بعد 24 ساعة على افتتاح غلبت عليه علامات الحزن حداداً على 14 عسكرياً أردنياً قضوا في حادث طائرة تدريب، انفجر "جرش" في مشهد غنائي حاشد، طرفاه: المطرب كاظم الساهر مع 30 موسيقياً وجمهور زاد على خمسة آلاف شخص اكتظت بهم مدرجات "المسرح الجنوبي" ليل الخميس الماضي. وكانت 14 أغنية أنشدها الساهر شاركه الانشاد كورس ضخم من الجمهور كافية لتأكيد قدرة هذا المطرب على طبع الأغنية العربية المعاصرة بملامح من التجديد لا تنفي اتصالها مع موروث الغناء العراقي والعربي الرصين. غنى الساهر من أولى أغنياته التي أثارت لغطاً حولها، حين ظهرت في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، وأزاحت قليلاً من رتابة كادت تهيمن على الأغنية العراقية، مثلما غنى وابتهج معه الجمهور من أغنيات اسطوانته الأخيرة "الحب المستحيل". وإذا كان الجمهور تلقف أغنية "الليلة" باعتبارها دعوة لمشاركة السرور في ليلة غناء حلو، وارساء صداقة بين المطرب وأصدقائه الجمهور، فإنه تحرك ايقاعاً بل رقصاً مع "إلك وحشة" ثم "أغازلك". وانشاد الجمهور لغناء الساهر لا يتوقف عند مدار الأغنيات الإيقاعية والبسيطة اللحن، وانما يمتد لتلك التي تتميز ببناء لحني تعبيري وصور شعرية ليست متداولة ولا رائجة، كما هو الحال في انشاد الجمهور حد النشوة لأغنية "تعبت من البحر" التي تضمنتها اسطوانة الساهر "حبيبتي والمطر" 1999، وتميزت ببناء لحني متداخل الأنغام، غير أنها لم تكن بعيدة عن أشكال غريبة من استجابات الجمهور، فمن الحركات الإيقاعية الى أذرع تتهادى بطريقة تنسجم مع هدوء اللحن في الأغنية، اضافة الى آلاف الحناجر تطلق آهات كالتي عادة ما يبرع الساهر في جعلها نهايات لمقاطع في أغنيته. ولم يكن حال الأوركسترا التي رافقت الساهر وقادها د. فتح الله أحمد بأقل من المستوى اللافت للألحان، فعازفوها ومنشدوها أيضاً، رافقوا الساهر منذ سنوات وتشبعوا بجوانب في موسيقى أغنياته لا تعرفها ولا تقدر على العناية بها إلا أوركسترا تتمتع بروحية محلية صرفة مثلما تنفتح على وعي بأشكال موسيقية ضاربة في التجديد. وغناء الساهر الحي واعتماداً على أوركسترا تحاول أن تكون صاحبة أداء متقن حتى في بعض الارتجالات وفقرات العزف المنفرد لآلات الساكسفون، الكمان، الإيقاعات العراقية والعربية، يكتسب في حالات كثيرة أشكالاً يصبح بموجبها عرضاً غنائياً قائماً بذاته فيه من الحلاوة ما لا تتوافر عليه الاسطوانات وان سجلت في مهارة تقنية عالية. غنى الساهر الذي أعلن في مؤتمر صحافي قبل حفله الأول الذي سيعقبه حفلان في جرش، أنه يستعد لمشروع غنائي ضخم، هو غناؤه لملحمة "جلجامش" بعد أن يكتبها "شعراً غنائياً": العراقيان عبدالرزاق عبدالواحد وكريم العراقي، "من تكون"، "الحب المستحيل"، "المستبدة" و"أغازلك" من اسطوانته الجديدة، ومن قديمه: "الليلة" و"عبرت الشط" التي أحالت الجمهور الى بدايات الساهر ثم "قولي أحبك" و"استعجلت الرحيل" من اسطوانة "مدرسة الحب". وكان الساهر وبعد أن انتهى من غناء "الحب المستحيل" التي تطلبت منه جهداً وعناء في أدائها، تلقى هدية موحية من التشكيلي وفنان الكاريكاتير المعروف جورج بهجوري الذي كان جالساً في مكان ليس بعيداً من المسرح، وحمل الساهر رسماً له بحسب رواية بهجوري الذي يشارك في جرش ضمن معرض لفناني الكاريكاتير العرب في "قبو زيوس".