يُحب إسرار حقاني، البالغ من العمر ثلاثين عاماً والذي يلقبه أتباعه ب"مولانا"، أن يمضي المساءات مُختلياً في "حجرة" مكونة من غرفتين صغيرتين واقعتين فوق منزله في بلدة مردان، وسط إقليم سرحد الحدودي الباكستاني المجاور لأفغانستان. ولكن في هذه الأيام تمتلئ "الحجرة" كل مساء برجال أشداء ملتحين من ذوي الملامح الحادة التي تشير الى أصول بشتونية، حاملين رشاشات الكلاشنيكوف. ويستمر الضيوف في الدخول والخروج من المكان حتى وقت متقدم من المساء، وينتشر بينهم صبيان يحملون القهوة والحلوى. حقاني، الجالس معتمراً عمامة سوداء، يبدو صغير السن أكثر فأكثر بين ضيوفه من أعيان المنطقة من ذوي اللحى البيضاء الذين يفدون لتهنئته بالفوز في الانتخابات البرلمانية الباكستانية. وينتمي حقاني الى "متحدة مجلس عمل" مثلما تسمى محلياً، أو "مجلس العمل المتحد" كما هي في أصلها العربي، وهو ائتلاف الأحزاب الدينية الباكستانية الذي شارك في الانتخابات استناداً الى لائحة موحدة. وقال حقاني في لقاء مع "الحياة" جالساً بين ضيوفه: "وافقت على تحمل هذه المسؤولية عندما رشحني نحو 350 من علماء الدين في المجلس لخوض الانتخابات ... وقلت للناس أثناء الحملة الانتخابية بأنني لن أبني لهم الشوارع والمدارس بل سأعمل على تطبيق الشريعة". وينتمي حقاني الى أسرة من الطبقة الوسطى في المنطقة. تُدير شقيقته الصغرى مدرسة دينية خاصة للبنات، ويعمل أشقاؤه في وظائف حكومية. ولكن في حلقة انتخابية أخرى قريبة، هناك شاب يبلغ من العمر 26 عاماً اسمه أمانت شاه، يعمل إماماً لمسجد قرية، تخرج من الجامعة الدينية ذاتها التي درس فيها زعيم "طالبان" الملا عمر، وربما بات اليوم أصغر عضو برلمان في تاريخ باكستان الديموقراطي. ينتمي أمانت شاه الى أصول متواضعة، إذ يعمل والده في حقول تملكها أسر إقطاعية، واستدان قيمة تسجيل اسمه في كشوفات المرشحين للانتخابات من صديق له. وتكفل مناصروه بمصاريف الحملة الانتخابية، من السيارة ذات الدفع الرباعي الى طباعة الملصقات وشراء هاتف خلوي له. وعقب فوزه، جاءه ناخب من أبناء المنطقة ليركب له خطاً هاتفياً في منزله للمرة الأولى، على رغم أن والده اعترض على ذلك قائلاً: "من سيدفع الفاتورة الشهرية؟". شاه، الذي يمثل مجلس العمل المتحد، سحق في الانتخابات مرشحي العائلات النافذة والمنتمية الى كل من حزب الشعب التابع لبينظير بوتو، وحزب "عوامي قومي" اليساري. بل إن هذا الحزب الأخير الذي كان يُنظر إليه كممثل لتطلعات البشتون القومية، خرج تقريباً من الحياة السياسية في البلد، وقدم زعماؤه استقالات جماعية عقب إعلان نتائج الاقتراع. ويعود الفضل في ذلك كله الى الإسلاميين الذين بات مؤكداً أنهم سيحكمون اثنين من الحكومات الإقليمية الأربع في باكستان وسيلعبون دوراً أساسياً في تشكيل الحكومة الفيديرالية عقب الأداء المنقطع النظير الذي قدموه في انتخابات العاشر من تشرين الأول أكتوبر الماضي. ويعتبر رحيم الله خان يوسفزئي، وهو صحافي معروف من بيشاور عاصر أربعة عقود من السياسة في الإقليم، أن انتصار مرشحي مجلس العمل المتحد لا يقل عن "ثورة"، ويقول: "إنها هزيمة كبرى للإقطاعيين والصناعيين والأثرياء. فالمنتصرون غالبيتهم رجال دين من أسر ذات دخول محدودة. إنها ثورة سياسية تحققت عبر صندوق الاقتراع". وعقب أيام من إعلان نتائج الاقتراع الذي جرى في العاشر من تشرين الأول، وزحف العشرات من مؤيدي "مجلس العمل المتحد" على اكبر ستاد رياضي في مدينة كويتا، عاصمة إقليم بلوشستان المحاذي لكل من إيرانوأفغانستان للاحتفال بالنصر، رافعين أعلام الأحزاب الدينية المكونة للائتلاف الانتخابي. لكن ثمة علماً آخر ارتفع عالياً في المكان جنباً الى جنب مع أعلام المجلس. وصوره التي نقلتها وكالات الأنباء أثارت حتماً شيئاً من الخوف في عواصم مثل كابل وواشنطن. كان ذلك علم إمارة أفغانستان الإسلامية تحت حكم ميليشيا "طالبان" البائدة. ووقف مولانا عبد الرحيم بازئي، مرشح المجلس المنتخب عن المدينة، ليقول للحشد: "سنطالب بإطلاق سراح أيمل كاسي ورمزي يوسف". الأول معتقل في الولاياتالمتحدة لقتله عميلاً تابعاً ل"سي آي أي" أمام مقر الوكالة في فرجينيا في منتصف التسعينات، فيما يقبع الثاني في سجن أميركي بتهمة الضلوع في محاولة تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك في 1993. ويتحدر كلاهما من بلوشستان. وإذا كان اكتساح الإسلاميين الانتخابي في قلب باكستان القبلي أمراً يمكن تبريره، فإن الاختراقات التي حققوها في المدن الرئيسية كانت أمراً غير متوقع، خصوصاً فوزهم في مدن عكس ناخبوها تاريخياً ميولاً علمانية مثل العاصمة إسلام آباد، وكراتشي، عاصمة البلد الاقتصادية. بل أن عبدالستار الأفغاني، وهو واحد من خمسة مرشحين من مجلس العمل المتحد الفائزين في كراتشي، تمكن للمرة الأولى من أن يحوز مقعداً نيابياً عن حلقة انتخابية تشمل ضاحيتين كبيرتين من أرقى ضواحي المدينة تقطنهما طبقة متغربة تعتبر الأكثر كوزموبوليتانية وثراءً في باكستان. ويقول الأفغاني: "يبدو أن انطباعاتنا عن سكان الضواحي الراقية كان خاطئاًً، إذ أسأنا الحكم عليهم لمجرد أن نساءهم يرتدين الملابس الغربية. لكن الحقيقة هي أن الكثيرين بينهم متدينون، ولاحظت أثناء حملتي الانتخابية أن عدد المصلين في مساجد الضواحي الراقية كان عادة أكثر من تلك في الأجزاء الأخرى من المدينة". أسطورة "الخمسة في المئة" التي كانت تلاحق الإسلاميين الباكستانيين مثل العار، ومفادها أنهم على رغم كل انتشارهم التنظيمي لم يحصدوا مجتمعين أكثر من خمسة في المئة من مقاعد البرلمان في تاريخ باكستان، لم يعد لها سند بعد اليوم بعدما برزوا كثالث أكبر كتلة برلمانية، وسيلعبون دور "صانع الملك" في جهود تشكيل الحكومة الجديدة في إسلام آباد، والمتوقع لها أن تتسلم السلطة في الأسبوع الثاني من الشهر الجاري. لكن المعلقين الذين يتنبأون بأيام صعبة سيواجهها الرئيس برويز مشرف، حليف واشنطن في الحرب ضد الإرهاب، وتلك التي سيواجهها الأميركيون بسبب وصول "حلفاء طالبان" الباكستانيين الى السلطة، ربما كانوا غير منتبهين الى ديناميكيات جديدة تُرافق الوجه الديموقراطي الجديد لإسلاميي باكستان. فالإسلاميون، تحت قيادة سياسيين محنكين استطاعوا أن يجمعوا فرقاء متناقضين مذهبياً وسياسياً في ائتلاف واحد، لن يسمحوا بإضاعة فرصة تاريخية تتاح لهم للمرة الأولى لحكم باكستان، وهذا يعني ترشيد بعض المواقف المتشددة لبعض أعضاء ائتلاف مجلس العمل المتحد. فقاضي حسين احمد، امير "الجماعة الإسلامية" أكبر حزب بين أعضاء المجلس، اجتمع الى السفيرة الأميركية نانسي باول في لقاء مغلق فور إعلان نتائج الانتخابات. كما أن مولانا فضل الرحمن، وهو مرشح "مجلس العمل المتحد" لمنصب رئاسة الحكومة، خفف لهجته إزاء وجود قواعد عسكرية أميركية في البلد، مشيراً الى أنه سيتم أخذ مصالح البلد الاستراتيجية في الاعتبار. وعلى رغم كونه زعيماً ل"جمعية علماء الإسلام"، وهو حزب كان متحالفاً مع حركة "طالبان"، فإن فضل الرحمن أعلن أخيراً أن حكومة يشكلها الإسلاميون في الإقليمين الباكستانيين المجاورين لأفغانستان "لن تتدخل في الشؤون الداخلية" لحكومة كابول. وأضاف: "يجب ترك الأفغان ليحددوا شكل حكمهم الجديد". وفي خطوة تنم عن نضج سياسي، دعا قادة "مجلس العمل المتحد" أعضاء السلك الديبلوماسي المعتمدين في العاصمة الباكستانية الى لقاء قبل أيام استهدف إعطاء ممثلي الحكومات الأجنبية فرصة التعرف عن كثب على قادة الإسلاميين وتوجهاتهم عقب انتصارهم النيابي. وبلباقة ومن دون تشنج، أظهر الملالي أمام الديبلوماسيين الأجانب مهاراتهم الشخصية في الديبلوماسية وفي فهم العلاقات الدولية. لذا، فإن رجلاً مثل الدكتور سعيد شفقت، مدير برنامج الدراسات الباكستانية في مدرسة العلاقات الدولية في جامعة كولومبيا، لا يشعر بأن ثمة داعياً للقلق إذا ما شكل الإسلاميون الحكومة المقبلة في إسلام آباد. ويقول: "السلطة هي نتاج للتفاوض والمساومة والإجماع. وأرى أن ثمة مجالاً لأن يشكل مجلس العمل المتحد حكومة يعلم أنها مراقبة في الخارج، وعلى رغم أن مجال السياسة الليبرالية سيتقلص مع زيادة عدد رجال الدين في البرلمان، الا أنهم سيحجمون عن ارتكاب أخطاء قاتلة وسيفضلون قضايا آمنة وقوانين دينية يمكن تمريرها واقعياً". الترحيب الأميركي الرسمي بنتائج الانتخابات الباكستانية، في مقابل الانتقادات الأوروبية، يشير بحسب بعض المراقبين الى نجاح الإسلاميين الباكستانيين في كسب ثقة أهم عاصمة غربية، إذ لم يعبر المسؤولون الأميركيون الى الآن عن أي تحفظات، تصريحاً أم تلميحاً، إزاء اختراقات رجال الدين الانتخابية. ولكن إذا كان ثمة سبب وراء الاطمئنان الذي تبديه واشنطن، فلا بد أن يكون اقتناعها بأن الإسلاميين في باكستان هم "تحت السيطرة"، كما يؤكد الدكتور شفقت. فمراكز دراسات السياسة الدولية في واشنطنونيويورك تمتلئ بمحللين يرون أن الجنرال مشرف رجل على قدر كبير من الدهاء، وأن نظامه العسكري "هندس" انتصار الإسلاميين في الانتخابات ليضرب عصفورين بحجر واحد: تحييد خصومه السياسيين، ورفع ثمن تحالفه الاستراتيجي مع واشنطن. وعلى رغم أن لا توجد دلائل دامغة يمكن أن تؤكد مثل هذا التحليل، إذ أن مشرف ليس محبوباً بتاتاً في أوساط الإسلاميين، غير أن تصريحاً أطلقه الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية و"عراب" الجهاد الأفغاني في الثمانينات، الجنرال حميد غول، يشير في الاتجاه ذاته. وفور ظهور نتائج التصويت، رد الجنرال غول على حملة التهويل التي انتشرت في الصحافة الباكستانية الليبرالية وفي الصحافة الدولية نتيجة لاكتساح الإسلاميين بالقول "لا داعي للخوف. إنهم حلفاء طبيعيون للجيش"، في تلميح الى أن التحليلات بأن ينقلب الإسلاميون ضد الجيش المتحالف مع واشنطن بعيدة عن الواقعية. ويشير مراقبون الى أن إصرار الإسلاميين على جلاء القوات الأميركية من باكستان يخدم الى حد ما مصلحة حكام باكستان العسكريين الذين يريدون استمرار التقارب مع واشنطن لكن يشعرون بالحرج إزاء رد بعض مطالب العسكريين الأميركيين مثل السماح لهم بتنفيذ عمليات ملاحقة الإرهابيين داخل باكستان أو استخدام التسهيلات العسكرية الباكستانية في حرب مزمعة ضد العراق. ولكن إذا كانت "نظريات المؤامرة" حول تفاهم سري بين العسكريين والإسلاميين صحيحة، فإنها لن تأتي من دون ثمن. والثمن سيكون حتماً صبر العسكريين على مواقف بعض القيادات المتشددة داخل الائتلاف الإسلامي، مثل مولانا أنوار الحق حقاني الذي امتدح "التضحيات التي قدمها الملا عمر وأسامة بن لادن" في الاكتساح الانتخابي لمجلس العمل المتحد في باكستان. متاهات السياسة تبدو أمراً بعيداً عن بال أمانت شاه، عضو البرلمان الإسلامي الجديد ذي الستة والعشرين عاماً، وزميله الثلاثيني إسرار حقاني، اللذين ينهمكان هذه الأيام في أداء طقوس الاحتفالات المحلية بفوزهما الانتخابي. فدورهما المستقبلي سيحدده الكبار في "مجلس العمل المتحد" الذين لم يخلقوا فحسب انتصاراً انتخابياً غير مسبوق، بل لم ينسوا في خضم ممارستهم السياسية نصيباً لكوادرهم الشابة التي ستضمن للإسلاميين الاستمرارية في المستقبل.