يعتبر ديك تشيني "دماغ" الادارة الأميركية. ومن هذا الموقع المميز اطلق تبريره وتفهمه لسياسة الاغتيالات التي تتبعها حكومة اسرائيل كوسيلة وحيدة لمعالجة تصاعد المقاومة والانتفاضة ضد الاحتلال. تكلم تشيني عن جرائم القتل الاسرائيلية كما لو أنه حيال خطة خمسية للتنمية الزراعية، غير آبه بالانتقادات الدولية أو بالاستياء العربي. فإذا كان "الدماغ" مأخوذاً بالوحشية الشارونية ومعجباً بها، فماذا عن الآخرين! ويعتبر تشيني "صديق" العرب، ومثل هؤلاء الأصدقاء ولا سيما الأميركيين منهم لا بد أن العرب يفضلون الأعداء عليهم. هؤلاء أصدقاء مزيفون، وأعداء متنكرون. لا أحد يتوقع من نائب الرئيس الأميركي أن يكون منحازاً الى العرب الذين بنى مصالح بزنسية معهم، خصوصاً في ظرف تحتاج ادارته الى مساندة اللوبي اليهودي في تسيير عجلة برنامج الرئيس جورج بوش وفي إعادة انتخاب شقيق الرئيس حاكماً في فلوريدا. ولكن كثيرين من العرب كانوا يتوقعون منه أن يكون عقلانياً ومتزناً. في أي حال، من لم يعرف من العرب بعد فهو الآن قد تبلغ: سياسة الاغتيالات ليست اسرائيلية فحسب وانما هي أميركية أيضاً. ليس مهماً أن يكون وزير الخارجية الأميركي كولن باول دان عمليات القتل، فهذا الوزير يعامل في الادارة كأنه "على يسارها" ويصار الى تهميشه باستمرار لئلا يبقى منه سوى وجهه القابل للتصدير من قبيل تجميل السياسات القبيحة لهذه الادارة. المسألة مسألة ألفاظ ولعب بالكلمات. هكذا تعاطت معها الحكومة البريطانية غير معنية بأن قتلاً عمداً يحصل بمعزل عن الألاعيب اللفظية التي تبيعها البروباغندا الاسرائيلية لعواصم الغرب. فمجرد اختزال الأمر الى توصيفات لا يعني سوى التهرب من المسؤولية السياسية والأخلاقية، وبالتالي المشاركة في الاغتيالات من خلال اعتناق وجهة النظر الاسرائيلية. والأغرب أن العديد من العواصم الغربية فضل الصمت أو الاشارة الى "الطرفين" في تحديد المسؤولية عما يجري، وكأن هذه هي المعادلة الوحيدة للتكيّف مع التشريع الأميركي لجرائم الحرب الاسرائيلية. ومن تعوزه الحجة للتعاطف مع مجرم الحرب شارون، فقد جدد الأخير دفاعه عن استباحة دم الفلسطينيين. انه قوة الاحتلال التي تمارس الاغتيالات "دفاعاً عن النفس"، هذا ما قاله، وبذلك يطالب المجتمع الدولي ب"حماية قوة الاحتلال" كردّ على مطالبة الفلسطينيين بحماية دولية. ولا يرى شارون أمامه سوى "قتلة وانتحاريين وارهابيين"، لكنه لا يستخدم ضدهم سوى "اجراءات دفاعية". ثم ان شارون يعجب كيف ان الرئيس الفلسطيني لم ينفذ أوامره: "ارسلت اليه لائحة باسماء ارهابيين يعدون لعمليات قتل وعنف، وطلبت منه اعتقالهم، غير أنه لم يتخذ أي اجراءات". وهذا نموذج يومي من الاهانات التي توجهها قوة الاحتلال للشعب الذي تريده أن يرضخ للاحتلال ويتقبله ولا يبدي أي مقاومة له. ماذا كان ديك تشيني سيقول لو أن مثل هذه الوقاحات تصدر عن الرئيس الفلسطيني أو أي مسؤول عربي؟ لا بد أنه سيقيم الأرض ويقعدها ويملأ الدنيا ضجيجاً وغضباً وعربدة احتجاجاً على هذا الارهاب العربي. تحتاج الادارة الأميركية الى الكثير لتعيد شيئاً من الصدقية الى مواقفها وشيئاً من الاحترام لاخلاقياتها، لكنها لن تفعل، لأن احتقار المبادئ والأعراف بات - خصوصاً منذ أصبحت الدولة العظمى الوحيدة - سياسة راسخة لديها. ولكن هذا لا يعني أن روح العصر تكمن في هذه الغطرسة الأميركية، ولا يعني بالأخص ان الغلط الأميركي لا بد أن يكون صواباً. لأنه في هذه الحال يصبح الاحتلال الاسرائيلي هو النمط الأخلاقي وتصبح المقاومة للاحتلال شذوذاً ومشاغبة. واضح ان مجرمين مثل شارون، ومن قبله نتانياهو، يتسببون بكثير من "البهدلة" لأميركا التي يدفعها مثل هؤلاء الحلفاء الى مجاراة جنونهم.