ربما يفيد، في ذروة أكبر أزمة تواجهها الولاياتالمتحدة وسياستها تجاه العالم، العودة الى أحدث كتب الرجل الذي لعب أهم دور في توجيه هذه السياسة ووضع الأسس التي سارت عليها خلال ثلاثة عقود من الزمن أو يزيد، فلم يكن هنري كيسنغر أحد أبرز وزراء الخارجية الاميركية فقط، وإنما هو ايضاً أهم رموز النزعة الواقعية المفرطة في الانفلات من أي مثاليات، وظهرت هذه النزعة في أوضح صورة لها منذ وقوع الهجمات على واشنطنونيويورك في 11 أيلول سبتمبر الماضي. صدر كتاب كسينغر المعنون: "هل تحتاج الولاياتالمتحدة الى سياسة خارجية" قبل أقل من عام على هذه الهجمات ليعيد التذكير بأن الأمن فوق الحرية والنظام يعلو العدالة، وبأن الديبلوماسية لا تغني عن القوة، والسعي الى سلام عالمي لا يحول دون زيادة التسلح. ومن السهل لأي مراقب أن يلحظ مدى انطلاق السياسة الاميركية في ردها على أحداث الثلثاء الأسود، من هذه الركائز التي لم ينفرد كيسنغر بوضعها بطبيعة الحال - وإنما لعب دورا كبيراً في تكريسها. فقد حاول كبار المسؤولين، وفي مقدمهم الرئيس بوش الثاني، الايحاء بأنهم يدافعون عن الحرية في مواجهة الارهاب، ولكن جاء حديثهم عن الحرية في سياق يدل على أنهم لا يعرفون معنى لها - الآن على الأقل - أهم من ضرورة التحرر من أي قيود أو كوابح تحد من قدرتهم على توجيه ضربة ساحقة ضد معاقل الارهاب الذي هز هيبة القوة العظمى الأولى. وهذا ما عبر عنه كيسنغر شخصياً في المقال الأول له عقب الهجمات بقوله: "إننا أحرار في شن هجمات عسكرية ضد كل من يهدد أمن الشعوب الحرة". وكان أركان الادارة الاميركية معه على الخط نفسه، إذ حرروا أنفسهم من أي قيود تنبع من النظام الحر وتميزه عن غيره شموليًا كان أو تسلطيًا. ففي النظام القائم على قيم الحرية ينبغي اثبات ادانة أي مشتبه به قبل اتهامه رسميًا، ناهيك عن الحكم بقتله. كما يفترض توفير محاكمة عادلة له قبل اصدار مثل هذا الحكم. ولكن أياً من المسؤولين الاميركيين الكبار لم يكن راغبًا في تذكر هذه المبادئ أو غيرها. وتصرفوا كما لو أنهم يمثلون حكومة عسكرية تحمم بالأوامر والمراسيم، بدءًا من اعلان حال الطوارئ ووصولاً إلى التنصت على مكالمات الأجانب الهاتفية ومروراً بإجراءات أمنية شديدة الصرامة. وإذا عكف هؤلاء على مراجعة خطابهم السياسي في الأيام التالية للهجمات على واشنطنونيويورك لوجدوه يفيض غطرسةً، وليس هذا جديداً فقد دأبت الإدارات المتتالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على تجاهل نصائح الليبراليين الاميركيين بوضع حد لهذه الغطرسة منذ اصدر السناتور وليم فولبرايت كتابه المشهور "غطرسة القوة" في العام 1966، وهذه هي النصائح التي سخر منها كيسنغر في كتابه الأخير أشد السخرية، ولكن الجديد هو ما يتسم به الخطاب الاميركي الراهن من نزعة متشددة تجاوزت أقصي ما صدر في أزمات سابقة. فقد حفل هذا الخطاب بعبارات من نوع "استئصال" و"اجتثاث" و"القضاء على"، فضلا عما تضمنه من ميل الى الاستخفاف بالأساليب القانونية والقضائية التي تميز النظام الاميركي، ولا نجد فرقاً، هنا، بين كيسنغر الذي كتب من خارج الدائرة الرسمية مشيراً الى أن هذا ليس وقت المقاضاة الجنائية، وبين بولي ووليفيتز نائب وزير الدفاع الذي تحدث من موقعه الرسمي عن أن المسألة ليست مجرد القبض على مجموعة أشخاص ومحاسبتهم. فالقضية، عندهما ولدى النخبة السياسية الاميركية عمومًا أبعد من ذلك بكثير، إنها الحرب، كما قال الرئيس بوش، ولكن من دون أدنى دليل على أنها موجّهة ضد من ارتكب الجريمة الشنعاء. ويعني ذلك أن الدولة العظمى الأولى، التي تمثل نموذج الحرية وحقوق الانسان وحكم القانون، تنتهك هذا النموذج في عمليات عسكرية لا يمكن إلا أن تكون عشوائية في غياب دليل قاطع على مسؤولية المستهدفين بهذه العمليات عن هجمات واشنطنونيويورك كما لا يمكن إلا أن تسبب ذعراً لشعب مسكين نقلت الكاميرات مدى بؤس ابنائه الهائمين على وجوههم بحثا عن ملاذ آمن. لقد ناضل أنصار الحرية في عالمنا، ومن بينهم كثير من الاميركيين، طويلا من أجل تجنب مثل هذه المشاهد المؤلمة التي تنتج عادة عن تصرفات يقدم عليها قادة مستبدون لا يستطيع أحد أن يختلف معهم أو يراجع سياساتهم، وها هم حكام الولاياتالمتحدة اليوم يفعلون مثلهم عندما يردون على ارهاب منظمات وأفراد بإرهاب الدولة العظمى التي تعالت على مجلس الأمن الدولي فلم تلجأ إليه، بل عطّلت عمل المنظمة الدولية عبر تأجيل الدورة السادسة والخمسين للجمعية العامة التي كان مفترضاً أن تبدأ أعمالها قبل أيام. وكان أقصى ما استطاعه بعض الدول الأخرى هو مناشدة الدولة العظمى عدم التعجل واستكمال البحث عن هوية الجناة، أي تذكيرها ضمنيا بما يفترض أن تفعله دولة ترفع لواء الحرية. أما الشعب الاميركي نفسه فكان طبيعياً أن تدفع الصدمة غالبيته الى اطلاق صيحات الثأر والانتقام وإلى اعطاء الأولوية للأمن الذي لا تستمر الحياة من دونه. ولا تدرك الشعوب في مثل هذه الظروف أي خطأ ترتكبه في حق نفسها عندما تنساق وراء مشاعر فياضة تعطل العقل وتشل التفكير، وهذا ما فعلته شعوب عربية صفقت لحكامها المستبدين عندما دغدغوا مشاعرها عبر خطب وشعارات حماسية ضد أعدائها، فكان أن خسرت الصراع ضد هؤلاء الأعداء وفقدت حريتها في آن معاً. وأخشى أن يكون هذا هو ما يفعله الشعب الاميركي الآن من دون وعي عندما ترحب غالبيته بإجراءات أمنية على حساب الحريات العامة. وقد يقول قائل هنا إن هذه اجراءات موقتة سرعان ما تلغى مثلما حدث في أزمات سابقة إبان عملية بيرل هاربر وفي فترة هستيريا العداء ضد الشيوعية المكارثية وخلال حرب فيتنام. غير أن الوضع الآن يختلف، فالصراع الذي تخوضه الولاياتالمتحدة ضد الارهاب سيستمر لفترة طويلة. وليس هذا محض توقع، بل هو تقدير مسؤولين اميركيين كبار يعرفون ما يعنيه صراع ضد عدو لا مكان محددا له ولا عنوان ثابتًا، وخصوصاً عندما يكون عدوا ذكيا وله دوافعه على حد تعبير الكاتب المعروف توماس فريدمان في زاويته في "نيويورك تايمز" والتي جعل عنوانها: "انها الحرب العالمية الثالثة". فإذا صح أنها هذه الحرب، وأنها ستطول الى مدى يصعب توقعه فبديهي أن يكون الخطر على الحريات العامة في الولاياتالمتحدة اكبر مما تعرضت له في أي أزمة سابقة. وفضلا عن ذلك فالأزمة الراهنة تختلف عن سابقتها في أن العدو يضرب في الداخل، ومن الداخل. ويعني ذلك أن هذا العدو الارهاب يستثمر الطابع المفتوح الذي يميز المجتمع الاميركي، الأمر الذي قد يؤدي إلى اعتبار هذا الطابع نقطة ضعف. والأكيد أن هذه خسارة تتجاوز الشعب الاميركي الى شعوب اخرى تتطلع الى نموذجها الديموقراطي العظيم الذي ثبت أنه الأفضل في ما يتعلق بالنظام السياسي الذي يقوم علي التعدد واحترام الحريات العامة وضمان حقوق الانسان. كما أن تراجع الحريات في الولاياتالمتحدة سيقلّص قدرتها على مواصلة استخدام مسألة الديموقراطية أداة في سياستها الخارجية لسببين: اولهما ان بيتها سيصير من زجاج، صحيح أنه لن يكون من نوع الزجاج الأشد رداءة في البلاد المحكومة بالحديد والنار، ولكنه سيكون زجاجاً على أية حال وليس صلباً، ولذلك بدا الناطق باسم البيت الابيض أقل جسارة، قبل أيام، عندما انتقد تزييف الانتخابات في روسيا البيضاء وفوز الرئيس الكسندر لوكاشينكو لفترة جديدة. أما السبب الثاني فهو أن حاجة الولاياتالمتحدة الى تعاون حكومات دول غير ديموقراطية معها في مواجهة الارهاب ستدفعها الى التغاضي عن انتهاكات الحرية وحقوق الانسان فيها، ولنأخذ مثلا حالة باكستان، إذ استقبلت واشنطن الانقلاب العسكري هناك بنقد حاد ومطالبة بتحديد مدى زمني محدد وسريع لاستعادة الديموقراطية، والأكيد أنها ستنسى هذا المطلب بعد أن رأت الاتجاهات السائدة في الشارع السياسي، وستخشى أن تؤدي انتخابات حرة الى تشكيل حكومة ملتزمة بموقف انتخابي راديكالي. لقد بددت الولاياتالمتحدة فرصة تاريخية، عندما انتصرت في الحرب الباردة الدولية، وكان العالم ينتظر ان يرى الفرق بينها كدولة قانون وبين دولة شمولية تصعد الى القمة الدولية. وها هي تمضي الآن في الطريق نفسه ولكن بسرعة أكبر لتخسر نفسها وحرية مجتمعها هذه المرة، بعد أن فقدت ثقة وحب غيرها، والمهم أنها تخسر نفسها من دون ضمان أو تكسب معركتها الراهنة ضد الارهاب أو تخرج منتصرة من الازمة الاكثر حدة في تاريخيها، فليس افضل من الاصرار على احترام قيم الحرية وحكم القانون في الداخل والخارج سبيلاً الى الانتصار على الارهاب الذي يستهدف هذه القيم، ولتكن هي اللحظة التاريخية التي تحتاج اميركا فيها الى أن تستعيد نموذجها الذي ظل موضع اعجاب واسع النطاق في عقود قليلة مضت، بل لعب دوراً بارزاً في الانتصار على الشيوعيين. وأغلب الظن أنه قادر على المساهمة، اليوم، في الحرب ضد الارهاب اذا تنحى جانباً انصار الواقيعة المفرطة الذين يصنعون السياسة الخارجية الاميركية الآن. * نائب مدير مركز "الاهرام" للدراسات الاستراتيجية.