ما هي الحدود التي تستطيع روسيا التحرك ضمنها في تعاملها مع الملف العراقي؟ وهل كان تهديدها باستخدام حق النقض الفيتو ايذاناً بمرحلة جديدة قررت موسكو ان "تناطح" فيها واشنطن و"تتمرد" عليها، بعد خضوع دام عشر سنين؟ وهل دوافع الكرملين نفعية صرف ام ان هناك حسابات اخرى استراتيجية؟ الاجابة تقتضي التوقف عند السياسة الجديدة التي يتبعها الرئيس فلاديمير بوتين. فهو يرغب في ان تكون روسيا قوة كبرى فاعلة ومؤثرة في السياسة الدولية، لكنه يدرك حدود امكاناتها، لذلك يتصرف ضمن الهوامش المتاحة. ويحاول الكرملين ان يضع خطوطاً حمراً لا يمكن التراجع عنها، وهو قرر ان يقاتل في سبيل التمسك بها. منها مثلاً الاحتفاظ بقوة الردع النووي او منع تمدد حلف الاطلسي الى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. وفي اطار الرؤية الاستراتيجية الجديدة تقرّ موسكو بأن لواشنطن نفوذاً واسعاً في بقاع العالم، لكنها في الوقت ذاته تريد ان تنتزع اعترافاً اميركياً بمصالح روسية في مناطق معينة، منها العراق. فموسكو تريد اولاً ان تستثمر التراكم التاريخي في علاقاتها مع بغداد منذ العام 1958، وثانياً ترى ان لروسيا افضلية على الدول الاخرى في التعامل مع العراق، بسبب موقفها الثابت المطالب بتخفيف العقوبات ورفعها. ولا يخفي الديبلوماسيون الروس ان دعوتهم الى عقد جلسة مفتوحة لمجلس الامن كانت تهدف الى "كشف الزيف" لدى دول لها حظوة في بغداد لكنها مالأت الموقف الاميركي البريطاني، وفي مقدمها فرنسا. ويتحدث الروس الآن عن "ضمانات" عراقية تكفل حصولهم على حصة الاسد من العقود، خصوصاً في المجال النفطي، اضافة الى وعد من بغداد باستثمار مبالغ كبيرة في الاقتصاد الروسي، قد تصل الى خمسة بلايين دولار سنوياً. لكن الدوافع الاقتصادية ليست المحرك الوحيد للموقف الروسي، فلدى موسكو حسابات جيوسياسية، وهي تعتبر العراق امتداداً ل"عمود استراتيجي" يمتد من روسيا الى الخليج، مروراً بإيران، من هنا حرصها على التقريب بين مواقف طهرانوبغداد، والدفع باتجاه قيام تحالف ثلاثي يضم دمشق، الى هاتين العاصمتين. والحصول على نقاط ارتكاز هنا يتيح لروسيا ان تمارس دوراً في هذه المنطقة المتاخمة لخاصرتها الجنوبية، والتي ستصبح ميدان التنافس الرئيسي بين الدول الكبرى، بسبب ثرواتها النفطية. وهذا لا يعني ان بوتين يمنّي النفس بأوهام "ازاحة" الاميركيين مثلاً من الخليج، لكن المحللين الروس يرون ان على الكرملين الاحتفاظ بأوراق في المناطق الحساسة للاستفادة منها، موضعياً، او لاستثمارها في اللعبة الدولية. في هذا الاطار الشامل قد يكون الملف العراقي مادة للمساومة بل ان عدداً من المحللين يرى ان واشنطن ربما تعمّدت ان "تتراخى" فتسمح لموسكو بتسجيل نقطة على محور "العقوبات الذكية"، لإدراك الولاياتالمتحدة ان "الطبخة" التي أعدتها بمساعدة البريطانيين "غير مهضومة" لدى دول المنطقة وبلدان اخرى عدة... وبالتالي فإن الملف العراقي سيوضع الآن على نار هادئة لمدة خمسة شهور، ستكون امتحاناً لقدرة روسيا على الدفاع عن الخطوط الحمر التي رسمتها.