تمثل القاعدة العلمية الحديثة والتقنيات المتطورة في عصرنا الحاضر مركز الثقل والمحرك الاساس لتطور الشعوب ورقيّها الاقتصادي والاجتماعي، فالمجتمع الحديث يكون اقتصاده مبنياً على التقدم العلمي والتقني. وقد بينت دراسات حديثة ان هناك علاقة بين التطور الاقتصادي ومستوى الامم المعاشي، وما تنفقه على البحث والتطوير، كما ان نسبة العلماء والمهندسين الى السكان في المجتمع المتقدم هي اعلى من تلك في المجتمعات النامية. ولا تزال الامة العربية والاسلامية اجمالاً في مصاف الدول المتأخرة في انفاقها على العلوم والتقنية والبحوث المتعلقة بها اذ هي اقل من واحد في المئة من الناتج المحلي الاجمالي بينما تمثل ما بين اثنين الى ثلاثة في المئة في الدول المتقدمة وحديثة التصنيع، ويبين ذلك تقرير الاممالمتحدة الاخيرة عن التنمية البشرية في العالم العربي. وبالطبع فإن ذلك لا يعني ان الامة العربية والاسلامية في غفلة من أمرها عن أهمية ذلك، اذ عقدت ندوات ونظمت مؤتمرات عن اهمية هذا الامر، ولكن عوامل عدة حالت دون لحاق هذه الدول بهذا التطور، منها: حالة عدم الاستقرار السياسي في العديد من هذه الدول، والنمو السكاني الكبير الذي يتطلب المزيد من الخدمات الاجتماعية، وفوق ذلك تفتقر هذه الدول الى ادارة الموارد المتاحة ادارة علمية جيدة، هذه العوامل وغيرها، اثر على تخصيص الموارد اللازمة لتطوير التعليم والعلوم والتقنية. غير ان العراق بدأ، اثر تصحيح اسعار النفط في بداية السبعينات وبعد توفر السيولة النقدية اللازمة، برنامجاً طموحاً لتطوير العلوم والتقنية شأنه في ذلك شأن بعض الدول العربية الاخرى، غير ان مجيء الثورة الايرانية ودخوله في صراع معها وما تبع ذلك من تشتيت الجهود والتركيز على المجهود الحربي بدلاً من التركيز على الصناعات المدنية وعلى الصناعة من اجل التصدير ركز جل جهوده على التطوير العسكري، ولم تكن اسرائيل وما يمثله تحديها بحيازتها اسلحة دمار شامل إلا حافزاً للعراق على الدخول في هذا السباق، وبذلك انصرف برنامج التطوير العلمي العراقي اكثر الى مجالات الدفاع وهو امر مفهوم في ظل الحروب كما انه أمر مشروع لدولة ذات سيادة وعضو مؤسس للامم المتحدة، مجهود اميركا، مثلاً خلال الحرب العالمية الثانية، نتج عنه بناء قاعدة علمية كانت الاساس التي انطلقت منها الصناعات المدنية بعد الحرب. ان التحول من التصنيع الحربي الى التصنيع المدني ليس امراً غير مألوف في العديد من الدول، ففي كلا الحالين تكون الحاجة ماسة الى قاعدة علمية متقدمة في فروع الهندسة والعلوم والتقنيات الحديثة والادارة وعدد كبير من المهنيين المدربين مما يعني ان العلماء العراقيون والفنيون يمكن ان يتحولوا الى الصناعات المدنية وبناء الاقتصاد العراقي. ان ما يعنيه طلب اميركا من السيد هانز بليكس نقل العلماء العراقيين خارج العراق مع اسرهم حتى يكون بالامكان استجوابهم، هو تفريغ العراق وتدمير القاعدة العلمية والتقنية التي بناها عبر السنين، كم من السنين التي يأخذها تطوير عالم مبدع او تقني متمرس، وهل يجوز ذلك، اي هل يجوز ان تسلب الخبرة والمعرفة من بلد ظلم بوجود حاكم قاده الى معارك خاسرة. وعلى رغم ان هناك تقارير تقول بوجود خلاف حول ذلك في الادارة الاميركية الا ان الداعين لذلك هم نفس العصابة في وزارة الدفاع الاميركية مثل بول ولفوفيتز نائب وزير الدفاع وريتشارد بيرل رئيس لجنة شؤون الدفاع الاميركية وامثاله من العصابة الصهيونية المتنفذة في وزارة الدفاع الذين عندما تبرز اسماؤهم حول مسألة مثل هذه لا يسع القارىء للاحداث إلا أن يرى أن في الامر ما يخدم مصلحة اسرائيل فمصلحة اميركا وحلفاء اميركا تأتي في الدرجة الثانية بعد مصلحة اسرائيل. ان الفجوة التقنية بين العرب واسرائيل وان كانت لا تزال كبيرة إلا أنها تضيق سنة بعد سنة، ولا شك عندي في انه يمكن بجهود منظمة ومدبرة تضييق هذه الفجوة العلمية على رغم مما يعتقد هؤلاء الضلاليون المضللون بأنه في امكانهم ايقاف التطور التقني والعلمي في العالم العربي والاسلامي بتفريغ العراق من علمائه وفنييه، وذلك من خلال الاغراء أو حتى التصفية الجسدية اذا لزم الامر. ان تدخل اميركا في مسار التفتيش وضغوطها على الرجل المسؤول السيد هانس بليكس هو امر في غاية الغرابة، وخروجه على الاعراف القضائية الدولية، هل يجوز التدخل في سير العدالة، السيد بليكس هو شخص مسؤول عن احقاق الحق حسب قرار مجلس الامن 1441 ويقوم بهذا العمل تحت امرة الامين العام للامم المتحدة. كيف يجوز لمستشارة الرئيس الاميركي للامن القومي السيدة كوندوليزا رايس استدعاءها موظف اممي ومطالبته بانتهاج اسلوب منافي للقانون الدولي، بل تخطي صلاحيات الامين العام للامم المتحدة. السيد كوفي انان والسيد بليكس وغيرهم من موظفي الاممالمتحدة هم موظفون دوليون يستلمون رواتبهم من الاممالمتحدة وليسوا موظفين اميركيين، فهل يفهم الاداريون الاميركيون ذلك ام اصابهم عمى التفرد بالقوة، اين المنطق في هذا، وأي عدالة هذه. الولاياتالمتحدة الآن هي القيادة في العالم وبسلوكها تصنع القاعدة للامم الاخرى فإما أن تكون دولة عظمى تحترم القانون الدولي وتعمل ضمن حدوده ويتصرف مسؤوليها ضمن البروتوكولات المعروفة دولياً، او أن تتصرف كقوة عظمى لديها القوة التي بها تهدد العالم وتفرض شروط القوة خارج الاعراف والقوانين الدولية شأنها في ذلك شأن قطاع الطرق، ان ذهاب الولاياتالمتحدة الى مجلس الامن واستصدار قرار بشأن العراق هو سلوك حضاري على الرغم مما اعترا ذلك من لوي اذرع ومناورات، ان تكون الولاياتالمتحدة ضمن القانون الدولي هو امر يفرج محبي الامن والسلام العالمي والتعايش السلمي بين الشعوب لكن ما نسمعه من تصريحات ونراه من سلوكيات، وان كانت من باب الضغوط على العراق للادلاء بما لديه من اسلحة إلا أنها تمارس خارج الشرعية الدولية، هناك فرق في تصوري بين الامة العظمى والقوة العظمى ولا نعلم حتى الآن اي الاتجاهين ستختاره اميركا لنفسها، اتريد ان تكون امة عظمى ام مجرد دولة عظمى؟ الدولة العظمى هي دولة اجتمع له قوة مادية وسلوك منضبط بمبادىء وقيم انسانية راقية، قوامها الحق والعدل والانصاف، تتصرف حسب الشرعية الدولية، اما القوة العظمى فهي دولة لها قوة مادية ولكنها تفتقر للمباديء والقيم الانسانية الراقية التي يبنى عليها الحق والعدل والانصاف وسلوكهما محكوم بالمصالح الخاصة التي لا تخضع لمبادىء الحق والعدل. تفريغ العراق من علمائه وباحثيه فيه ظلم واعتداء ومجانبة للحق والعدل والانصاف ليس للشعب العراقي وحده بل للعالمين العربي والاسلامي وحرمان شعوبها من حقها في التطور الاقتصادي والاجتماعي والرقي الحضاري، كما ان إجبار اي انسان على مغادرة وطنه مخالف لحقوق الانسان التي تدعي الولاياتالمتحدة الدفاع عنها. عضو مجلس الشورى السعودي.