بدأت حكومة اسلام آباد حملة اعتقالات واسعة طاولت منظمات اسلامية باكستانية أو تتخذ من باكستان نقطة انطلاق لنشاطاتها السياسية. فمن هي تلك الجماعات وكيف تأسست؟ الحملة الأخيرة التي بدأتها الحكومة الباكستانية ضد الجماعات الاسلامية المتشددة بسبب تداعيات ضربة 11 ايلول سبتمبر وطاولت المئات من ناشطيها، ركّزت الأنظار مجدداً عليها، خصوصاً أنها الحملة الأولى من نوعها التي تنفذها الاجهزة الأمنية التي كانت متحالفة الى وقت قريب معها بسبب تلاقي مصالح الطرفين في دعم حكم حركة طالبان في أفغانستان. وتأتي هذه الحملة لأسباب عدة أهمها: أولاً، التوقيت. جاءت الحملة بعد ضربة أيلول وهو ما يوحي بوجود ضغوط دولية على باكستان لتكييف نفسها مع واقع جديد. وبالتالي فإن الحملة ستكون عنيفة ولن تتساهل مع هذه الجماعات التي ارتبطت مصالحها بحركة طالبان التي رحلت عن المشهد الأفغاني وهو ما سيعرّض مستقبلها للغموض، نظراً الى ان وجودها يستند الى غطاء اقليمي كالغطاء الأفغاني. ثانياً، المؤسسة العسكرية. طاولت حملة الاعتقالات بعض الضباط الباكستانيين الكبار والمحسوبين على الخط الاسلامي لتؤكد شراسة الحملة وأنها غير عادية، وأن عهداً جديداً بدأ يطل على هذه الجماعات. والسؤال الى أي مدى يمكن لهذه الحملة أن تمضي ضد هذه الجماعات وإلى أي مدى يمكن للمتعاطفين مع هذه الحركات من الضباط ان يلتزموا جانب الحياد والصمت؟ ثالثاً، قضية كشمير. رفع الغطاء الكشميري عن هذه الجماعات سيصيبها في مقتل، إذ أن كثيراً من شبابها وكوادرها يتم تجنيدهم تحت هذه الذريعة، اضافة الى حملة التبرعات التي تُجمع تحت هذا المبرر. وبالتالي رفع هذا الغطاء يعني تجفيف المنابع البشرية والمالية عن هذه الحركات. يذكر ان هذه الحركات اكتسبت قوة ومنعة بعد سيطرة الرئىس ضياء الحق على السلطة في العام 1977، إذ منح كل مدرسة فكرية قطعة ارض في اسلام آباد لإقامة جامع وجامعة خاصة بها معترف بشهاداتها، اضافة الى تمتعها بهامش كبير من التحرك، وهو ما شكّل ذروة الاهتمام بهذه المدارس ووفّر فرصة عمل مهمة لخريجيها. تتميز الحركات الاسلامية الباكستانية بكثرة تنظيماتها وتعدد مشاربها المحلية في بلد أقام نفسه على أساس الاسلام منذ العام 1947 وبرر ظهوره استناداً الى نظرية القوميتين الاسلامية والهندوسية، وقسمت شبه القارة الهندية حينها على هذا الأساس. ولذلك أبصرت النور للمرة الأولى دولة منشطرة الى قسمين من دون تواصل جغرافي بينهما وهي باكستان "الغربية" وباكستانالشرقية بنغلادش، وسريعاً ما انهار المشروع في العام 1971، فتأسست دولة بنغلادش واعتبرت الهند نفسها وجهت اول صفعة في الأساس الذي قامت عليه دولة باكستان، وهو ما لا توافق عليه كثير من النخب الباكستانية التي تعزو الانشقاق الى اسباب وعوامل شخصية ولغوية وبنيوية وليس الى اسباب عقدية وفكرية. خريطة الأحزاب والحركات لفهم خريطة الأحزاب والحركات الاسلامية الباكستانية المتعددة والمتشعبة، لا بد من الرجوع الى الأساس الفكري الذي قامت عليه هذه المنظمات ويمكن تلخيصه في أربعة منطلقات، تشعبت بعدها هذه الحركات لأسباب شخصية وإقليمية وعرقية ونحوها. فباكستان وشبه القارة الهندية عموماً تتنازعها ثلاثة تيارات فكرية وهي: الفكر الديوبندي الحنفي، والفكر البريلوي الصوفي، والفكر السلفي أهل الحديث، والفكر الحركي الذي جاء وسطاً بين هذه التيارات الفكرية ومثّله الإمام ابو الأعلى المودودي حين أسس "الجماعة الاسلامية" قبل تأسيس دولة باكستان. وباستثناء "الجماعة الاسلامية الباكستانية" فإن كل المدارس الفكرية الأخرى تستند شرعيتها وتستمد قوتها من المدارس الدينية التي تسيّرها وتُعدّ بعشرات الآلاف وتستقطب اكثر من مليونين طالب باكستاني وغير باكستاني وتوفر لهم الطعام والتعليم والمأوى المجاني. اولاً، المدرسة الديوبندية ظهرت المدرسة الديوبندية في منتصف القرن الثامن عشر حين كان المستعمر البريطاني يجثم على صدر شبه القارة الهندية. والتسمية مستمدة من المكان الذي قامت فيه حينها مدارس المذهب الحنفي، خصوصاً مدرستهم الدينية المعروفة في ديوبند. وبدأت المدرسة باستقطاب الطلبة وتعليمهم أصول دينهم وأطلق عليها "أزهر المنطقة" نظراً الى فكرها المعتدل الذي حملته رداً على الأفكار المتطرفة الاسلامية الأخرى او التي كانت توالي المستعمر البريطاني وتجوز وجوده وتدعو الى التأقلم معه من دون مقاومة. وسريعاً ما انتشرت المدارس الديوبندية في كل ارجاء شبه القارة الهندية. وبعد تقسيم شبه القارة الهندية تأسست المدرسة الحقانية على يد مولانا مفتي محمود في باكستان وفي منطقة "أكوره ختك" قرب بيشاور، ولا تزال تستقطب الآلاف من الطلبة، خصوصاً من الأفغان ووسط آسيا والصين وتركيا. وأسهمت هذه المدرسة بدور لافت في الجهاد الأفغاني من خلال خريجيها الذين قادوا الجهاد وكان على رأسهم القائد جلال الدين حقاني. ومع دخول باكستان العملية الديموقراطية بعد التأسيس في العام 1947، ظهرت "جمعية علماء الإسلام" بزعامة مولانا مفتي محمود الذي برز دوره في شكل ملفت في العام 1977 حين قاد حركة استعادة الديموقراطية من اجل اسقاط ذو الفقار علي بوتو. وبعد ان نجح في ذلك توفي وانقسمت الجمعية الى قسمين: "جمعية علماء الاسلام" جناح فضل الرحمن نسبة الى نجله مولانا فضل الرحمن الذي ما زال يقود الجمعية ويحظى بنفوذ ملفت في منطقتي بيشاور وكويتا. وتتمتع جمعيته بثقل في البرلمان المحلي في كويتا. وعادة يتحالف مع حزب الشعب الباكستاني بزعامة بي نظير بوتو خلال الانتخابات. لكنه وصف في المرحلة الماضية بأنه "عراب حركة طالبان الأفغانية". وهناك "جمعية علماء الإسلام" جناح مولانا سميع الحق، الذي يدير المدرسة الحقانية، ويحظى بعلاقات وطيدة مع حركة طالبان الأفغانية وهو عضو في مجلس الشيوخ الباكستاني. وبينه وبين فضل الرحمن عداوة شخصية وحين تأسس مجلس الدفاع عن افغانستانوباكستان برئاسة مولانا سميع الحق لم يشأ فضل الرحمن ان يشارك في اجتماعاته. ويشارك سميع الحق الذي لا يحظى بشعبية، كتلك التي يتمتع بها فضل الرحمن، في الانتخابات وعادة ما يحصل على بضعة مقاعد في البرلمان. وخرجت من عباءة هذه الأحزاب ميليشيات سنّية متشددة على رأسها "جيش الصحابة" الذي يقوده الآن أعظم طارق ودخل في حرب طائفية مع ميليشيات شيعية متشددة راح ضحيتها الآلاف من الضحايا بسبب الانتقام والانتقام المضاد. ثانياً، المدرسة البريلوية. هذه المدرسة وريثة الفكر الصوفي المتأثر بالفكر الهندوسي الى حد ما في شبه القارة الهندية، وتعتمد على التعلق بالشخص. والفارق بين المدرسة الصوفية في العالم العربي وشبه القارة الهندية اهتمام الاخيرة بالجانب السياسي بخلاف المدرسة الصوفية في العالم العربي التي تبتعد عن السياسة. ويقف على رأس الحركات البريلوية "جمعية علماء باكستان" بزعامة مولانا شاه أحمد نوراني الذي يحظى بشعبية قوية في وسط البريلويين ولديه آلاف المدارس. وعلى رغم تباين مدرسته الفكرية عن حركة طالبان الأفغانية أعلن تأييده للحركة وانضم الى مجلس الدفاع عن افغانستانوباكستان. ونظمت جماعته مسيرات وتظاهرات حاشدة تأييداً لحركة طالبان ومعادية لأميركا ولجأت الجمعية حديثاً الى تشكيل ميليشيات مسلحة في كشمير. انقسمت المدرسة البريلوية في الفترة الماضية و خرجت عليها جمعيات اسلامية عدة يقودها طاهر القادري وعبدالستار نيازي وأجمل القادري وغيرهم. وكلهم يشاركون في الانتخابات ويستمدون شرعيتهم من المدارس الدينية التي أنشأوها طوال الفترة الماضية. ثالثاً، المدرسة السلفية. التيار السلفي أو "أهل الحديث" في شبه القارة الهندية ليس جديداً أو وافداً من الخارج. فالمعروف عن منطقة شبه القارة الهندية كثرة وجود علماء الحديث فيها ودأب عدد من طلبة العلم الشرعي العربي الى القدوم إليها لتلقي اسناد الحديث الذي كان يشتهر به علماء هذه المنطقة. ومثل المدرسة الصوفية تختلف المدرسة السلفية عن معظم سلفيي العرب، فهم مسيّسون وأحزابهم كثيرة، وبرز منهم في الثمانينات العالم إحسان إلهي ظهير الذي يقال انه اغتيل على ايدي منظمات شيعية متطرفة بعد ان كتب عن الفرق ومنها الفريلوية والاسماعيلية والشيعية ونحوها. وتنامى دور اهل الحديث في فترة حكم الرئيس ضياء الحق 1977 - 1988. وينقسم اهل الحديث في باكستان الى ستة احزاب سياسية وتتحالف مع احزاب اخرى في الدورات الانتخابية ولكن نشاطها على الساحة السياسية لم يكن ظاهراً كثيراً مقارنة بالمدارس الأخرى. ومن ابرز شخصياتهم السياسية ساجد مير. رابعاً، المدرسة الحركية. يمثل هذه المدرسة الجماعة الاسلامية الباكستانية التي أسسها الإمام أبو الأعلى المودودي قبل تقسيم باكستان. وكان المودودي صحافياً في الهند وعارض قيام دولة "باكستان" على اساس انها ستضعف المسلمين في شبه القارة الهندية. ومع التقسيم انتقل المودودي الى باكستان وواصل نشاطه. وتُعد "الجماعة الاسلامية" من اكثر الاحزاب السياسية الباكستانية تنظيماً ومقدرة على التعبئة، خصوصاً في الجامعات. وعلى رغم فشل الجماعة في الحصول على نسبة جيدة من المقاعد في الانتخابات بسبب سيطرة الاقطاعية والمدارس التقليدية على الشارع الباكستاني، إلا انها تميزت بنخبتها المثقفة وحضورها في عالم المال والأعمال. وتحظى بعلاقات وطيدة مع الجماعات العربية ولعلها الجماعة الاسلامية الباكستانية الوحيدة التي تتمتع بتلك العلاقة مع "الجماعات الاسلامية" في العالم العربي بخلاف الجماعات الأخرى التي تعتبر باكستانية الى حد كبير. ويقود الجماعة حالياً قاضي حسين أحمد الذي فُرضت عليه الإقامة الجبرية بتهمة التشهير بالجيش وبالرئيس برويز مشرف، إذ دعا غير مرة الى الإطاحة به بعد وقوفه الى جانب اميركا ضد حركة طالبان الأفغانية. خامساً، المدرسة الشيعية. تعززت مكانة الشيعة في باكستان بعد نجاح الثورة الإيرانية في العام 1979 وعودة الكثير من العلماء الباكستانيين الذين درسوا في إيران والدول العربية الأخرى، خصوصاً العراق ولبنان. وتميزت السنوات الماضية بالاحتكاكات الطائفية التي أودت بآلاف الضحايا من الطائفتين السنّية والشيعية نفذتها جماعات متطرفة من جانب الطرفين بالهجوم على المساجد. وعلى رأس المدرسة الشيعية "حركة تطبيق الفقه الجعفري" بقيادة ساجد نقوي انقسمت على نفسها ايضاً ولديها حضور في الانتخابات وانشقت عنها منظمات متطرفة مثل "جيش علي" ونحوها وتنغمس في اعمال قتل طائفي ضد مجموعة "جيش الصحابة" السنّية المتشددة. ومثل المدارس الدينية السنّية الأخرى، تحظى المدرسة الشيعية بشبكة مدارس دينية في كل ارجاء باكستان وهو ما يوفر لها المقدرة على التعبئة البشرية. التنظيمات الكشميرية كان العام 1989 مميزاً في كشمير وباكستان وربما سيكون علامة فارقة في طبيعة الصراع الباكستاني - الهندي. فمنذ هذا التاريخ تحول الصراع في كشمير من سياسي الى عسكري او ما يحلو للكشميريين تسميته بالانتفاضة على غرار الانتفاضة الفلسطينية التي ظهرت قبل ذلك بعام واحد. وبعد ان كان الكشميريون يركزون صراعهم على الجانب السياسي املاً في تطبيق قرارات دولية صدرت بشأن حقهم في تقرير المصير تعالت الأصوات بضرورة نقل الصراع الى انتفاضة شعبية للضغط على الهند من اجل تسوية القضية. وترافق ذلك مع تفاعلات اقليمية ودولية كان على رأسها الانسحاب السوفياتي من افغانستان في شباط فبراير العام 1989 وهو ما اتاح الفرصة لعودة الآلاف من الكشميريين والباكستانيين الذين قاتلوا في صفوف المجاهدين الأفغان الى بلادهم لينقلوا التجربة في الكفاح. وبعد الغزو العراقي في العام 1990 وتدخل المجتمع الدولي لتحرير الكويت، امل الكشميريون ان يعطي ذلك دفعاً لانتفاضتهم بلجوء المجتمع الدولي الى قرارات موقوفة منذ اكثر من نصف قرن مضى. ويمكن قراءة خريطة الأحزاب الكشميرية المسلحة من خلال العودة الى المدارس الفكرية الإسلامية الباكستانية. إذ ان لكل مدرسة فكرية جماعة عسكرية تقاتل في كشمير. وأبرزها: 1- حركة المجاهدين. يرأسها مولانا فضل الرحمن خليل المطلوب اميركياً وظهرت بعد انسحاب السوفيات من افغانستان في العام 1989. وقاتل خليل الى جانب المجاهدين الأفغان ويدين بفكره الى "جمعية علماء الإسلام" جناح مولانا فضل الرحمن. وظهرت الحركة باسم "الأنصار" وبعد دمغها بالإرهاب واتهامها اميركياً بخطف بعض السياح الأجانب في كشمير، وهو ما نفته لاحقاً، بدلت اسمها الى "حركة المجاهدين". وكانت تتمتع بعلاقات قوية مع حركة طالبان الأفغانية. واستهدفت اميركا في عهد كلينتون معسكرات تابعة لها في خوست حين قصفت افغانستان في العام 1998 رداً على ما قيل عن تورط بن لادن في مهاجمة سفارتيها في افريقيا الوسطى. ومع حادث خطف الطائرة الهندية الى قندهار ومقايضة الرهائن في مقابل الإفراج عن السجناء الباكستانيين في السجون الهندية برز اسم مسعود اظهر. وأسس لاحقاً "جيش محمد" بعد ان انشق عن "حركة المجاهدين" واتخذ مواقف متشددة الى ان اتهم اخيراً بمهاجمة البرلمان الهندي فوضع على قائمة المنظمات الإرهابية في اميركا وقام الأمن الباكستاني باعتقاله. 2- عسكر طيبة. حركة عسكرية تقاتل في كشمير وتتبع الخط السلفي ويقودها البروفيسور حافظ سعيد الحاصل على شهادة دكتوراه في هندسة الميكانيك. ونفذت الحركة عمليات انتحارية عدة داخل الهند وكشمير الخاضعة للسيادة الهندية، واتهمت بمهاجمة البرلمان الهندي في 13 كانون الأول ديسمبر الماضي، وهو ما نفته، الأمر الذي وتّر العلاقات بين الهندوباكستان ودفع بهما الى حافة الحرب. واتهمت واشنطن الحركة بالإرهاب فتنازل سعيد الى احد قادته عن زعامتها ورضخت اسلام آباد الى الضغوط الهندية فاعتقلته. 3- حزب المجاهدين. حزب موال للجماعة الإسلامية الباكستانية ويقوده سيد صلاح الدين وهو من كشمير الخاضعة للسيادة الهندية. ويهاجم الحزب الأهداف العسكرية الهندية في المنطقة الخاضعة للسيادة الهندية وهو ما انقذه من وصمه كحركة ارهابية. فالحزب لم يقم علاقات مع حركة طالبان المصنفة اميركياً بالعداء لها ولمصالحها. الى جانب حزب المجاهدين هناك "البدر" وهي مجموعة منشقة عن "الجماعة الإسلامية الباكستانية"، وركزت حربها ضد القوات الخاضعة للسيادة الهندية في كشمير ولم تتورط في علاقات مع طالبان. ويقود المجموعة بخت زمين وقاتلت مجموعته في صفوف المجاهدين ضد القوات السوفياتية.