في عام 1958 ظهرت للكاتبين الأميركيين ويليام ليدرر ويوجين بوردك رواية أزعجت الأوساط السياسية في الولاياتالمتحدة بما كشفته من خفايا وعجز وجهل الديبلوماسية الأميركية في الخارج وسوء سلوك الإنسان الأميركي العادي خارج وطنه. عدد كبير من الكتّاب تصدى للدفاع عن السياسة والإنسان والمجتمع والثقافة الأميركية وإبراز ما فيها من إيجابيات ويدعون في الوقت ذاته إلى ضرورة بذل الجهد لدراسة الشعوب والثقافات الأخرى وفهمها حتى تستطيع أميركا نقل رسالتها الحضارية إلى العالم ككل والاحتفاظ بصداقة الشعوب اللاغربية والمجتمعات النامية وكسب الحرب ضد الشيوعية التي تغلغلت في كثير من تلك المجتمعات. وكانت الرواية تحمل عنواناً مثيراً هو "الأميركي القبيح" The Ugly American وهو عنوان ينبئ بما تتضمنه من نقد لاذع لتصرفات الأميركيين العاديين والرسميين في تعاملهم مع الآخرين. وانتشرت الرواية انتشاراً واسعاً خارج أميركا وأصبح تعبير الأميركي القبيح يتردد على الألسنة كرمز للسلوك الأميركي الذي يتسم بالفجاجة والغطرسة التي تصل إلى حد الحماقة والسفه في الإنفاق للتباهي بالغنى والثراء ويستوي في ذلك السياح العاديون والديبلوماسيون. أحداث الرواية تدور في دولة متخيلة من دول جنوب شرقي آسيا هي دولة صارخان الصغيرة الفقيرة التي يعاني شعبها الكثير من المتاعب والمشكلات ما ساعد على تقبلهم للشيوعية وسيلة للخلاص من الفقر والقضاء على فساد الحكام. وفي الرواية من الأحداث الواقعية ما يشير إلى الأوضاع التي كانت سائدة في تايلاند، وإن كان بعض النقاد يرى أن "صارخان" هي مزيج من تايلاند وكمبوديا وأندونيسيا ولاوس وبورما وفييتنام، وكلها دول كانت في تلك الفترة على مشارف الثورة ومهيأة تماماً لتكون ميداناً للحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي. وتتقاسم البطولة في الرواية شخصيتان على طرفي نقيض في كل شيء. الشخصية الأولى لمهندس أميركي يدعى هومر آتكنز وهو إنسان على درجة كبيرة جداً من الدمامة والقبح الفيزيقي والقذارة وعدم الاهتمام بمظهره الخارجي. وقد ذهب آتكنز إلى "صارخان" في الأصل للعمل مستشاراً لإحدى هيئات المعونة الأميركية ومساعدتها في اختيار المواقع الصالحة لمد شبكة جديدة من الطرق وإنشاء عدد من السدود وخزانات الماء. وكان عمله يتطلب التجوال في أنحاء البلاد، واستطاع أثناء ذلك أن يختلط بالأهالي ويعيش عيشتهم ويتعلم اللغة "الصارخانية" ويعرف احتياجاتهم الحقيقية ويدرس ثقافتهم عن قرب ويقيم علاقات قوية ترتكز على المحبة والاحترام المتبادلين. وفي ضوء هذه المعرفة العميقة أوصى بأن ما يحتاجه الأهالي والبلاد ليس السدود والخزانات الضخمة وإنما عدداً كبيراً من الآلات البسيطة لرفع المياه إلى الأراضي الواقعة فوق المرتفعات حيث يعيش الأهالي على زراعة الأرز. رفضت الهيئة الأميركية الأخذ بهذه التوصية التي لا تتفق مع تصورها الخاص بضرورة تنفيذ مشاريع ضخمة تتناسب مع اسمها وتليق بمكانة أميركا. استقال من العمل وعكف على صناعة تلك الآلات البسيطة وبيعها للأهالي الذين أقبلوا عليها إقبالاً شديداً حيث تمكن من جمع ثلاثة ملايين دولار، وهي ثروة هائلة بمعايير الخمسينات. والطريف أنه استعان في تنفيذ المشروع بأحد الأهالي الذي لم يكن يقل عنه دمامة وقبحاً. الشخصية المقابلة للمهندس كان جيلبرت ماكهوايت سفير أميركا في صارخان. وكما هو شأن السفراء والديبلوماسيين في العالم كان ماكهوايت يتميز بالوسامة والأناقة ورقة السلوك وعذوبة الحديث وهي كلها صفات تخفي وراءها كثيراً من الغطرسة والجهل بكل ما يخرج عن دائرة عمله الديبلوماسي الضيق الذي يفرض عليه التحرك في أوساط معينة ومحددة بالذات تمنعه من الاختلاط بالأهالي أو تعرف ثقافة المجتمع الذي يمثل بلاده فيه أو أن يتعلم اللغة الوطنية على اعتبار أن اللغة الإنكليزية هي اللغة النموذجية التي يجب أن يتعلمها الجميع. كانت النتيجة ذلك الجهل والانغلاق وعدم فهم الثقافة والمجتمع أن ارتكب عدداً كبيراً من الأخطاء الفادحة التي أساءت إلى سمعة أميركا ومصالحها في وقت كانت الشيوعية تحقق كثيراً من المكاسب بفضل إدراكها كيف تتعامل مع الشعوب الفقيرة التي تعاني من غطرسة وحماقة الرأسمالية. وأدرك السفير متأخراً فداحة أخطائه الناجمة عن سوء التقدير حيث اعترف حين استغني عن خدماته بأنه لا يمكن أميركا أن تكسب الحرب الباردة إلا بتغيير سلوكها الأناني النابع من الغرور، وأن تصرفات الأميركيين في الخارج وعلاقاتهم بالآخرين يجب ان تحكمها القيم الأخلاقية الرفيعة التي تراعي مشاعر الناس وثقافتهم وأن تعمل على اكتساب احترام الشعوب ومحبتهم التي تحتاج أميركا إلى صداقتها، فلا تتحكم في تلك العلاقات الدعاية الفجة التي تعتقد أميركا أنها تخدم مصالحها، ويتعين على الديبلوماسيين الذين يذهبون إلى "صارخان" وبالتالي غيرها من دول جنوب شرقي آسيا أن يلموا بالثقافة الوطنية ويدرسوا اللغة ويختلطوا بالأهالي بل أن يقرأوا ما يتصل بتلك الدولة قبل أن يذهبوا إليها لتمثيل بلادهم بما في ذلك أعمال ماوتسي تونغ ولينين وشوإن لاي حتى يستطيعوا القيام بواجبات وظيفتهم من منطلق المعرفة الصحيحة والفهم السليم. وفي العام 1963 ظهرت رواية الأميركي القبيح في السينما ولقي الفيلم ما لقيته الرواية ذاتها من نجاح وأثارت الكثير من السخرية، وبخاصة في أوروبا وفرنسا، بالذات من الأميركيين وأساليب تعاملهم مع الآخرين. فالهدف من الرواية هو إبراز التناقض بين القول والفعل في علاقة أميركا بالعالم الثالث وأن المهم في العلاقات الإنسانية والدولية هو العمل الواقعي الذي يفيد هذه العلاقات ويراعي مصالح الشعوب الأخرى وليس الصورة المظهرية التي تبغي الدعاية ولا تبالي بالآخرين. وهذا هو ما يكشف عنه التعارض بين شخصيتي المهندس القبيح والديبلوماسي الوسيم وعلاقتهما بشعب صارخان. فالقبح هنا مرادف للشر. والأميركي القبيح ليس هو المهندس الذي أحب الناس وأحبوه وقدم لهم الخير وإنما هو الديبلوماسي الوسيم الأنيق الذي لم يصدر عنه سوى الشر والأذى لوطنه الذي خسر الحرب ضد الشيوعية في جنوب شرقي آسيا نتيجة الجهل والغطرسة والتعالي والانعزال عن المجتمع والثقافة، كما ألحق الشر والأذى بالدولة التي يعمل فيها صارخان ممثلاً لبلاده حيث ارتكب الكثير من الأخطاء التي دفعت "صارخان" إلى الارتماء في أحضان الشيوعية على أمل أن تخلصها من متاعب الحياة ومفاسد الحكم والحكام. فالرسالة التي تريد الرواية والفيلم توصيلها للأميركي العادي وللسياسيين الأميركيين على السواء، والتي يبدو أنها لم تصل إليهم، هي ضرورة تغيير المواقف والنظرة من شعوب العالم الثالث وثقافاته حتى لا تفقد أميركا هذه الشعوب وتدفعها دفعاً إلى الوقوف منها موقف الشك والريبة الذي يدفع بدوره إلى العداء. والظاهر أن أميركا لم تستوعب مضمون الرسالة مع أن الرواية تضم كثيراً من الأحداث الواقعية التي أدت إلى أن تخسر أميركا حربها ضد الشيوعية. وهي أحداث تتكرر في صور مختلفة في دول العالم الثالث الأخرى التي تقف الآن موقف المعارضة من السياسة الأميركية حتى وإن كان هناك من الأميركيين الأفراد _ أو المنظمات والهيئات غير الرسمية _ من يتجاوب مع آمال شعوب ذلك العالم الثالث ويعمل على تحقيقها. فالعبرة في العلاقات الدولية هي بمواقف الدول وليس بمواقف الأفراد أو حتى التنظيمات الأهلية أو غير الحكومية. ولم يستطع المهندس هومر آتكنز بكل ما يحمله من حب وإخلاص ورغبة في مساعدة الأهالي أن يمنع "صارخان" من الانحياز إلى الشيوعية بسبب موقف الديبلوماسية الأميركية الخاطئ والناشئ عن الجهل والغطرسة والانعزال عن المجتمع وثقافته. ويثير عنوان الرواية بعض اللبس والتساؤل عمن هو القبيح حقاً، ولكن صفة القبح التصقت في آخر الأمر بالديبلوماسي من حيث هو ممثل للدولة وللسياسة الأميركية الخارجية. وذكر المؤلفان في مقدمة الرواية/ الكتاب أن الأحداث التي ترد في سياق القصة هي أحداث مألوفة وشائعة في مواقف السياسة الأميركية من العالم الثالث أو الدول النامية، كما أنها تعطي من الناحية الأخرى صورة لنظرة العالم الخارجي إلى أميركا وسياستها. وسبّب ظهور الرواية كثيراً من الازعاج داخل أميركا ولكنها لم تفلح في إقناع أميركا الدولة بتغيير سياستها الخارجية حيث لا تزال ترتكب الأخطاء نفسها في حق شعوب العالم الثالث ومنها العالم العربي الإسلامي. ولا تزال هذه السياسة تصدر عما يسميه السناتور وليام فولبرايت حماقة القوة في كتابه الذي يحمل هذا العنوان. نقلت الرواية إلى اللغة العربية وصدرت في بيروت عن دار العلم للملايين في عنوان "الأميركي البشع"، وهي خليقة بأن تقرأ بعناية وروية وتأمل على رغم صدورها منذ أكثر من أربعين عاماً، إذ يبدو أن التاريخ يعيد نفسه في علاقة أميركا الآن بالعرب والمسلمين والتهديد بالحروب باسم مكافحة الإرهاب، وهو نوع من النفاق لتبرير الأفعال التي تتعارض مع المبادئ التي ظلت أميركا ترفعها كشعارات منذ 200 سنة. فبينما تنادي أميركا بضرورة حماية حقوق الأقليات - على سبيل المثال - وتعطي نفسها الحق في تكوين اللجان وإرسال الوفود إلى العالم الثالث للتحقق من وضع هذه الأقليات تنسى المظالم التي ألحقتها هي نفسها لقرون طويلة بالسود العبيد من أصل أفريقي وتحاول التنصل من المسؤولية وتتهرب من دفع التعويضات عما ألحقته بأفريقيا من أذى حين حرمتها من قدر هائل من ثرواتها البشرية العبيد واستغلتها لتحقيق رخائها وثرائها. وبينما تنادي أميركا بضرورة احترام القانون تبدي عدم المبالاة بالقوانين الدولية حين تتعارض مع مصالحها الخاصة. وبينما تدعو إلى إقرار السلام لا تتردد في شن الحروب على النظم التي تتعارض سياستها مع النظام الأميركي، بل وتشجع الثورات المسلحة ضد هذه النظم. وهذا هو منطق غطرسة القوة الذي يحمله كتاب فولبرايت وهو كتاب آخر جدير بالقراءة لكي نفهم ما يجرى في عالمنا العربي الإسلامي وعلاقته بأميركا. * أنثروبولوجي مصري.