على رغم أوجه قصور عدة تعتري خطة "خريطة الطريق إلى التسوية الشاملة"، يظل للفلسطينيين مصلحة أكبر في تفعيلها مقارنة بإسرائيل. فقد تراجعت المقاومة، بشقيها المسلح والمدني، إلى أضعف مستوى لها منذ نشوب انتفاضة الأقصى قبل نحو 25 شهرا. ولذلك فحتى إذا لم تحقق "خريطة الطريق" نجاحًا في استعادة المسار السلمي، فهي تبدو ضرورية للفلسطينيين الذين تشتد حاجتهم إلى هدنة لالتقاط الأنفاس وحل الخلافات. وقد بدأ أمس السبت في القاهرة الترتيب لإجراء محادثات بين ممثلين للسلطة وحركة "حماس"، أو جناح في هذه الحركة. ويحتاج الفلسطينيون أيضا الى فرصة لمحاولة تعويض الخسائر الفادحة إن في قدرات المقاومة أو في الوضع الاقتصادي. وكانت هذه الخسائر، في القسم الأعظم منها، نتيجة سوء تقدير أدى إلى خطأ في الحسابات وضعف شديد في الأداء على مدى عامي الانتفاضة. ولا يتحمل الوضع الفلسطيني المزيد من الأخطاء في التعاطي مع "خريطة الطريق". ولذلك أحسن الرئيس ياسر عرفات صنعًا عندما أوفد السيد نبيل شعث الأسبوع الماضي إلى الأردن ومصر والسعودية للتشاور حول الخطة وبلورة تصور مشترك في شأن الموقف تجاهها. وقد نوقش هذا التصور أمس في اجتماع ثلاثي لوزراء خارجية السعودية ومصر والأردن في القاهرة، على هامش الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب الذي يعقد اليوم الأحد. وستقوم الدول الثلاث بعرض هذا التصور العربي خلال اجتماع مع اللجنة الرباعية المعنية بأزمة الشرق الأوسط الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة في الأردن يوم الخميس المقبل. ويركز التصور على طلب تعديلات تهدف إلى معالجة ما بدا أنه عدم توازن في مسودة الخطة التي تقع في تسع صفحات. فالمسودة، التي عرضها مساعد وزير الخارجية الأميركي وليام بيرنز خلال جولته الأخيرة في الشرق الأوسط الشهر الماضي، تفرض على الجانب الفلسطيني التزامات أكبر وأوسع نطاقا من تلك التي تحملها للجانب الإسرائيلي، خصوصاً في مرحلتها الأولى التي تتعلق بوقف العنف وإنهاء العمليات الفدائية وانسحاب القوات الإسرائيلية إلى المواقع التي كانت فيها يوم 28 أيلول سبتمبر 2000. والمفترض أن تبحث اللجنة الرباعية الطلب العربي، وما وصلها من ملاحظات إسرائيلية، في الاجتماع الذي ستعقده في كانون الاول ديسمبر المقبل لوضع الخطة في صيغتها النهائية. وإذا سارت الأمور في هذا الاتجاه دون أخطاء جديدة، يكون الجانب الفلسطيني - والعربي عموما - قد تعاطى بصورة إيجابية مع التحرك الأميركي- الدولي الجديد. فليس لدى هذا الجانب ما يخسره إذا أخفقت الخطة في الوصول إلى غايتها، وهي إقامة دولة فلسطينية مستقلة في 2005، بخلاف رئيس وزراء إسرائيل اريل شارون. فالخطة تنطوي على تحدٍ للنهج الذي يمثله شارون، وهو إعطاء أولوية مطلقة للمسألة الأمنية على حساب القضية السياسية، والسعي إلى إخضاع الشعب الفلسطيني بالقوة المسلحة وليس التفاوض مع قيادته، وإبعاد شبح دولة فلسطين وليس الدخول في عملية Process تضع هذه الدولة في نهاية النفق في مدى زمني قصير لا يتجاوز الثلاث سنوات. ولهذا ، بدا الأداء الفلسطيني - العربي تجاه هذه الخطة أفضل نسبيا من الأداء الإسرائيلي للمرة الأولى منذ نشوب الانتفاضة، أو على الأقل منذ أحداث 11 أيلول 2001. غير أن هذا التحسن في الأداء يبدو، في الوقت نفسه، مهددًا بخطأ جديد في الحسابات إذا اتسع نطاق، أو ازداد تأثير، تقديرين للموقف الإسرائيلي شاعا في الأوساط العربية خلال الأيام الماضية: أولهما أن انسحاب حزب العمل من الحكومة الإسرائيلية يطلق يد اليمين في إحباط أي سعي سلمي، وأن حكومة شارون صارت "حكومة حرب". أما التقدير الثاني للموقف الداخلي في إسرائيل، والذي يصب في الاتجاه نفسه، فهو أن الذهاب إلى انتخابات مبكرة يجعل من الصعب المضي قدما في أي تحرك سلمي حتى نهاية هذه الانتخابات. وكل من التقديرين خاطئ. فتعارض نهج شارون مع التحرك السلمي قائم قبل انسحاب وزراء حزب العمل الذين لم يؤد وجودهم في الحكومة إلى دعم مثل هذا التحرك، كي يعني خروجهم منها افتقاد دور سلمي لعبوه. وليس صحيحا ما يبدو في خلفية التقدير الأول، وهو أن شارون صار مطلق اليدين في فعل ما يريده من الآن وحتى إجراء الانتخابات المبكرة. فلم يكن وزراء حزب العمل قيدا حديديا يكبله بمقدار ما كانوا زهورا صناعية حاول أن يزين بها يديه. وفي واقع الأمر، كان الائتلاف الموسع بمشاركة حزب العمل مريحا لشارون أكثر من الائتلاف الضيق. فالوضع الأكثر ملاءمة له هو تحالف يمين وسط، وليس تحالفا يمينيا يرهقه بمزايدات يومية على سياسته التي نجح فى أن يخفي غلواءها بواسطة الغطاء الحرير الذي وضعه وزراء حزب العمل على قبضته الحديد. وليس صحيحا، أيضا، أن إجراء انتخابات مبكرة في إسرائيل يقضي على امكانات التحرك السلمي وفق "خريطة الطريق"، على أساس أن تحديد موعد العملية الانتخابية يجعل الحكومة القائمة حكومة لتسيير الأمور. فلا فرق جوهريا في الاختصاصات والصلاحيات بين حكومة عادية وأخرى لتسيير الأمور ما دام الموضوع لا يقتضي اتخاذ قرارات كبرى. وليس ثمة حاجة الى هذا النوع من القرارات طيلة المرحلة الأولى في خريطة الطريق، والتي تمتد حتى أيار مايو 2003. فتركز هذه المرحلة على انجاز الصفقة التي اخفقت محاولات للتفاهم عليها مرات عدة من قبل، وهي وقف المقاومة الفلسطينية في مقابل سحب إسرائيل قواتها إلى مواقعها التي كانت فيها عشية نشوب انتفاضة الأقصى. وليس هناك ما يخشاه شارون، سياسيا وانتخابيا، من مثل هذه الصفقة إذا تمت. ففي المرحلة الأولى في "خريطة الطريق" تميل كفة المنافع إلى جانب إسرائيل التي تكسب أمنا افتقدته على مدى أكثر من عامين. لكنها تخسر، وفي المقابل، توسعا جديدا لأن الخطة تلزمها بوقف النشاطات الاستيطانية التي صارت تمثل خطرا شديدا على التواصل الجغرافي للدولة الفلسطينية. وفيما تبدو المرحلة الثانية اعلان دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة متوازنة بين الجانبين، تبدأ الكفة تميل في الجانب الفلسطيني مع الوصول إلى نهاية المرحلة الثالثة والأخيرة، خصوصا إذا نجحت السعودية ومصر والأردن في اقناع ممثلي اللجنة الرباعية بالتعديلات العربية المطلوب إدخالها على مسودة الخطة. لذلك لا يضير شارون تنفيذ المرحلة الأولى في "خريطة الطريق"، أو البدء فيها، في فترة الانتقال نحو الانتخابات المبكرة، خصوصا في ظل الضغط الذي يرجح أن يتعرض له من واشنطن. وهذا الضغط المحتمل هو المتغير الأهم مقارنة بالتطورات الداخلية في إسرائيل، لأن الولاياتالمتحدة تريد تهدئة الوضع الفلسطيني قبل شن هجومها العسكري المتوقع على العراق. ولذلك فخطأ أن تبني القيادة الفلسطينية، ومعها الدول العربية المعنية، سياستها على أساس افتراض أنه لا أمل في تحرك سلمي في ظل حكومة تسيير الأمور في إسرائيل، أو أن الانتخابات الإسرائيلية المبكرة تقوض أي فرصة لتفعيل خطة "خريطة الطريق". فالتقديران اللذان يقوم عليهما هذان الافتراضان ليسا صائبين. وبناء موقف تجاه "خريطة الطريق" انطلاقا منهما يقود إلى خطأ جديد. فتفعيل هذه الخطة يقتضي قوة دفع عربية مستمرة لا يمكن توافرها إذا ساد الاعتقاد في أن الوضع الداخلي الإسرائيلي يحبط حتما أي تحرك سلمي. فإذا تخلت القيادة الفلسطينية، والدول العربية التي تنسق معها عن دورها الرئيسي في السعي الى تفعيل الخطة، سيكون مصيرها الى الثلاجة، بما في ذلك من خسارة فلسطينية جديدة. فالموقف الصائب الآن، وفي الغد القريب، هو الضغط من أجل تنفيذ خطة "خريطة الطريق". وحتى إذا تعثرت هذه الخطة بعد تنفيذ مرحلتها الأولى، يكون الفلسطينيون قد كسبوا سحب قوات الاحتلال الى خارج مدنهم ووقف الاستيطان الذي يهددهم، فضلا عن التقاط الأنفاس وإعادة بناء امكانات المقاومة، خصوصا في شقها المدني الذي ضعف كثيرا من جراء الاعتماد على الشق المسلح وحده. كما أن اتخاذ موقف صائب يقوم على حسابات صحيحة من دون أخطاء جديدة هو مكسب فلسطيني في حد ذاته. فبعد سيل من القرارات والاختيارات الخاطئة، يصبح استرجاع القدرة على السير في الاتجاه الصحيح مكسبا لا يمكن التهوين من شأنه.