حدثان في فنون "جرش" كادا يلخصان حال الموسيقى العربية اليوم، ففي "المسرح الجنوبي" فاجأ الجمهور الذي زاد على الخمسة آلاف، المطرب المصري ايهاب توفيق بحفاوة لم يكن يتوقعها فهو لم يختبر جمهوره الاردني إلا قليلاً، فيما في "المسرح الشمالي" كان جمهور من عشرات يستمتع بفرقة موسيقية تعزف أعمالاً رصينة ومنوعة، لتصبح الأنغام الرفيعة ضحية "أمية ذوقية" تطنب في الأرجاء العربية، لا يمكنها الا الانشداد لغناء فيه من التهريج والتعبير السطحي ما هو قادر على ازاحة الرصين والجميل الى صمت أقرب للخذلان. وإذا كان ايهاب توفيق بصوته الذي يعاني رتابة وجفافاً غنّى اعتماداً على ايقاعات راقصة "سحراني" وغيرها من اغنياته الرائجة، التي ابتعدت عن التماعة رقيقة حققها عام 1995 في أغنية "عدّى الليل" فإن "أوركسترا المعهد الوطني للموسيقى" التي باتت احدى علامات الموسيقى الرصينة في الأردن، قدمت الرصين والغني والمتنوع من النغم. لكن "ضعفاً" في إقبال الجمهور خذلها، والأمر عائد إضافة الى "أمية ذوقية"، الى سوء ادارة في "تسويق" الأعمال الفنية والموسيقية الرصينة، وهو ما على ادارة مهرجان جرش أن تتنبه اليه جيداً وتعدّ له، اعداداً جيداً كي لا تتحول أمسيات الموسيقى الرصينة عبئاً عليها. "أوركسترا المعهد الوطني للموسيقى" التي قادها المايسترو محمد عثمان صديق القائد السابق للفرقة السيمفونية الوطنية العراقية قدمت بحسب اساتذة وطلاب المعهد الذي يديره الموسيقي كفاح فاخوري الأمين العام للمجمع العربي للموسيقى، اعمالاً بدأت ب"موسيقى الجاز" وانتهت الى "الكلاسيك" مروراً بعمل لافت لعثمان صديق تأليفاً ينطوي على جرأة ووعي بروحيتين موسيقيتين: الموسيقى العربية الناي والغربية الأوركسترا وكما لخصه "كونشرتو الناي والأوركسترا" بحسب عزف قارب الاتقان للعازف حسن الفقير. وعلى رغم ان عشر سنوات كانت بين مشاركته الأخيرة في جرش ومشاركته الحالية الا أن المطرب الكويتي نبيل شعيل بدا مضطرباً وحضوره كان قائماً على جمهور "كويتي خليجي" بالدرجة الأساس، ولم يسع بتخطيط قائم على استحضار اغنياته القديمة والجديدة الى "ترطيب" غيابه الذي عمّقته آثار الغزو العراقي لبلاده والتي حضرت في صور للمطرب كانت تحمل عبارة "لا تنسوا اسرانا". نبيل شعيل الذي كان شرع منذ بداياته في غناء ألحان لا تتصل بموروث الغناء الكويتي وايقاعاته المميزة، تعكز في "جرش" على أغنيات ليست كويتية الكلام واللحن هذه المرة وأبرزها "ما أروعك" و"مسك الختام". وفكرة الخروج على الملامح المميزة للغناء وهويته كما دأب على هذا عدد من "نجوم" الغناء اليوم، وجدت نقيضها في حفل بدا خارج السياق قدمته "فرقة اربد للموسيقى العربية" بقيادة الموسيقي محمد غوانمة عميد الاكاديمية الاردنية للموسيقى، إذ انه احتفى عبر كورال الفرقة وعازفيها بصاحب التعبير البيئي الحميم في الألحان الاردنية، المطرب والملحن توفيق النمري الذي صاغ عبر نصف قرن أغنيات لا يمكن إلاّ أن تحيل مستمعها الى بيئة اردنية كما في: "ضمة ورد" و"أسمر خفيف الروح" و"يا طير الخضر". وفي موازنة تحسب له قدم العراقي الهام المدفعي عرضاً غنائياً امتزجت فيه ألوان موروثة من الغناء العراقي والعربي بألوان محدثة في الشكل الموسيقي وتنوع الآلات والعزف الحر عليها وعبر "ريبتوار" يستمد حيويته في الاتصال مع الجمهور من خلال ارتجال في العزف وحيوية في الأداء تجعل الموروث يمضي الى تحديث من دون التنازل عن روحيته. وشكلت المطربتان أصالة نصري وسميرة سعيد "الجانب الناعم" في غناء جرش هذا العام، على رغم الانفعال الذي وصل حد التوتر في أداء نصري متعارضاً مع "نعومة" ظهورها. أصالة صاغت غناءها في جرش بهدوء وعناية هذه المرة، فنوعت في الأداء مثلما كانت "أقل توتراً" متجاوزة صورة مرتبكة لها في جرش عام 1995. وعلى امتداد ليلتين، جاءت أصالة كأنها طير أشواق لا يتعب من التغريد، واختلطت انغام متقنة مثلما في أغنيات: "أغضب" و"ما تسألنيش" و"ألف ليلة وليلة" و"اسمع صدى صوتك" بأجوائها الخليجية مع أخرى خفيفة لم تصل حد الاسفاف الذي يغرق فيه غناؤنا العربي الخفيف السائد هذه الأيام، كما في اغنيات: "ما بحبش حد الا انت" و"قلبي بيرتاحلك" و"لا تصدق". وكان جديدها حاضراً أيضاً كما في "يمين الله" و"ساعدني" و"ثمن الخيانة" التي أدتها بانفعال لا تريد أصالة التخلص منه!! وخفة الصوت في غناء سميرة سعيد تعادلها روحية في الأداء لم تجعلها بعيدة عن التأثير في ساحة الغناء العربي منذ ظهورها الأول عام 1978 في القاهرة، وموازنة كهذه مالت منذ نحو ثلاث سنوات الى تغليب "خفة الصوت مضافة اليها خفة اللحن". وانطلاقاً من هذا المنحى على الموضة كان ظهورها في جرش، فغنت "روحي" و"يا حبيب" و"ع البال" من دون ان تنسى أن تذكر الجمهور بأنها غنت ذات مرة في المكان ذاته "المسرح الجنوبي" عام 1987 فأعادت تقديم بعض ما عرفت به من "الحان تعبيرية" كما في اغنيات: "قال جاني" و"مش حتنازل عنك". وازاء الحضور "الزاعق" لنجوم الغناء العربي، كان الحفل الغنائي "المختلف" الذي قدمته "فرقة الفحيص لإحياء التراث" الاردنية، وفيه استعادت ألواناً من الغناء العربي القديم والاردني الموروث، من دون أن تتخلى عن تأكيد الجانب الموسيقي عبر مرافقة أوركسترا بمستوى مميز في العزف وكورال من منشدات ومنشدين، نمطاً من مواجهة للرداءة، يتولاها فنانون عرب كأنهم في انفصالهم عن التيار السائد يدافعون عن روحية أقرب الى التبدد، ولكنهم كما هو حال قائد الفرقة الموسيقي وعازف العود صخر حتر يحفرون في صخر علّهم يرسخون ما يتعرض الى مخاطر زوال جدية من ألوان غناء حميمة.