حدث ذلك أواخر عشرينات القرن الثامن عشر. كان هناك كاتب انفق عمره كله في العمل السياسي ونشر البيانات الاجتماعية وصراخ الاحتجاج ضد الأوضاع السائدة. لكنه في ذلك الحين كان أربى على الستين من عمره، وبدأ يحس انه مقصّر مالياً مع بناته اللواتي بتن على وشك الزواج لكنه ليس قادراً على توفير أية مساعدة لهن. وأدرك ان عليه الآن ان يكتب نصاً يروج ويعود عليه بشيء من المال. كان صاحبنا يبحث بدأب عن موضوع يكون شعبياً وسهلاً ممتعاً وغريباً يجتذب القرّاء. وفجأة وهو في خضم حيرته، عثر على ضالته: صدر في لندن كتاب غريب من نوعه أصدره قبطان سفن يدعى روجرز، يروي فيه حكاية دورانه بحرياً حول العالم. كان معظم فصول الكتاب من النوع المعتاد الذي كان متكاثراً في ذلك الحين. لكن فصلاً محدداً في الكتاب استوقف يومها صاحبنا، كما استوقف ألوف القراء وأثار في انكلترا ضجة ما بعدها ضجة: كان ذلك الفصل يتحدث عما حدث حقيقة للبحار سلكيرك الذي وجد نفسه مهجوراً، العام 705، في جزيرة خوان فرنانديز في بحر الشيلي وحيداً ضائعاً. هذا البحار بعدما أمضى 4 سنوات في تلك الجزيرة وحيداً، عثر عليه القبطان روجرز وأنقذه، وهو في حال وحشية تماماً. هذه الحكاية أثارت مخيلة صاحبنا الكاتب تماماً ودفعته الى تصميم مشروع عنوانه وموضوعه "الحياة الغريبة والحافلة بالمغامرات الصاخبة التي عاشها روبنسون كروزو، البحار القادم من مدينة يورك، والذي عاش ثمانية وعشرين عاماً بالتمام والكمال في جزيرة مهجورة قرب السواحل الأميركية غير بعيد من مصب نهر أورينوك". ويتحدث المشروع عن الكيفية التي وصل بها كروزو وهناك بعدما غرقت سفينة كان عليها ولم ينج في الحادث أحد غيره. هذا المشروع عرضه الكاتب على الناشر تايلور، الذي أعجب به على الفور ولكن صاحبنا وضع رواية في 350 صفحة تروي تلك المغامرات. وهكذا انكب الرجل على العمل لينجز خلال اسابيع قليلة، ذلك العمل الذي سرعان ما صار واحداً من أشهر الأعمال الأدبية في التاريخ. صحيح ان الكاتب آثر ألا يضع اسمه على الرواية، لكن السبب كان غير ما يمكن اعتقاده: كان السبب أن الرواية كتبت على شكل سيرة ذاتية، بقلم صاحب العلاقة روبنسون كروزو نفسه، ما استدعى تغييب الكاتب الأصلي. وهو ما عاد هذا الأخير وفعله بالنسبة الى عدة كتب كتبها لاحقاً على الشاكلة نفسها: سيرة ذاتية لشخصيات وهمية "مول فلاندرز"، "ليدي روكسان"... الخ. نعرف طبعاً ان الكاتب المذكور هو دانيال ديفو. ونعرف ان الرواية حققت فور صدورها نجاحاً مدهشاً، وانها على مدى العقود التالية قلدت عشرات المرات. وان ديفو نفسه كتب تكملة لها. ونعرف ايضاً ان نوعاً من سوء التفاهم جعل هذه الرواية تعتبر منتمية الى أدب الصغار. وكان ينبغي انتظار كتاب "إميل" لجان - جاك روسو، للمقارنة وادراك الابعاد الحقيقية لرواية تمكنت، عبر رسم صورة شخصيتها الرئيسية، من رسم صورة ما لتطور البشرية نفسها، وتعمقت في دراسة قدرة الانسان على وعي ذاته واقامة مجتمعه الخاصة، غائصة في مسائل مثل الايمان والتربية والصراع من أجل البقاء وأكثر من هذا - وهنا الإحالة الى روسو - علاقة الانسان بالطبيعة، وفي شكل أكثر تحديداً، الصراع الذي يمكن أن يخوضه الانسان ضد عنت الطبيعة وقدرته على تسخير امكانات هذه الأخيرة لمساعدته على العيش. ما يحيلنا الى القضية الحضارية، بما في ذلك قضية التواصل واللغة. وطبيعي ان نشير الى أن ديفو، في سبيل التعبير عن هذا، جعل لكروزو، خلال مرحلة لاحقة من اقامته في الجزيرة، رفيقاً هو "جمعة" - فرايداي، كان أصلاً من آكلي لحوم البشر، وكان رفاقه الوحشيون يستعدون لالتهامه حين أنقذه كروزو وبدأ يعلمه اللغة والدين ويدخله في قلب الحضارة. من ناحية تسلسل احداثها تروي "روبنسون كروزو"، إذاً، حكاية ذلك الشاب الذي كان تواقاً الى المغامرة فأبحر، على رغم نصائح أهله الناهية، لكنه يشرف على الغرق في يارماوث، ثم يبحر من جديد. وهذه المرة يأسره قرصان من سالي ويقتاده اليها حيث يبقى عامين في الأسر يهرب بعدهما، مع عبد أفريقي فتى يدعى خوري. بعد ذلك تكون مرحلة يقيم فيها روبنسون في البرازيل حيث يتحول الى مزارع. وهنا يخطر له أن تجارة الرقيق أربح. ولكنه فيما يسعى الى هذا، تغرق سفينة قرب مصب نهر أورينوك. ويكون روبنسون الناجي الوحيد فيسبح حتى يصل الى تلك الجزيرة التي سيعيش عليها سنواته الطويلة. في البداية يتمكن صاحبنا من أن ينقل من حطام السفينة الأسلحة والمعدات التي سيحتاج اليها في اقامته. ثم يبني لنفسه كوخاً يقيم فيه، في الوقت الذي راح فيه يرتب حياة وحدته وكله أمل في أن تصل سفينة تنقذه من ذلك المصير. لكن السنوات تمر والسفينة لا تأتي. روبنسون لا يخلد، طبعاً، الى اليأس والهدوء، بل يمعن في تنظيم حياته موفراً لنفسه كل ما هو في حاجة اليه من ضرورات الحياة. ونراه يبقى على تلك الحياة على رغم عداء الطبيعة له، إذ تجابهه بزلازل وطوفانات. فإذا أضفنا الى هذا كله وحدته المطلقة، يمكننا تصور ما ركز عليه دانيال ديفو، وأثار اعجاب القراء، من قدرة الانسان على التحكم بمصيره واستنباط وسائل بقائه. غير ان وحدة روبنسون لن تطول اذ ها هم آكلو لحوم البشر يغزون الجزيرة ذات عام، بعدما اسروا فتى، عثر عليهم روبنسون وهم على وشك أن يأكلوه، كما أشرنا. ينقذه روبنسون منهم، ويبدأ بتحويله من "وحش طيب" الى انسان طيب، فيعلمه أولاً كيف يكف عن أكل لحوم البشر، ثم كيف يرتدي ثياباً وكيف يعبد الله ويؤمن ويتحول الى انسان متحضر، بفضل اللغة. غير ان سيرة روبنسون مع جمعة لا تطول، إذ سرعان ما يعود آكلو لحوم البشر ومعهم أسيران جديدان، أحدهما والد جمعة. وبعد ذلك تأتي سفينة اوروبية تنقذ روبنسون ورفاقه، ويعود هو الى "العالم "المتحضر" بعد غياب 28 عاماً، ليجد انه بات من اصحاب الثراء، حيث ان اصدقاءه استغلوا لحسابه، مزرعته في البرازيل. وينتهي به الأمر الى أن يتزوج في انكلترا، وينجب ويعيش سعيداً. بعد النجاح المدوي الذي حققته رواية روبنسون كروزو، كتب ديفو تتمة لها، تروي مغامرات هذا الأخير عبر تجواله في الكثير من البلدان. كما كتب روايات اخرى عدة، فكان بذلك الكاتب الوحيد الذي لا تسطع مواهبه الأدبية وتصيبه الشهرة إلا بعدما يجاوز الستين من عمره. ودانيال ديفو من مواليد العام 1660، ولد في لندن ابناً لجزار. منذ صباه حلم بأن يكون سياسياً ووزيراً، لكنه حين تخرج في كلية مورتون وتزوج، عمل في التجارة من دون أن يحقق نجاحاً، وخاض السياسة عن طريق اصداره الكتب الغاضبة، ما أوقعه في الكثير من المشكلات، خصوصاً حين شارك ذات مرة في ثورة. تجول ديفو خلال شبابه في بعض البلدان الأوروبية، ثم أودع السجن. وحين تجاوز سن الشباب أدرك أن عليه الآن الاهتمام بعائلته فراح يكتب "روايات المغامرات" تلك. ولقد بلغ عدد ما كتبه خلال السنوات ال12 الأخيرة من حياته 10 روايات حققت له الشهرة والثروة. وتركت للانسانية أعمالاً خالدة.