لم تكن تلك هى المرة الأولى التي تعبر فيها الإدارة الأميركية عن استيائها من طريقة تعامل السلطات المصرية مع قضية الدكتور سعد الدين إبراهيم، اذ تكرر هذا الموقف مرات عدة منذ إلقاء القبض عليه، وحتى صدور الحكم الأول والثاني بإدانته وسجنه 7 سنوات. الجديد في الأمر هو إقدام الإدارة الأميركية للمرة الأولى منذ نحو ربع قرن - أي منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد - على ربط الموافقة على تقديم المعونة بإجراء معين يتصل بحقوق الإنسان، وهو في هذه الحال يعني الإفراج عن د. إبراهيم، الأمر الذي كانت له آثار مدوية في الأوساط السياسية العربية والعالمية. يثير هذا التطور المثير عددا من الأسئلة المهمة: ما هي طبيعة قضية سعد الدين إبراهيم، وما موقعها في ملف حقوق الإنسان في مصر؟ وما هو موقع ملف حقوق الإنسان في العلاقات الأميركية -المصرية؟ ما هو موقع حقوق الإنسان في السياسة الأميركية؟ هل الربط بين حقوق الإنسان، وقضية إبراهيم، والسياسة الخارجية الأميركية ربط مفتعل أم جاد؟ ولماذا؟ ما هى الآثار الفعلية لهذا الموقف الجديد على مستقبل قضية إبراهيم ذاتها؟ وعلى مستقبل العلاقات الأميركية - المصرية؟ الاستراتيجية القاتلة: يكشف ملف قضية سعد الدين إبراهيم أننا أمام قضية سياسية وحقوقية من الطراز الأول، فهو شخصية عامة بارزة في العالم العربي، بوصفه واحداً من أبرز علماء علم الاجتماع في المنطقة، ومؤلفاً لعدد من المراجع المهمة في هذا المجال باللغتين العربية والإنكليزية، فضلاً عن كونه من أبرز دعاة الديموقراطية والمجتمع المدني. ولا يقلل من شأن ذلك اختلاف عدد كبير من المثقفين والسياسيين العرب - بما فيهم كاتب هذا المقال - مع بعض مواقفه السياسية، بل الحقوقية أيضاً. أما الاتهامات الموجهة فتؤكد الطبيعة السياسية للقضية، اذ ان معظمها يتعلق بمواقف وكتابات وتقارير منشورة، وتحوي بالأساس موقفه من قضايا الديموقراطية ونزاهة الانتخابات والأقليات في العالم العربي. ومما يؤكد الطابع السياسي للقضية أيضاً، أن هذه الاتهامات يمكن أن تنطبق على عدد من الكتاب والصحافيين والشخصيات العامة ومنظمات المجتمع المدني، خصوصاً منظمات حقوق الإنسان، التي توصف تقاريرها دائماً في دوائر الإعلام بأنها تسيء إلى سمعة مصر، وهي التهمة نفسها الموجهة للدكتور إبراهيم. جدير بالذكر أن المادة 80 من قانون العقوبات التي تجرم نشر أو إذاعة بيانات يمكن أن تسيء إلى سمعة البلاد، والتي حوكم بمقتضاها إبراهيم، تتصدر قائمة المواد القانونية التي يطالب الصحافيون ورجال الرأي والسياسة في مصر بإلغائها منذ زمن طويل من دون جدوى. أما الاتهامات ذات الطبيعة الجنائية، والمتصلة بالأساس بكيفية إدارته للمنحة المقدمة من الاتحاد الأوروبي، فقد أوضح الأخير في بيان منشور بأنه لا يخالجه أي شك في سلامة التصرفات المالية للدكتور إبراهيم، والتي روجعت من قبل موظفو الاتحاد. هذا التوصيف السياسي للقضية، هو ما رفضه بالذات الخصوم السياسيون للدكتور إبراهيم. ولكن ما يثير الدهشة أن أسرة إبراهيم وفريق المحامين المدافعين عنه وضعوا خطة للدفاع استهدت برأي الخصوم، وأسقطت بشكل شبه تام الطابع السياسي للقضية. كانت هذه هي الخطوة الأولى على الطريق الذي انتهى بالحكم القضائي بإدانته مرتين. وجاء ذلك خلافاً لنصيحة ومشورة محامي منظمات حقوق الإنسان المصرية، التي تمحورت على ضرورة بناء جوهر استراتيجية الدفاع داخل النيابة والمحكمة وخارجها على الطبيعة السياسية للقضية، من دون إهمال أي دفوع قانونية أخرى. وربما يفسر هذا المسافة التي حدثت بين منظمات حقوق الإنسان وبين القضية، التي اقتصر دورها فيها على التضامن عن بعد، إما بإصدار البيانات من وقت لآخر، أو تقديم المشورة من خلف الكواليس، من دون أن تجد تجاوباً من فريق الدفاع عن إبراهيم. وعندما قرر إبراهيم أن يتقدم بنفسه بدفاع سياسي، كان الوقت متأخراً جداً، اذ صدر الحكم الثاني بالإدانة قبل أن يتمكن من تلاوة دفاعه. مصر وأميركا منذ زمن طويل ومنظمات حقوق الإنسان الأميركية والدولية تشكو من أن ملف حقوق الإنسان لا يحتل مكانة ذات شأن في العلاقات المصرية - الأميركية، بينما تؤكد التحليلات الأكاديمية الأميركية المتابعة لملف العلاقات الثنائية، أن الأولوية الأولى للإدارة الأميركية في هذا الملف هى المصالح الأمنية في منطقة الشرق الأوسط، بما يعنيه ذلك من قطع الطريق على أي احتمالات لحروب إسرائيلية - عربية، أو تهديد مباشر أو غير مباشر لمنابع وإمدادات النفط في منطقة الخليج. وقد لعبت مصر دوراً حيوياً في تعزيز هذه الاستراتيجية منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد عام 1978، وبلغت ذروتها بمشاركة مصر في التحالف العسكري لإجلاء القوات العراقية المحتلة للكويت. الأولوية الثانية هي للمصالح الاقتصادية المباشرة، بما يتضمنه ذلك من خصخصة القطاع العام المصري، وتوسيع نطاق نخبة رجال الأعمال، ومكانتها في العملية الاقتصادية والسياسية. وذلك من دون تعريض الاقتصاد المصري لهزة كبيرة تؤثر سلباً في احتمالات اضطلاع مصر بدورها في إطار الأولوية الأولى... أي الأمن الإقليمي. وهذا يقودنا إلى الأولوية الثالثة، وهى الحفاظ على استقرار النظام السياسي المصري، بما يجعله قادراً على القيام بالدور المنوط به في إطار جدول أعمال كهذا. أما ملف الديموقراطية وحقوق الإنسان فإنه لا يأتي في المرتبة الرابعة ولا في العاشرة، إنه ملف فرعي وغير مستقل، فهو محكوم بعوامل أخرى أكثر أهمية هى الأولويات الثلاث الأولى. فهناك اتجاه قوي في الإدارة الأميركية يعتقد أن المدخل الحقيقي للتحول الديموقراطي في مصر وغيرها، هو مزيد من اللبرلة الاقتصادية. وهناك اتجاه آخر لا يقل قوة ينادي بالإصلاح السياسي المباشر، من دون انتظار الثمار السياسية للإصلاح الاقتصادي .وهذا الاتجاه لا ينادي بذلك انطلاقاً من إيمان رومانسي بالديموقراطية، ولكن موقفه ينبع من قلقه على الأولوية الثالثة المهمة، أي استقرار النظام المصري. بعد 11 سبتمبر، صار الاتجاه الثاني أكثر نفوذا، ولكنه أيضاً طور مفاهيمه وتوجهاته انطلاقاً من تحليله الخاص لهذا الحدث الهائل، كما سنرى لاحقاً. وفي إطار جدول أعمال هذين الاتجاهين الرئيسيين، ليس هناك مجال بالطبع لآلية "ديموقراطية" تسمح بأن تصعد للحكم قوة سياسية معادية للمصالح الأمنية الإقليمية الأميركية، أو لعملية السلام مع إسرائيل. مثلما ليس مسموحاً لأي إصلاح سياسي في فلسطين أن يأتي مثلاً بحماس أو الجبهة الشعبية على رأس السلطة الفلسطينية. الهدف المركزي الثابت هو تعزيز المصالح الأميركية، وهو يتسع للتحلي من حين لآخر ببعض "الماكياج" الديموقراطي. ويتسع أيضا في أحيان أخرى لتحركات معاكسة، مثل تلك المحاولة الفاشلة لتسويق -لدى منظمات حقوق الإنسان في مصر- قانون استبدادي للجمعيات الأهلية في عام 1999!. انعدام الصدقية إذا كان هناك من كان يراهن في العالم على دور للحكومة الأميركية في تعزيز احترام الديموقراطية وحقوق الإنسان قبل 11 سبتمبر، فإن هذا الوهم قد تبدد تماماً خلال العام الأخير. فعلى الصعيد الدولي أبدت الإدارة الأميركية استهتاراً علنياً غير مسبوق بالقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وتواطأت على جرائم الحرب التي ارتكبها حلفاؤها في أفغانستان، وارتكبت هي ذاتها جرائم حرب أخرى هناك، ورفضت تطبيق القوانين الدولية على أسراها في غوانتانامو، وسحبت توقيعها من اتفاق المحكمة الجنائية الدولية، وقامت بحملة ابتزاز دولي للضغط على حكومات العالم حتى لا تنضم لهذه الاتفاقية، أو توقع معها اتفاقات ثنائية، لحماية الجنود الأمريكيين من أن تطالهم العدالة الدولية، وساندت علناً الديكتاتور العسكري الحاكم في باكستان، والسفاح الدموي الحاكم في إسرائيل، وقدمت التغطية السياسية والديبلوماسية لجرائمه في فلسطين. وفي داخل الولاياتالمتحدة سُنت تشريعات تتنافى مع المعايير الأساسية لاحترام الحقوق والحريات المدنية، والمنشئة لنمط من المحاكم العسكرية الخاصة التي تفتقر إلى الحد الأدنى من معايير العدالة الدولية. وفي إطار هذه الشهوة المتأججة للعنف والحرب، والاستهتار علناً بخطاب حقوق الإنسان ومفرداته على لسان كبار المسئولين الأميركيين، يصبح الاهتمام بالحقوق الإنسانية لشخص واحد مدعاة للسخرية، حتى لو كان ذلك الشخص هو سعد الدين إبراهيم. المعونة والميزانية لم يكن يتوقع أحد أن يقر الكونغرس أي اقتراح بمعونة إضافية لمصر خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار نظرته الى مصر بعد 11 سبتمبر، وبروز تباعد في المواقف حول عدد من القضايا، كالعراق وفلسطين والسودان، وغيرها. في هذا السياق، ظهر نوع من الافتعال في الربط المعلن بين رفض المعونة الإضافية لمصر وقضية سعد الدين إبراهيم. ويمكن إيجاز أسباب هذا الربط في: 1- التجمل ب "ماكياج" حقوق الإنسان في الساحة الدولية، ولدى الدوائر الليبرالية في المجتمع الأميركي المصابة بالذعر من سلوك هذه الإدارة داخلياً وخارجياً بعد 11 سبتمبر. 2- تعزيز قوى وعوامل الضغط على الإدارة المصرية في ملفات أخرى، بطريقة غير مباشرة، لتجنب الحساسيات الناجمة عن إثارتها بشكل مباشر. فالموقف الأمريكي الأخير هو رسالة صريحة بأن المعونة الأصلية 2 بليون دولار قد تطرح أيضاً للتساؤل في المستقبل. 3- أبرز هذه الملفات: أ الخلافات السياسية في المنطقة حول فلسطين والسودان والعراق. بملف الدمقرطة في مصر، في الإطار الذي لا يضر بالمصالح الأميركية. لقد اكتسبت مسألة الدمقرطة أبعادا جديدة بعد 11 سبتمبر، نتيجة تعزُّزّ مواقع الاتجاه الذي يرى أهمية الإصلاح السياسي للنظم العربية، والذي بات يعتقد بأن انغلاق وركود المجتمعات العربية وسيادة النظم التسلطية فيها، هو مصدر لمفاقمة مخاطر الإرهاب داخل الولاياتالمتحدة الأميركية ذاتها. ومن ثم فإن أنصار هذا الاتجاه يطالبون الإدارة الأمريكية بالوقوف بقوة من أجل العمل على إصلاح الخطاب الديني والسياسي وآليات الاستيعاب السياسي داخل عدد من الدول العربية، على رأسها مصر والسعودية، التي خرج منها ال 19 منفذاً لهجمات 11 سبتمبر. الضحية المؤكدة حتى الآن للقرار الأميركي هى قضية د. إبراهيم ذاتها، التي تبدو لأول وهلة كما لو كان الموقف الأخير يحتفي بها، في حين أنه أدى عملياً إلى المزيد من تقويض المكانة الأدبية للدكتور إبراهيم بين مواطنيه. وهذا ما لم يكن يجهله صناع القرار الأميركي!.. * مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان.