ازحمت مدرجات "المسرح الجنوبي" في مدينة جرش التاريخية بجمهور غفير على مدى ليلتين غنى فيهما المطرب العراقي كاظم الساهر وهو يحرص دائماً على منح حفلاته الغنائية ايقاعاً رصيناً لا يقل في جودة موسيقاه وضبط الصوت الغنائي على المستوى الذي تأتي وفقه الأغنيات في الاسطوانة، ما يعطي حفلاته طابع العرض الموسيقي - الغنائي المتقن. وتكفي نظرة الى الفرقة الموسيقية الكبيرة المصاحبة للساهر يقودها عازف القانون حسن فالح وتضم خيرة عازفي العراق على الآلات العربية والغربية لمعرفة أي أهمية يوليها الساهر للجانب الموسيقي في حفلاته الغنائية. حيا الساهر الجمهور، حين اختار شعر أغنيته "القدس" منشداً صوراً عميقة المعنى عما تشهده المدينة العربية من مواجهات اثبات الهوية. وفيما فضل تقديم الأغنية كشعر ملقى، انتقل الى غناء "سلامي" التي تشير الى أشواق تنادي المغتربين وما أكثرهم من أبناء العراق اليوم. وفي غنائه "كل عام وأنت حبيبتي"، قدم الساهر طراوة في الأداء مثلما قدمت فرقته الموسيقية اتقاناً في العزف حتى أصبح الجمهور حاضراً في عرض موسيقي رصين أكثر مما هو حاضر في عرض غنائي كالذي تتداوله المهرجانات الغنائية العربية المعروفة. ومن جو كهذا انتقل الساهر الى غناء "سألتها" حيث الطراوة الايقاعية والكلام الشائق المعنى وقد كتبه الأمير عبدالرحمن بن مساعد. وما زاد الأغنية وقعاً، ترديد الجمهور المتناغم لكثير من مقاطعها، وغناء الساهر موالاً أظهر فيه قدراته الصوتية ومدى اجادته اصول الغناء العربي. واستدعى لحن الساهر لقصيدة "أبحث عنك" للشاعر مانع سعيد العتيبة، بناء ايقاعياً مركباً ابدع في عزفه على "الكيبورد" العازف المتمكن فاضل فالح، وهو يجعل هذه الآلة أكثر قرباً الى ذوق المستمع العربي على رغم بنائها الغربي. ولأن الساهر يعرف جيداً كيف يقود احساس جمهوره ويوجهه نحو مناطق تعبيرية فهو أعاد غناء "موضحكتك" ولكن وفق صوغ مختلف، فالأولى كانت أسرع ايقاعياً، والثانية أبطأ ما وفر لصوت الساهر فرصة لإظهار الجانب العاطفي في كلام الأغنية ولحنها. وعلى رغم تعبيرية عميقة في أغنية "بعد الحب" لحناً وكلاماً الساهر وكاظم العراقي إلا أن السؤال المجروح "وين الانسان بداخلنا/ وين/ كلنا بدم خلّ نبكي عليه" وجد استجابة أعمق لدى الجمهور الذي راح يتناغم مع آهات الساهر وهي تصاعدت لتصل درجة من التألق الأدائي في الصوت والألحان مع أغنية "أنا وليلى" شعر حسن المرواني، وفيها أنشد كورال من خمسة آلاف شخص مقاطع بدأت من "أضعت في عرب الصحراء قافلتي" وصولاً الى "نفيت واستوطن الغرباء في بلدي"، ولتتشكل لوحة من الأداء الغنائي والموسيقي الرفيع، عناصرها الساهر، والفرقة الموسيقية، والجمهور. المشروع الغنائي الساهر الذي يمضي قدماً في مشروعه الغنائي العربي الرصين، وجديته الواضحة قياساً بما هو سائد في المشهد الغنائي العربي جعلته جديراً بما ناله من تقدير واحترام في محافل موسيقية وثقافية عربية منحه "المجمع العربي للموسيقى" درعه الفنية تقديراً لما بذله صاحب اغنية "لا يا صديقي" في تعزيز ملامح الرصانة في الأغنية العربية المعاصرة وأجنبية منحته "يونيسكو" شارتها لما بذله من تعزيز الملامح الانسانية العميقة في أغنيته ولتذكيره بمعاناة أطفال العراق ورفعها من مشهد المأساة الى موقف انساني احتجاجاً ضد الموت ووسائله. نتذكر هنا اغنيته "تذكر" وأغنيته الرقيقة عن بغداد وآلامها "كثر الحديث"، هذا الساهر وفي اداء نشوان غنى "الليلة احساسي غريب" شعر طلال الرشيد قبل أن يُفاجأ بالجمهور وهو يردد معه "ممنوعة أنت" نزار قباني وهي أغنية ليست سهلة في لحنها وتركيبها الموسيقي. وانتقالاً من "هدوء رومانطيقي" عززه اللحنان السابقان، انفتح فضاء المدرجات على رقصات متناغمة كانت تحاكي رقص الساهر وأعضاء فرقته على ايقاع لحن "الجوبي" الذائع الصيت في العراق. ووفق هذه الثنائية: قصيدة ثم أغنية شعبية، غنى الساهر "الحب المستحيل" وأبدعت في عزفها الفرقة الموسيقية، مثما كان الجمهور مأخوذاً بصوت الساهر وهو يرفق أسماعه بالعاطفة الرقيقة التي يعززها شعر نزار قباني، قبل أن ينتقل الى لحن ايقاع راقص في أغنية "أغازلك". صور انسانية صاحب أغنية "أنا وليلى" جاء جرش بعد عملين غنائيين جديدين، الأول مثلته اسطوانة "أبحث عنك" والثاني عبر أغنية حفلت بصور انسانية رفيعة عن القدس، كتبها الشاعر مانع سعيد العتيبة، وبلغت مستوى من التعبير الموسيقي الرفيع، انسجم بين ما هو "وطني" مؤثر و"انساني" يخلد المشاعر التي تتسع لأكثر من علاقة حب بين امرأة ورجل، وتنفتح على قراءة للأرض وللمصير الانساني فيها. وفي حال القدس فإن المعنى يصبح مقدسياً، وتصبح وقائع الدفاع عن "زهرة المدائن" دلائل تحفز الابداع الغنائي والموسيقي على الابتكار. وهو ما فعله الساهر في أغنيته عن المدينة العربية المقدسة، وجعل من أنغامه مزيجاً من الرقة والأسى ونشيد المقاومة المتصاعد. ألوان الغناء الشعبي، وغناء القصيدة، والغناء الوطني - الانساني برع في ادائها كاظم الساهر فحقق مرة أخرى في "جرش" حضوراً يذكّر بعصامية قل نظيرها، فهو الذي حفر حضوره وميزته الفنية في صخر صعوبات لا تحصى.