في الخطاب الذي ألقاه في الثاني من تشرين الأول اكتوبر أمام وفد أرباب العمل الفرنسيين "الميديف"، أعرب الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، بحضور وزير الطاقة والمعادن شكيب خليل، نيته فتح أبواب قطاع الهيدروكربورات أمام القطاع الخاص الخارجي. واذا كان المقربون من الرئاسة يعتبرون أن هذه الرسالة تعني أن مصير شركة "سوناطراك"، الدجاجة التي تبيض ذهباً ليس لاقتصاد البلاد فحسب بل أيضاً للمشاركين في صنع القرار، حسم بشكل نهائي هذه المرة، إلا أن تصريح رئيس الحكومة علي بن فليس، بعد ذلك ب 48 ساعة، والذي أعلن فيه رفضه لأي اقتراح يصب في هذا الاتجاه، يؤكد أن معركة اختبار القوة بين أطراف النظام بدأت، خصوصاً أن رئيس الدولة ورئيس وزرائه مرشحان للانتخابات الرئاسية سنة 2004. تشير الاحصاءات الرسمية الاخيرة الصادرة عن وزارة الطاقة والمعادن في الجزائر الى أن العائدات المتوقعة من قطاع الهيدروكربورات، التي تشكل شركة "سوناطراك" عموده الفقري ورائعته الأساسية لناحية تنظيم انتاجه وتصديره وتسويقه، ستصل في نهاية السنة إلى نحو 24 بليون دولار، الأمر الذي يعطي هذه المؤسسة الوطنية "العاصية على التخصيص" أهمية استثنائية تجعل منها نقطة تجاذب دائمة لجميع القوى المكونة لبنية النظام الجزائري منذ فترة ما بعد الاستقلال حتى اليوم. بمعنى آخر، محوراً لصدام مرتقب تأجل مراراً في المرحلة الأخيرة بين مجموعة تريد عبر تخصيصها، اضعاف السيطرة التاريخية لخصومها على القطاع، المتمثلة حالياً بالرئيس بوتفليقة وفريقه من التكنوقراطيين ومجموعة من رجال الأعمال الكبار، وبين ما هو متعارف على تسميته ب"السلطة الفعلية"، أي الجيش، ومعه اتحاد نقابات العمال الجزائريين وحزب جبهة التحرير الجزائرية. ويرى المراقبون أن تحسن مالية الجزائر في الاعوام الثلاثة الأخيرة تراجع حجم الدين الخارجي وزيادة الاحتياطات بالعملات الأجنبية بنسبة 25 في المئة سنة 2002 لتناهز ال22 بليون دولار في نهاية كانون الأول/ ديسمبر المقبل، دفع بالقوتين المتصارعتين للتشبث أكثر بمواقفهما منعاً لتسجيل أي طرف نقاط على الطرف الآخر. ويبدو أن كل الضربات مسموحة بما فيه إقالة حكومة أو رئيس وزراء، كما حصل مع أحمد بن بيتور، أو وزير المال المقرب من الرئيس عبداللطيف بن اشنهو. الجزائر ليست للبيع على رغم المشاورات والتعديلات التي طرأت في الآونة الأخيرة على مشروع القانون المتعلق بالهيدروكربورات، المرحلة المهمة في إطار متابعة اصلاحات هذا القطاع التي انطلقت عام 2000، تبقى هذه القضية بمثابة القنبلة الموقوتة التي يمكن أن تنفجر في أية لحظة. وابدت النقابات بمختلف اتجاهاتها واختصاصاتها، بما فيها نقابة شركة "سوناطراك"، رفضها لنص مشروع القرار بصيغته الحالية، معتبرة اياه بمثابة "الخيانة" من قبل الحكومة. تبع ذلك توجيه انتقادات حادة من قبل بعض الأحزاب السياسية لنهج الحكومة. وفي الحالتين، انصبت النقمة على وزير الطاقة شكيب خليل، كونه بدل مواقفه حيال تخصيص "سوناطراك" خلال أقل من شهر. وبعدما سبق وأعلن أن الشركة "ليست للبيع"، عاد وروج لخطاب بوتفليقة، الداعي لفتح القطاع، بما فيها "سوناطراك" أمام الاستثمار الأجنبي، ما حدا بسيدي سعيد، الأمين العام للاتحاد العام للعمال الجزائريين، أحد أبرز القوى الفاعلة في المجتمع الجزائري، للحديث عن ضرورة اجراء استفتاء كون مستقبل "البلاد والعباد"، حسب قوله، بات في خطر. وتنوي النقابات توجيه انذار أولي بالدعوة للاضراب في حال حاولت الحكومة تمرير مشروع القانون الذي تراهن عليه قوى عدة في طليعتها الصناعيون. وإذا لم يفهم أصحاب الشأن مغزى هذا الانذار، فإن النزول إلى الشارع والدفاع عن مكتسبات المجتمع ومنع "بيع الجزائر" بأبخس الأثمان، كما يتردد، يصبح عندئذ أمراً حتمياً. ورداً على هذه الاتهامات الموجهة، يدافع شكيب خليل عن وجهة نظره القائلة بأن مشروع القانون لا يهدف الى التخلي عن غالبية حصص الدولة في شركة "سوناطراك"، الذي يرأس حالياً مجلس إدارتها، وبالتالي التخلي عن السيطرة على مقدراتها، إنما افساح المجال لادخال شركات من القطاع الخاص الوطني والأجنبي للاشتراك في تنمية فعاليتها من الناحيتين المالية والفنية، ومضاعفة ادائها. وينفي خليل ما أورده بعض وسائل الإعلام والمحللين الاقتصاديين أن خطاب بوتفليقة أمام أرباب العمل الفرنسيين كان اقتناصاً منه للفرصة التي أتاحها له نائب وزير التجارة الأميركي صمويل بودمان الذي زار الجزائر قبل أيام من ذلك، أعلن فيها عن ضرورة تحرير قطاع الهيدروكربورات ب"أسرع وقت ممكن". ويضيف خليل نقلاً عن أحد مقربيه "ان الرئيس بوتفليقة لا يستغل هذا النوع من المواقف ولا يمكن أن يوظف أوراقاً خارجية لأهداف سياسية داخلية". في المقابل، تشير الوقائع بأنه منذ نحو عامين يركز الرئيس الجزائري على العلاقات الأميركية سواء من الجانب السياسي أو الاقتصادي من دون التقليل من أهمية النفوذ الأوروبي في منطقة شمال افريقيا عموماً والجزائر خصوصاً، التي تمثل منافذ تلقائية للغاز الجزائري. وما استعجاله بتوقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ولاحقاً السعي للانضمام إلى منظمة الدول الفرانكوفونية سوى دليل على هذا التوجه. لكن هذا لم يمنع إدارة "سوناطراك" بقيادة شكيب خليل من أن تذهب بعيداً برهانها على شركات النفط والغاز الأجنبية. ونتيجة ذلك التزمت ببرنامج تنويع صادرات الغاز الطبيعي، مع اعطاء الأفضلية للسوق الأميركية. ولم يعد تموين الولاياتالمتحدة بالغاز انطلاقاً من الجزائر فقط، بل أيضاً عبر مصادر خارجية تملكها "سوناطراك". وبحث الرئيس بوتفليقة هذه المسألة خلال زيارته الأخيرة لأميركا وتقديمه لشخصيات سياسية جمهورية ورجال أعمال محليين، التوجهات الجديدة للاستراتيجية المعتمدة من قبل بلاده في مجال الطاقة. باختصار، اراد الرئيس الجزائري جذب الشركات الأميركية التي طالبت سلفاً بتحرير قطاع الهيدروكربورات إلى الجزائر بأي ثمن. هذه الورقة التي استخدمها ولا يزال للضغط على خصومه، خصوصاً الذين رددوا مراراً أمام محاوريهم الغربيين بأن "أيام الرئيس باتت معدودة". ويعني تخصيص "سوناطراك" حرمان رموز مهمة في السلطة من استمرار مراكمة الثروات طوال أكثر من عقدين. ومن خلال العمل على اضعافها تمهيداً لمواجهتها بشكل أفضل على أرض الواقع، يراهن بوتفليقة على صداقاته الخارجية، حكومات ومجموعات ضغط مالية، بعضها عربي، حسب بعض المعلومات. في خضم هذه المماحكات العلنية، تلمح أوساط مقربة من "السلطة الفعلية" الى أن بوتفليقة يمكن أن يتجاوز الخط الأحمر ويُخل بقواعد اللعبة التي سمحت بمجيئه إذا ما استمر بلعب أوراق خارجية لتعزيز مواقعه الداخلية. ويستند هؤلاء في أحاديثهم إلى وجود ثمة حكومة ظل شكلها داخل قصر "المرادية" يشرف على أعمالها شقيقه سعيد، مهمتها الرئيسية درس جميع الملفات الموجودة بعهدة حكومة علي بن فليس. ولم يتردد أحد هؤلاء خلال لقائه ببعض الأوساط المالية الفرنسية في أيلول الماضي في باريس القول: "إن بوتفليقة يخطئ باعتقاده أن العائدات النفطية التي تحققت في الاعوام الثلاثة الماضية، إضافة إلى زيادة الاحتياطات بالعملات الأجنبية، هي من نتائج حكمه وفريق عمله". مع ذلك يجمع المحللون السياسيون الجزائريون بأن رئيس الدولة عرف كيف يُوظف "نعمة الهيدروكربورات" لمصلحة سلطته وتحسين شروطه واظهار هذا المردود على أنه من حسنات إدارته. بدايات الفرز وتسجيل النقاط من المتوقع ان تتضح الصورة أكثر فأكثر بعد رمضان ونهاية فترة الأعياد، خصوصاً لناحية مستقبل "سوناطراك" كذلك بالنسبة إلى القوى المتصارعة عليها. فالرهانات والمصالح ضخمة ما يزيد في حجم المخاطر، بحيث يصبح من الصعب الحديث من الآن عن طرف رابح وطرف خاسر في هذه المعركة. فالتحالفات تتغير بين ساعة واخرى. ولم يكن أحد يتنبأ منذ ثلاثة شهور بأن يصبح علي بن فليس القائد لمعركة بوتفليقة الرئاسية بعد وصوله الى قمة الهرم في حزب جبهة التحرير الوطني، المدعوم من الجيش والنجاحات الساحقة التي أحرزها في الانتخابات التشريعية والبلدية، الخصم اللدود لصديقه. واختار بن فليس بادئ ذي بدء شركة "سوناطراك" كميدان يختبر فيه قوته امام رئيس الجمهورية عبر نسج تحالف بين حزبه الذي يملك الأكثرية في البرلمان الجديد واتحاد العمال الجزائريين. وفي أقل من اسبوعين، انتقل من التعميم كالقول بأن "التخصيص ليس نهاية بحد ذاتها" للتركيز على القول انه: "ضد تخصيص المؤسسات الحكومية الناجحة، في طليعتها سوناطراك". وفسر المراقبون هذا الهجوم المفاجئ بمثابة رد على سفيرة اميركا، جانيت ساندرسن التي أعلنت دعمها لقانون المحروقات الجديد، الشيء الذي لا تتقبله طبيعة الجزائريين وتعتبره تدخلاً في شؤونهم. على اي حال، اثبتت مواقف بن فليس المتناقضة جداً مع تلك المتخذة من رئيسه، أن الطلاق وقع وأن معركة الرئاسة فُتحت منذ الآن، وقودها الأول "سوناطراك" والثاني مشكلة مناطق القبائل، والثالث مشروع الوئام الوطني الذي يضطلع به بوتفليقة الذي انتقدته قيادات الجيش بشكل ملفت في "الملتقى الدولي عن الارهاب" الذي عقد اخيراً في الجزائر. المثير في الموضوع ان الذي أشرف على تنظيمه، مستشار بوتفليقة لشؤون الدفاع، اللواء محمد تواتي، وهو الذي تبنى علناً توصيات تتناقض مع سياسة الوئام والمصالحة الوطنية مع الاسلاميين، مما يدل بأن القطيعة بين المؤسسة العسكرية ورئاسة الجمهورية قطعت شوطاً، لم تعد تنفع معها جميع عمليات التمويه والتغطية عبر الاكتفاء بتوجيه "رسائل مشفرة" بين الفينة والأخرى. في المقابل، لا يبدو أن الرئيس الجزائري سيخضع بسهولة للضغوطات التي بدأت تأخذ نهجاً تصعيدياً. والدليل على ذلك، تأكيده العلني اخيراً بأن سحب مشروع القانون المتعلق بالهيدروكربورات، تحت أي ظروف تأتي من هنا أو من هناك، ليس وارداً بالنسبة اليه. ما يعني بأنه لن يترك، بأي حال من الأحوال، خصمه الجديد والرئيسي، بن فليس، ينتزع ورقة "سوناطراك" كي يستخدمها في مزايدات سياسية أو يطرحها كعنوان لحملته الانتخابية المرتقبة. في ظل هذه الحالة الضبابية، تتوقع الأوساط المراقبة بأن تدخل غالبية القوى السياسية في الجزائر على الخط، مستخدمة الأوراق الموجودة في السوق، في طليعتها ورقة سوناطراك والتخصص والتسريح الجماعي للعمل وضرب المكتسبات الاجتماعية. كما لم يعد باستطاعة المواطن العادي، التمييز، والحالة هذه، بين المرشحين في ظل تدخل اللوبيات المالية ورجال الأعمال المشبوهين والدوائر المشرفة على تبييض الأموال الوسخة، بأشكال مختلفة لتعزيز مواقع معينة وخدمة الأطراف المعنية، مما يزيد في حال التخبط القائمة. من جهتها، تؤكد مصادر مالية أوروبية مهتمة بالشأن الجزائري، أن الرئيس بوتفليقة ليس وحيداً في معركته. مع ذلك، فهي لا تستطيع أو لا تريد الإفصاح عن طبيعة هذه التحالفات على رغم جزمها بأن التحدي الكبير الذي أطلقه من خلال تصميمه العلني على تحرير قطاع الهيدروكربورات وفتح أبوابه امام الشركاء الأجانب، لم يأت من فراغ، خصوصاً ان هؤلاء الحلفاء يتابعون باستمرار تقديم النصح والدعم اللازم له بهدف تصليب مواقفه. في مواجهة هذا الواقع، تنبغي الإشارة الى ان أعداء الرئيس معروفون من الجميع، المقتنع بأنهم لن يتنازلوا بسهولة عن امتيازاتهم التاريخية، خصوصاً تلك التي توفرها لهم "الدجاجة التي تبيض ذهباً"، على رغم الحدة المتزايدة يوماً بعد يوم، يعتقد بعض المحللين بأنه يمكن حصول مفاجأة في أية لحظة لناحية حدوث تفاهم بين الأطراف المتنازعة، الأمر غير المستغرب بين الجزائريين، لكن مثل هذا الاحتمال بات ضئيلاً بعدما خرجت السلطة الفعلية عن صمتها في مناسبات عدة. يبقى السؤال في ما إذا كان "بازار" سوناطراك بدأ فعلاً، بضغط من الاميركيين أو الأوروبيين أم ان الأمر يبقى مجرد اختبار ظرفي للقوة يصل الى نهاياته في الوقت المحدد. الجواب على هذه التساؤلات هو أصعب من تفسير الرسائل المشفرة وغير المشفرة التي وجهها الجيش في الأيام الأخيرة. * اقتصادي لبناني.