ولكي لا يتبادر الى الذهن ان "الفهرست" كان، كما اعتقد بعض الباحثين، مجرد فهرست لمكتبة عامة او خاصة يحصي ويصنف، لا بد ان نشير الى ان المؤلف، في بعض المواضع والمواضيع اسهب وحلّل وأرخ في شكل اضفى على كتابه سمات استثنائية، اذ نراه يتوقف ليورد، مثلاً، ما يُعَنْونه "حكاية اخرى في امرهم"، ويروح سارداً تاريخ طائفة او جماعة وتاريخ افكارهم وكيف تكونت تلك الافكار كما يفعل مثلاً حين يتحدث عن الكلدانيين والحرانيين. وفي هذا الاطار نفهم كيف صار "الفهرست" مرجعاً اساسياً استندت اليه كتب متبحرة في مواضيعها مثل "الملل والنحل" للشهرستاني الذي يعود الى "الفهرست" مراراً وتكراراً، حيث يبدو هذا الاخير وكأنه مرجعه الاساس. وهو، بالطبع، نفس ما يفعله غير الشهرستاني وصولاً الى كارل بروكلمان وفؤاد سزكين. وفؤاد سزكين يمدنا، على أية حال، بترجمة موجزة لابن النديم تضعه في مكانته، ويحدد ما يرى انه اسمه ونسبه الحقيقيان: ابو الفرج محمد بن ابي يعقوب بن اسحاق النديم الوراق البغدادي. وابن النديم نفسه يفيدنا في كتابه الفهرست انه ولد قبل العام 320 ه. 932 م.، ويذكر انه تعرف باكراً على المفكر المعتزلي ابي بكر البردعي محمد بن عبدالله وتصادقا. ويفيدنا سزكين بأن ابن النديم "يُروى انه ألف بجانب كتابه "الفهرست" كتاباً آخر بعنوان "كتاب التشبيهات" لكننا لا نعلم شيئاً عن هذا الكتاب". ويضيف سزكين: "ترجع مكانة ابن النديم الى انه اول من ألف تاريخاً للتراث العربي قد يكون وحيداً في بابه، ويتضح من المعلومات الواردة فيه، ومن المصادر المختلفة للمقالات ان العرب قد اهتموا في وقت مبكر بتسجيل كتبهم المؤلفة وتصنيفها تصنيفاً موضوعياً". ويرى سزكين ان ابن النديم نفسه قد اشار الى الجهود التي اعتمد عليها "وعلى رغم ذلك، يضيف سزكين، يبقى جهده عظيماً، فهو صاحب اهم كتاب في تاريخ التراث العربي وأكثرها شمولاً" حيث ان مهنته كوراق "أتاحت له ان يرى معظم الكتب التي ذكرها وان يحدد قيمتها العلمية والمادية ... لقد توافر لديه امكان مثل هذا العمل، فقد عرف الكثير وكان حجة ثقة، وأتاحت له حرفته جمع الكثير من المادة. ولكن، على رغم هذا، فاتته - كما يرى سزكين - كثرة من المؤلفات التي نعرفها اليوم من معلومات كثيرة وقديمها وردت عنها في مصادر مبكرة ...". بقي ان نذكر ان ابن النديم، وبحسب رضا تجدّد، احد محققي "الفهرست" في القرن العشرين، من بعد التحقيق لأساس الذي قام به فلوغل، روى عن ابي سعيد السيراني وأبي الفرج الاصفهاني وأبي عبدالله المرزباني وآخرين ولم يرو عنه احد. وتوفي يوم الاربعاء لعشر بقين من شبعان سنة ثمانين وثلاثمئة في بغداد...