رغم جهود الناطق الرئاسي آري فليتشر، لم تؤد التصريحات التي ادلى بها نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني في وقت سابق الشهر الجاري الاّ الى تعميق الشكوك، في معظم العالم العربي، بأن الرئىس بوش اعطى "ضوءاً اخضر" للسياسة التي تنتهجها اسرائيل باغتيال ارهابيين فلسطينيين مشتبه بهم. ولفت السيد فليتشر على نحو يمليه الواجب الى ان اولئك الذين اثارت تصريحات نائب الرئيس استياءهم الى اقصى حد ينتقون عبارات ويتجاهلون السياق. حسناً، لكن المشكلة تكمن في ما قاله نائب الرئيس: "اذا كانت هناك منظمة تآمرت او تتآمر لشن هجمات انتحارية، على سبيل المثال، واذا كان الاسرائيليون يملكون أدلة قوية على هوية المعنيين واين تجدهم، اعتقد ان هناك بعض المبررات لأن يسعوا الى حماية انفسهم باستباقهم". والاّ اذا كنا مستعدين للقبول بأن تكون هناك سياسة لاسرائيل وسياسة اخرى لأنفسنا وبقية العالم، فاننا سنواجه مشكلة. اكد لي مسؤولون في الحكومة الاسرائيلية بأن رئيس الوزراء شارون خرج من لقائه الاول مع الرئيس بوش مقتنعاً بقوة بان "القتل المستهدف"، وفقاً للتعبير الاسرائيلي، حصل على موافقة ضمنية من البيت الابيض. وفي هذا السياق، تأتي التصريحات الاخيرة لنائب الرئيس منسجمة، للأسف، مع مسار يبدو ان الرئيس شرع بالفعل في انتهاجه. وحتى الآن، لا يقدم النقد العلني الملتبس الذي يوجهه البيت الابيض الى هذه الاعمال سوى تأكيد للاعتقاد بان "ضوءً اخضر" اُعطي لشارون. واذا كان شارون اساء فهم نوايا الرئيس فانه يتوجب على الادارة ان تبيّن موقفها بوضوح. يمكن لأي شخص ان يتفهم رغبة رئيس الوزراء الاسرائيلي وواجبه في ان يفعل كل ما يستطيع لمنع اعمال الارهاب من ايذاء الاسرائيليين والقوميات الاخرى. وكسفير اميركي سابق في اسرائيل، يمكن ان اتفهم الخوف الفظيع الذي ينتاب اصدقائي هناك. والارجح، على نحو مأسوي تماماً، انهم وجيرانهم الفلسطينيين سيتحملون مزيداً من الأسى والمعاناة في الطريق الى تحقيق سلام آمن ودائم. فلا يمكن تجميل ما كان ولا يزال عملية بالغة الصعوبة. اما ان تغض الولاياتالمتحدة النظر كما يبدو عن اعمال تجرّد الفلسطينيين من حقوق الانسان الاساسية فانه موقف بغيض اخلاقياً ويؤدي في الوقت ذاته، على مستوى اكثر براغماتية، الى نتائج معاكسة اذا كنا مصممين حقاً على وضع حد للعنف وتطبيق توصيات تقرير ميتشل. وهذه التوصيات هي، في الوقت الحاضر، الطريق الوحيد الذي اتفق عليه الجانبان كوسيلة للتحرك الى أمام. لكن الطريق الى امام يبدو مهدداً اكثر عندما ينهمك كلا الطرفين في اعمال عنف منفلتة وتؤكد الولاياتالمتحدة اسوأ مخاوف لدى كل عربي: باننا اكثر ميلاً لأن نغفر لاسرائيل ذنوبها بالمقارنة مع آثام مماثلة لحكومات عربية. فاعطاء الانطباع باننا مستعدون لأن نضع جانباً مبادئنا في شأن الموقف المطلوب وحقوق الانسان بالاستناد الى أدلة جمعت خلف ابواب مغلقة، لا ينسجم اطلاقاً مع دورنا كوسيط ناهيك عن إرثنا السياسي. لقد كنت شخصياً في موقع المتلقي لمعلومات استخبارية تستند على مخبرين يعملون بأجر وعمليات استجواب قسرية ورسائل ملتقطة كثيراً ما تكون مشفّرة، وهي في احيان كثيرة تعطي مؤشراً لكنها لا تقدم اثباتاً. وفي احيان كثيرة جداً تكون هذه المعلومات قاصرة الى حد كبير بالمقارنة مع ما تقتضيه المحاكم من إثبات كي توجّه الاتهام بشكل قانوني او تدين شخصاً يشتبه في انه ارتكب جريمة. فهل نحن مستعدون الآن لاستثناء اسرائيل من المعايير التي نتوقعها - كما ينبغي - من مجتمعات اخرى؟ كنت اثناء عملي كسفير لدى الاممالمتحدة والامارات العربية المتحدة ومصر، اتلقى تعليمات مرة بعد مرة بأن احتج الى حكومات بشأن محاكم امنية ومحاكمات سرية واعمال قتل خارج نطاق القانون. واتذكر بشكل خاص احدى المرات عندما كان عليّ ان احتج بأشد لهجة على الاستخدام المزعوم للقتل خارج نطاق القانون في بلد عربي كان يخوض معركة دامية ضد ارهاب اصولي. وجرى هذا بالرغم من ان مدنيين ابرياء كانوا يموتون هناك باعداد غير قليلة على ايدي ارهابيين. لذا يجب ان يُوجّه بالتأكيد السؤال لماذا ترى ادارة بوش اذاً ان الاغتيال قد يكون "مبرراً" في بعض الحالات في اسرائيل، بينما لم يكن "مبرراً" مهما يحدث بالنسبة الى بلد عربي. ان ترك موقف الادارة الاميركية موضع شك بأي شكل مهما كان يمثل اساءة لكل ديبلوماسي اميركي قام في السابق وسيقوم في المستقبل بايصال الرسالة المبدئية الى مضيفيه بان المحاكمة والادانة والقتل بواسطة الاجهزة الاستخبارية شيء مرفوض. لقد خدمت بلادي في الجيش والسلك الديبلوماسي على امتداد 34 سنة. وكنت دائماً اشعر بالفخر لان الولاياتالمتحدة تلتزم معياراً أرقى. ولهذا السبب، سررت بشكل خاص لأن الرئيس بوش تعهد عند وصوله الى السلطة بأن يطبّق المعايير والقيم والمبادئ الاميركية على سياستنا الخارجية. لقد اعلن ذلك وصدّقته. فهل جرى تناسي هذا التعهد؟ ام ان معاييرنا قد تغيّرت. * رئيس "معهد الشرق الأوسط".