«هيئة الطرق»: مطبات السرعة على الطرق الرئيسية محظورة    هل اقتربت المواجهة بين روسيا و«الناتو»؟    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أرصدة مشبوهة !    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرواية في خدمة الاحتلال

الرواية الأولى: عَدّاء الطائرة الورقية، haled Hosseini, The Kite Runner, الناشر ريفر هيد بوكس، نيويورك، 2005، 371 صفحة، الطبعة الأولى: 2003.
الرواية الثانية: ألف شمس زاهية، الكاتب: خالد الحسيني، A Thousand Splendid Suns, الناشر نفسه، الطبعة الأولى: 2007م، 372 صفحة. قد تجد فرقا في صياغة العنوانين ما بين ترجمتي لهما وما يمكن أن تكونا عليه إن تُرجمتا لاحقا.
من أحسن الطرق لمعرفة كتاب أن يُحَدِّثك عنه من قرأه، وعندما نصحتُ بقراءة رواية: "عَدّاء الطائرة الورقية" أقبلت على الكتاب فلم أندم، وكنت قد استغربت الترويج الكبير للرواية، ولأعطي فكرة عن الترويج للنسخة المطبوعة؛ فقد هوّل الناشر من الأقوال المنثورة على كل ركن وزاوية من الغلاف، حتى لم يسلم كعب الكتاب من الحملة الدعائية، وفي الداخل خَصَّص أربع صفحات تمجيدا للكتاب، وقد لفت انتباهي هذا الاحتفاء الكبير بالروايتين، فقد بقيت الروايتان زمنا طويلا على قائمة الكتب الأكثر مبيعا في جريدة النيويورك تايمز، وفي موقع "أمزون" لبيع الكتب، وهي دلالة مهمة على تفوقهما الفني، أو على تعاطف القراء والنقاد مع قضية الروايتين، وربما للسببين معا.
وقد وجدت صعوبة في مقاومة قراءة النص الأول، فقرأته وجرَّني بقوة إلى النص الثاني، دون فاصل من كتب ولا زمن، فكيف كتب الروايتين وماذا قال الكتابان، ولماذا روّج لهما كل هذا الترويج، وقد حُوّلت الرواية الأولى فيما بعد إلى فلم؟ هنا نعرض للروايتين اللتين كتبهما خالد الحسيني، وهو طبيب أفغاني مقيم في الولايات المتحدة.
قراءة العملين تَتَبُّعٌ لرؤية الكاتب ولأفكاره، أكثر من فنه، لأن ما حدث في أفغانستان كان هائلا، فوجّه سياق وروح الروايتين وفنهما، وحولهما إلى موقف سياسي وفكري من صراع عالمي مستمر، خفت عندي بجانبه الفن بالرغم من تجليه.
ما يُهمنا هنا هما الجانبان الفكري والثقافي للنصين، أما الجانب الفني، فالروايتان بلا شك وبخاصة الأولى منهما قطعتان فنيتان متميزتان، ومجمل ما رأيت من نقد نقاد الروايتين إيجابي في امتداحهما، كما لاحظوا أنهما تتبعان أسلوب سرد روائي قديم، مشبع بالصنعة الروائية التراثية (أو نسق الروايات الخالدة)، القائمة على شخصيات موصوفة ومميزة تكاد تراها، وعلى أحداث متتابعة، يمسك بعضها ببعض، مع الحفاظ على القارئ مشوّقا ومتابِعا ومتوقِّعا الحبكة وبعض النتائج ومفاجأ بها نادرا، غير أن هذه الطريقة أصبحت طابعا مرعيا متوقعا، فما إن تقرأ الرواية الأولى حتى يكون الكاتب نمطيا في الثانية، وتكاد تعرف مساربه وسر صنعته وحبكة الرواية فيما سيأتي، فتصبح متوقعا من ثَمَّ لأحداث النص.
"عدّاء الطائرة الورقية"، وهي الرواية الأولى للكاتب، قد تُشكك كثيرا في كونها إلى حد كبير مملوءة بترجمته الذاتية، أو هي جزئيا كذلك؛ فهي تحكي قصة الطفل "أمير" بطل الرواية الذي ينشأ في كابل، في بيت ثري، ووالده بنى قصرا كبيرا جميلا، وقد أقبل "أمير" على قراءة أساطير وبطولات فارسية قديمة تعلق بها وحفظ منها مقاطع، ثم بدأ يرتجل أمام زملائه بعضها أو يبتدع قصصا وأساطير من خياله مشابهة لما حفظ منها، حتى ليكاد السامع يتوقع أنها من محفوظاته، لا مؤلفاته، ثم بدأ مبكرا بتأليف القصص.
وكان في قصر والده خادم اسمه علي، وهو من الهزارة الشيعة في أفغانستان، وللخادم زوجة وابن يدعى حسن، ولقد أظهر الكاتب التعصب المنتشر ضد الهزارة بين سكان كابل بسبب مذهبهم أو جنسهم، وأورد أنهم من بقايا المغول، وكانت الطائرة الورقية من الألعاب التي يلعب بها الطفلان، وفي سباق كبير تظهر براعة "أمير"، ويهاجمه أطفال ويدافع عنه حسن الهزاري، فيوقد هذا غيظ الأطفال الآخرين الذين ليسوا من الشيعة فيغتصبون حسن.
لقد كان التوقيت الزمني والفكري لنشر الروايتين مهما جدا، وقد نفعهما في الانتشار؛ فأمريكا تخوض حربا ضروسا في أفغانستان والقتل يومي، والمعلومات والنصوص الشعبية والثقافية قليلة عن البلاد الضحية في الدولة المحاربة، وهذا أول كتاب لأفغاني يحقق مكانة على قائمة أعلى الكتب مبيعا في أمريكا، ويترجم للغات عدة منها الفارسية التي جاوزت طبعته بها خمس طبعات في ثلاثة أعوام.
إن الكاتب يغازل المزاج الأمريكي العام، ويتسق مع الحرب ومع ثقافتها الثائرة عنده، فهناك شغف أمريكي طبيعي لمعرفة ميدان الحرب عبر الإطلالة الفنية على المكان والناس، وقد لبى الكتابان ما يريد الجيش والحكومة وأهالي الجنود أن يسمعوه عن أفغانستان، وقد كان الكاتب فنانا ذكيا ومخاتلا بارعا قناصا للفرصة والفكرة، لأنه قام بتقديم الصورة المطلوبة في المواجهة، فجعل الطالباني هي الشخصية الشريرة في الرواية، وهي صورة مجرم قام باغتصاب الطفل وأصبح لاحقا صاحب الوجه المظلم والقبيح الذي يتولى القيادة لبعض أعمال طالبان، وهم الذين وصفهم بأنهم شخصيات سيئة أو "حمير"، بحسب وصف والد البطل، وبحسب ما يفهمك عند محاولة المرأتين الهروب من كابل وقد غدر بهما أحد المتظاهرين بالدين، وإن كانت الرواية الثانية تقدم أحد الملالي في حالة استثنائية بصفة معلم طيب القلب عطوف على الطفلة والأم البائسة المنكوبة "مريم بطلة الرواية الثانية"، ولعله بتقديم هذا الملا الطيب قام بالتخفيف من انحيازه الشديد.
وتظهر حركة طالبان في الكتابين بصورة سيئة؛ ونادرا ما يذكر لهم أي فائدة، فطالبان في الروايتين تقتل امرأتين في نهاية بطولة الشخصيتين، إحداهما تقتلها بسبب الزنا والأخرى تقتلها لأنها قتلت زوجها الشرير العنيف. والروايتان بلا شك تسيء للمجتمع الأفغاني وتسيء تصوير ثقافته وممارساته، في عنفه وزناه، وتظاهره بالدين مع خواء روحي وأخلاقي وعنصرية ظاهرة ضد بعض مكوناته القومية كالهزارة "الشيعة" أو ضد المرأة.
كما أن انحياز الرواية للقوات الأمريكية يعطيها قبولا شعبيا غربيا منسجما مع القوة والجيش والسلطة والإعلام، وساعدها جدا على الانتشار، وفي الملف الذي قدمته مجلة ال"نيوز ويك" عن الكتاب والفيلم، وردت مقولة للكاتب نفسه أكد فيها مساندته للموقف الحكومي الأمريكي من أفغانستان، وهذا ما يذكّرنا بالحرب الباردة الثقافية والترويج للأدباء المنشقين عن روسيا وتمجيد أعمالهم الأقل فنا وأهمية، ومنح هذه الأعمال جوائز نوبل بسبب ما تحمله من دعاية غربية وتحقير وإهمال لما يخالفها.
ونلاحظ كذلك أن الروايتين تهجوان المجتمع المتدين، فالدين ما هو إلا مجرد خُبث مستتر، ونستشف هذا بقول والد البطل "أمير" في بداية الحديث عن تقصير الأب عن التدين وسماع ملاحظات المُلا الذي يعلم الطفل القراءة والكتابة والتدين، ثم بتأكيد موقف الأب السكير مكررا من المتدينين، وهو موقف حاول الكاتب تأييده بطرق عديدة.
وفيما يخص لغة الروايتين، فإنها لغة إنجليزية بسيطة سهلة بعيدة عن التعقيد والتكلف، لغة متعلّم لها، لا لغة مولود فيها، كما أنها مطعّمة بعبارات إسلامية أو عربية أفغانية، في سياق متقن عالي الصياغة قريب التناول، وهي لغة سهلة كثيرة الحوادث، تدير أحداثها شخصيات موصوفة قريبة حيّة، تتحرك وتعمل وتغامر وكأنك تراها، ونادرا ما يورد الكاتب حكمة، أو مثلا، مثل: "حقيقة مؤلمة خير من كذبة مريحة".
ثم ماذا عن العرب والمسلمين واليهود في الرواية؟ يمكن القول إن للمؤلف ثقافة إسلامية لا بأس بها، تشير إلى نشأته، ونجدها في بعض المناقشات، كما نجد اللغة العربية حاضرة ومنثورة بكثرة في النص الانجليزي على أنها لغة محلية أفغانية، أو فارسية أو بشتونية أو طاجيكية، وقد ساورني الشك في أن الكاتب لو كان يعرف أصول هذه الكلمات العربية لما كان استخدمها بهذه الكثافة، مع أنه يسطّر في صفحة واحدة مثلا خمس كلمات بالعربية نُقلت إلى الأفغانية والفارسية مثل:"أحمق، وناموس، ومزاحم، وسلام، وصاحب".
فكلمة: "ناموس" التي تعني بالعربية أيضا الشرف، والسنة الحسنة، منتشرة في الكتابين، كما أن الكلمات والمصطلحات الإسلامية من القرآن والحديث النبوي كثيرة، بجانب مصطلحات مثل: شهيد وطالب وجدي ولفظ وكرسي وتشكر ورفيق وكفتة، وابن أو بنت الحرام "حرامي"، وحتى قصة "مجنون ليلى" تمت الإشارة إليها على أنها ملحمة فارسية!
نشهد نقطة ضعف وتملق أخرى تجتاح النصين، إذ يبدو أن على المثقف الذي يريد حضورا ودعاية واعترافا في الغرب المسيحي اليهودي كما أعاد اليهود تعريفه أخيرا أن يسجد عند أقدام اليهود، سادة الإعلام والدعاية، وكما يشترط على كل رئيس قادم إلى أمريكا أن يلبس القبعة اليهودية، ويصلي عند حائط البراق "المبكى" ويزور متحف الإبادة النازية، حتى يُسمح له بالسباق على البيت الأبيض، فإن على خالد الحسيني، الروائي القادم من العالم الإسلامي "المكروه"، أن يكتب عبارات التبعية والاستخذاء ليُقبل في سلك الأدب والرواية الغربية، ثم له من بعد إثبات نقصه وتبعيته أن يُعترف به!
ولا يسعك إلا أن تأسف وتحزن للشروط المتزمتة التي يلزم الخنوع لها من قبل بعض مثقفي العالم الإسلامي، إن تطفلوا على مقدسات القوة الجائرة؛ فتجد من تزلف المؤلف لليهود الممسكين بزمام الدعاية والحكومة في عهد بوش الابن ما يدفعه للتنكر للثقافة العربية ويبدأ في احتقار العرب ومن يناصر قضاياهم في فلسطين كالرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر.
وللأسف، فقد ظهرت عند الروائي عقدة من العرب، ربما بسبب إضافي هو أحداث سبتمبر والجو الثقافي المعادي لهم، ولأن سوق خصومهم رائجة، فبث تصريحات وتلميحات كارهة لأبناء إسماعيل عليه السلام في أكثر من مكان.
ولعل أسوأ مقطع في هجاء العرب والتزلف لليهود هو ما أورده عندما تحدث عن التوجه السياسي الذي رباه والده عليه، وقد ساق قبل ذلك مقدمة مؤثرة في القارئ ليشرح له عقيدته السياسية، حيث زعم على لسان البطل أن والده كان ينصحه وهما يسيران في الحديقة قائلا: "يا أمير: هناك ثلاثة رجال حقيقيين في هذا العالم، ربما عدهم على أصابعه أمريكا وبريطانيا وإسرائيل، أما الباقون فمجرد ثرثرة عجائز"، ويقول ذلك منقضا بلسانه أو بافّا بفمه، ومشيرا بيده، ليقول إنهم "لا شيء".
ولهذا يذكر أن الجالية الأفغانية (في كاليفورنيا) ترى في موالاة والده لليهود عداوة للإسلام، وأن الرجل كان يسبب لهم الجنون عندما يناقشهم مبديا لهم أن هذه التصرفات لا علاقة لها بالدين، ويقول: "إن إسرائيل جزيرة من الرجال الحقيقيين في بحر من العرب المشغولين بتسمين أنفسهم بنفطهم عن الاهتمام ببعضهم، مشغولين بالقول إن إسرائيل فعلت هذا أو ذاك"، ويزعم أن والد بطل الرواية كان يقلد الأصوات العربية ساخرا بالعرب "افعلوا شيئا أيّ شيء لقضيتكم، أ أنتم عرب؟ إذاً ساعدوا الفلسطينيين".
لقد سيطرت في الكتابين أيضا أحداث "أبناء وبنات الحرام"، مما يجعل القارئ بمجرد إطّلاعه على الرواية الأولى، متوقعا للمواقف الأخلاقية الواردة في الرواية الثانية، كما أنه قدم بعض الصور الطريفة لحياة المهاجرين الأفغان وعلاقاتهم وتجارتهم الهامشية في أسواق "القمل" في أمريكا، مما لا يُحسن كتابتها شخص غريب عن تلك المشاهد.
"أمير" بطل الرواية الأولى "عدّاء الطائرة الورقية" ابنٌ شرعي، ولكنّ صديقه حسن ابن "علي" حارس البيت من قبائل الهزارة الذين يُظهر الكاتب احتقار الأفغان لهم دون حق، ويتبين فيما بعد أنه أخ له من أبيه، وأن صديق والده كان يعلم، حين ينكشف السر في أواخر الرواية. وهكذا في مكان آخر من الرواية الأولى تهرب الزوجة الأفغانية في شبابها التي سيتزوجها أمير لاحقا في كاليفورنيا، لتعيش حياة محرمة مع شخص آخر، وصهراب ابن حسن الذي يحاول أمير إنقاذه يغتصبه أحد المتعاونين مع طالبان، كما فعلوا بوالده حسن في صباه، وليظهر أن الفاعل بالأب والابن هو الشخص نفسه.
أما بطلتا الرواية الثانية "مريم وليلى"، فيصور الكاتب مريم على أنها مولود نتج من علاقة غير شرعية ثم تستّر عليها الأبوان بعدما تزوجا أو تظاهرا بالزواج، ولكن الأم والبنت بقيتا في حال أسوأ من حال بنت غير شرعية لخادمة، في حين أن ليلى أيضا تُنجب من علاقة غير شرعية وتخفي ذلك عن زوجها المخدوع الذي يكتشف ذلك متأخرا، ثم يعود صديق الطفولة "طارق" والد ابنتها الحقيقي ليزورها بعد خبر موته، وينتهي الأمر بعودة الكلام بينهما ويكشف طفلٌ خبر علاقة الزوجة بصديقها القديم، فتتصاعد الفتنة في البيت، وتنتهي بأن تقتل الزوجة الأولى زوجها انتقاما لضربه للزوجة الثانية، فتقيم طالبان الحد عليها وتعدم القاتلة في ملعب عام، تماما كما أعدمت في الرواية الأولى زانية أخرى في ملعب كرة قدم! وهناك يكتب الروائي ذروة هجائه لحكمهم!
ونجد هناك أن واحدا من كل اثنين من الشخوص الأساسية في كل رواية زناة، ثم يعيشون إشكالات هذا النتاج، مع أنه يقدم الأمور بطريقة لا تلفت الانتباه للواقع ولكنه يصدم القارئ بطبيعة هذا المجتمع الذي يدمغه بالنفاق والغدر، وبأسلوب خادع متلطف مُغوٍ للقارئ.
والمرأة في الروايتين غالبا ما تكون ضحية نزواتها أو ضحية خداع رجل متنفذ أو ضحية تشدد ديني، أو ضحية موقف قاس من طالبان، سواء كانت الصورة صحيحة أم لا، ولا يحتاج الغازي أن تحشد له مبررات غزوه، فلم يغز بلدا إلا ووجد لغزوه مبررا أيا كان، حقا كان أم باطلا، فلم يأت الاحتلال لإنقاذ المرأة العراقية ولا العربية ولا المسلمة في بلاد خضعت للمحتلين. وإن كان الاحتلال المسيحي قد حرر عددا من النساء كما يرى من "البرقة" الأفغانية، أو البرقع، فما بال اللاتي حرمهنّ من الحياة وهن عشرات الآلاف؟ وهل كشف وجوه عشرات من النساء أو تحريرهن كما زعم يقتضي إبادة الملايين من الرجال والنساء في بقاع الضعفاء في العالم من الهنود الحمر إلى الفلسطينيين إلى الفيتناميين والأفغان والعراقيين وفي شتى بلاد العالم؟
لعل من أهم أسباب شهرة الكتابين أنهما يقومان بجانب من الحرب الإعلامية الأمريكية على طالبان وعلى دينهم وثقافتهم، وقليلا ما نجد تفريقا بين طالبان والإسلام، ولكننا نخرج بلا شك بكمية من التشويه أو الحقيقة المرعبة لما تمثله هذه الحركة التي تقيم الحدود الشرعية مع ارتباط ذلك بالفقر والكذب والجهل والحرب والشذوذ، وبعض هذه الوقائع حقيقة كما سمعنا من إعلام عالمي واسع مضاد لهم، ثم محارب لهم بعد فترة من حكمهم، ولكن ليس هذا هو الوقت الذي يقف فيه مخلص ليهجو ضحايا الحرب الباردة من قبل، والضحية بلاده أفغانستان لأنها كانت هناك عند ملتقى الجبهتين الروسية الأمريكية ولا يهجو دينه إن كان من أهله حين تتجاوز الأحقاد الحدود.
ويقابل ذلك عند الروائي تمجيد لحياة الغرب وبقايا سلوك الغربيين قبل اضطرابات أفغانستان في السبعينيات حين كان الغربيون يتنزهون ويسبحون ويمشون على ضفاف بحيرة قرب كابل، أو كما كانت ترد صورهم في أفلام تأتي من إيران من قبلُ.
وعند سيطرة طالبان على أفغانستان يقول الكاتب إن العرب والباكستانيين هم أصحاب القرار الفعلي في البلاد، وأن طالبان مجرد "دمية"، حيث نسمع العربية والأردية بجانب الفارسية في أهم فندق في كابل، وغالبا ما يأتي ذكر العرب والباكستانيين في صورة سلبية؛ تماما كما تقتضي الحرب القائمة اليوم.
ثم يبني على ما أشيع لاحقا حقائق مستعادة، فُسّرت ونشرت بعد غزو أفغانستان، وصناعة وتفسير أعداء أفغانستان وأعداء البلاد اللاحقين يوم أرادوا أن يحرّفوا المسار، وتلك قصة التاريخ دائما يكتبه المنتصرون، ويفسّره المنتفعون، وقد صوروا العربي والباكستاني بصورة الشخص السيئ المفسد، والمستغل، وتلك صورة مشوهة جدا عن الحقيقة ولا تبدو قريبة من الواقع؛ فالأفغان يوم أدوا دورا في هدم إمبراطورية الشر الشيوعية وأخرجوا الاحتلال ونفع جهادهم الغرب فكانوا "مجاهدين وشجعانا ووطنيين طيبين"، ولكنهم يوم حاولوا تحرير بلادهم من الغرب تحوّلوا إلى "إرهابيين خبثاء ومنافقين وفاسدين"، ومن ساعدهم صار بدوره إرهابيا، ولو كان رفيق درب الأمس، ونحن نعلم أن اختيار الأسماء والألقاب يُصاغ مدحا أو ذما وتشويها بحسب غاية المستغل أو الغازي المستعمر، فكان الكوبي والروسي هو الحبيب القريب النصير في الرواية بحسب تعاليم الحكومة الشيوعية العميلة لروسيا التي كانت في كابل، والشر آنذاك كان أمريكا والعرب والباكستان وجميع من يُعين المجاهدين.
حظُّ الحسيني أنه من دعاة الغزو الأخير، فلم نقرأ روايات أفغانية مؤيدة للشيوعيين أو مجدت الغزو الروسي التقدمي وهجت المُحررين ومن ساعد على التحرير، فأولئك هم الرجعيون الاستعماريون الذين يتم وصفهم بأرذل السِّمات الإمبريالية؛ لتعود الصورة المضحكة اليوم هاجية للنفس وممجّدة للغازي وأوليائه، فأصبحت التصنيفات بحسب حكومة كابل المصطنعة تقول إن الخير هو في الاحتلال الغربي، وإن الدول الغربية هي الحبيبة والقريبة والناصرة النافعة والمضحية من أجل أفغانستان وخيرها، تماما كما كانت حكومة كابل الشيوعية ترى موسكو وهافانا في الزمن الشيوعي! فالقاتل القوي المستعمر يصبح رائعا وجميلا ومُنقذا، وما عليك إلا أن تكون قويا ليخرَّ لك الأدب راكعا، كشاعر قديم يرتزق على باب كل نهّاب وهّاب!
لا يجرؤ المؤلف الحسيني أن يصرّح بهذا التقلب البشع بين الصلافة الاستعمارية الروسية ثم الأمريكية إلا نادرا؛ حيث يرد الموقف من الاستعمار الأمريكي في إشارة نادرة يهمس بها خفية في بحر الترحيب الطاغي بمحتل قوي يعيش على أرضه [الضمير في كلمة أرضه يعود للقريب وللبعيد]. وقد كانت كتابة الروايتين قبل تطور الأحداث، فلا أدري أي جنة أمكنه التبشير بها على يد محتل فرنسي أو إيطالي أو أمريكي أو روسي، فالاحتلال يقتل الناس يوميا ويقيم حفلة إبادة للأفغان الذين أصبحوا كلهم إرهابيين وكلهم مجرمين وكلهم طالبان، والإعلام الغازي يُبيد الحقيقة ثم الناس، ثم يتهم طالبان بأنها القاتل والمقتول وأنها السبب، فكل ضحية عند المحتل شريرة، وإن كانت طفلا أو عجوزا هرما أو شاة! وكما كان الروس يُبيدون الأفغان ثم يتحدثون عن قتل عملاء أمريكا، أو المتعصبين الدينيين، وكما كانت فرنسا تقتل الجزائريين في ميادين "الحضارة الباريسية" وفي جبال أطلس والغابات والمدن وتسميهم بالمتعصبين الإسلاميين، وكذا إيطاليا التي أبادت المجاهدين والعُزّل الليبيين ووسمتهم بكل عيب وتطرف ديني.
هكذا يعود التاريخ فجّا في مهامه أفغانستان وفي النصوص الأدبية المرتبطة به أيضا. والقصة لا تكلف راويا ولا مثقفا تعبا، بل يقلب صفحة سابقة أو لاحقة ليرى الصورة نفسها مكررة في بلاد العرب والمسلمين، والتي تتلقى الإبادة منذ خمسمائة عام، أي منذ سقوط غرناطة إلى اليوم في بغداد وفي الرمادي أو قندهار، أو هرات. وإياك أيها المثقف أو الفنان أن تكشف أو تتحدث عن "غزو إرهابي غربي"، فستصنَّف إرهابيا أو مؤيدا للإرهاب أو متعاطفا معه!! أفلا نعذر الحسيني أيضا فنشيد بفنه، ونقول: لقد عبّر عن فكرة أُكره عليها، فهل في الفن إكراه؟!
أما عن دور الإمبراطوريات الاستعمارية في أفغانستان، فنجد المخرج فورستر الذي أخرج فيلم: "عدّاء الطائرة الورقية"، أشجع من المؤلف في توجيه اللوم لمستحقيه من الإمبراطوريتين الروسية والأمريكية في تدمير أفغانستان، وانتقد المخرج الثقافة الإمبراطورية الموروثة منذ الرومان، لأنها تكرر الأساليب نفسها منذ القدم وصولا للإمبراطورية الروسية ثم الأمريكية، في حين أن خالد الحسيني كان يعيش عقدة الملتحق بالإمبراطورية، فيتبع قناعة أو تظاهرا الموقف الرسمي لحكومة المحافظين الجدد "اليهود". فهو ينتقد الروس فقط كما في الروايتين.
والقارئ يقدر ظروفه التي لا تجعله قادرا على لوم الإمبراطورية الجديدة التي يعيش في ظلها وينعم بدعايتها وبنتاج أرباح الفلم الذي كتب أصله، وكذا أرباح أكثر من تسعة ملايين نسخة من نسخ الكتاب بيعت آنذاك، ويبقى بلده يصلى نار الاحتلال، بل نجده يرجو أن يبقى الأمريكان لإصلاح بلاده!! (كفى بك داءا أن ترى الموت شافيا) وله أن يتخير بين محتل ومحرر كلهم أضر بهذه الضحية بشرا وأرضا، فهل ستكون المقاومة مصطلحة مع نفسها وشعبها أم تكرر مصائب ما بعد الاحتلال الروسي عندما تتحرر مستقبلا من الاحتلال الأمريكي؟
من مآسي المثقف في هذه الحال أن يكون مضطرا للاختيار بين أن ينافق لمستبدٍ محتلٍ غني وبين الإخلاص لبلده، وقد اختار خالد صف المحتل، المغدق بالدعاية والشهرة لمن يؤيده، ولو ضد أهله وبلده.
الروح الأفغانية العليلة في زمن الشيوعية هي نفسها تمرض بمحتل جديد لا يقل عنفا كما يشير بل يفسد الأخلاق والحياة، وإليك هذا المشهد الذي يسرده من الزمن الروسي حيث يقول: "لا تستطيع بعد اليوم أن تثق في أحد في كابل، فالناس يتجسس بعضهم على بعض، بمقابل أو بالتهديد، الجار يخبر عن جاره، والطفل عن أبويه، والأخ عن أخيه، والخادم عن سيده، والصديق عن الصديق".
ذلك هو الجانب المظلم من حال الرواية تحت ضغط فكرة الاحتلال حتى لمن هو شبه حر، ولكنه لو كان في بلده لما كان هناك من أمل في قراءة ولا كتابة، فهل عليه وهو هناك أن يكتب رواية عن النِّعَم التي تتحقق للبلد المقهور، في العراق وفي أفغانستان من قتل الملايين من المواطنين المسلمين الأبرياء، من الأطفال والنساء، وتشريد الفقراء والجوعى والخائفين، وهل عليه أن يؤيد ويُبشِّر بالجنة التي تتحقق من قتل العراقيين والأفغان ليكون أديبا عالميا أو مفكرا حضاريا فاهما ومستوعبا لمشكلة الصراع مع المتعصبين. إن الطمع والنفاق وجهان قاسيان من العبودية يضع المتملق فيهما نفسه، وكنت أقول وأنا أقرأ ما يخطه: "ليت هذا الفن كان في يد نفس حرة"!
الصور الفنية التي يتركها هذان العملان هي بلا شك غاية في النجاح، فالكاتب خلع على صور الناس والمشاهد وأبطال الرواية، خلع ملامح حياة وحيوية لا تُنسى ولا تغيب بسهولة عن مُخيِّلة القارئ، كما أن وصفه للبيوت والأسواق والأشخاص في كابل وغيرها تشخيص باق، وتنقُّله مع القارئ في صناعة الحركة للشخص يده ورجله وشرابه وطعامه ولباسه وبيته والسفر والناس والملامح قُدّمت في صور بالغة الوضوح والتصوير المميز للأشخاص والمشاهد، بتقاطيع حادة تركب عليها من مخيلتك ما ينقله التلفاز يوميا للعالم، حتى لكأن البطل يتحرك أمامك في موقفه وشخصه وكلامه. ويذهب بك الحسيني بعيدا إلى نفوس أبطاله، حتى لتكاد تنفذ إلى غور الأشخاص واحدا بعد آخر. فوالد البطل "بابا"، الأب المضحي، الرجولي المواقف، الجاد في عمله وفي خدمة ابنه، ثم أمير ابنه بطل الرواية الأولى، ثم حسن الهزاري ابن الخادم "ظاهرا" (قبل أن ينكشف العكس لاحقا)، أما حياة المجتمع الأفغاني المهاجر لكاليفورنيا وكيف عاش هناك حياته اليومية واقتصاده وعلاقاته.
في الرواية الثانية، تجد ليلى وأمها البائسة بكل تلك العقد النفسية والإساءة التي تعرضت لها من التاجر الفاجر، ثم طفلتها مريم، ثم ليلى، ورشيد زوجهما الإسكافي، حيث تتحول الضرتان إلى صديقتين حميمتين.. إنها شخصيات حاضرة بعد القراءة، تحمل مآسي المجتمع الأفغاني وعقده، ومشكلات الأغنياء وأمراضهم، وحال الفقراء البائسة، وأخلاق المنتصرين المتهاونين بالدماء من المجموعات الإسلامية التي انتصرت على الشيوعيين ثم دمرت بلادها ودمرت بقية الحياة فيها.
والخلاصة هي أن العملين قد نجحا إلى حد كبير في الدعاية السياسية المضادة، كالدعاية لأمريكا والغرب، ومن ظهر في أي وقت بأنه مُوال لهم كأحمد شاه مسعود، والتشنيع بالمخالفين، وبخاصة طالبان، وبممارساتها المتشددة، ولا شك بأن بعض ما قال فيه حق كبير، فهل سنقرأ للحسيني نصوصا أخرى يجرؤ فيها على الحديث بالحقيقة أيضا عن مسيئين آخرين لبلاده ولشعبه، قتلا واحتلالا؟ وبخاصة أنه بعد بناء واشتهار الاسم، وبيع أرقام هائلة من الكتابين، قد يُظن به القدرة الفنية على الاستقلال، فهل يمكنه أن يتمرد على صانعي شهرته؟ أم أن هذا قلم دعاية جديد يشبه أقلام دعاية "الرفاق" الشيوعيين القدماء، كما وصفهم هو نفسه؟
في مقطع معبّر من روايته الأولى، يشير الروائي إلى أنه يحلم أن "يصبح ذات يوم، فيطّلع من النافذة فلا يرى الوجوه الكالحة لعساكر الروس على أرصفة كابل ولا دباباتهم تصعد وتهبط شوارع المدينة". لقد قال حقا عن ماض بعيد لم يعد يضر الكلام عنه لأن جيشه قد خرج قديما، ولكنه قد لا يستطيع قول الحقيقة في وجه المحتل الجديد وارث الروس القوي الذي يعيث اليوم في الشوارع نفسها ويبيد الشعب ذاته! فهل الطمع المذل في شهرة أو مال يمنعه حتى من تمني خروج المحتلين الجدد!
لقد تركت الرواية الأولى صورا كثيرة في الخيال، حتى إنني لمّا حاولت أن أختزل كل شيء وجدت صعوبة في ذلك، وما هذا إلا بسبب غنى الرواية الأولى خاصة والنجاح الفني لكاتبها في صناعة متعة القراءة والمتابعة والتخيل، إنهما في النهاية فن عال وملحمة دعاية حربية، وهما هجاء للمجتمع وللأفكار مُقذع، وفي السبك مُبدع، ولا نملك إلا قول الحق في هجاء الفكرة حين تكون مبتذلة، والإشادة بالفن عندما يترك صورا في الخيال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.