يقول مثل سلافي ان "الماء يحفر الحجر" والديبلوماسية الروسية تعتمده في تعاملها مع الملف العراقي، فهي عملت بدأب على احداث ثقب في جدار الحصار ثم سعت الى توسيعه في ضوء نظرية مفادها ان النخر الداخلي سيهدم نظام العقوبات. ولكن بغداد تبدي تبرماً مما تعتبره تباطؤاً في التحرك الروسي، وكان حضّ الكرملين على القيام بخطوات عملية للخروج من دائرة العقوبات واحداً من اهداف الزيارة التي قام بها الى موسكو نائب الرئيس العراقي طه ياسين رمضان. وموقف موسكو محكوم بعوامل متضاربة ومتقاطعة: فهي حريصة على الاحتفاظ بعلاقات متميزة مع بغداد ولم تلغ حتى الآن معاهدة الصداقة والتعاون التي وقعها العراق والاتحاد السوفياتي قبل 20 عاماً. ويرى عدد من الاستراتيجيين الروس ان العراق قد يكون ركيزة مهمة ل"معادلة" النفوذ الاميركي في المنطقة واعادة توازن نسبي اليها. كما ان روسيا تأمل في استعادة ديون تبلغ زهاء سبعة بلايين دولار والحصول على عقود جديدة لاعادة بناء الاقتصاد العراقي، والمشاركة في استثمار حقول النفط العراقية. ولكن الكرملين لا يمكن ان يتجاهل التوازنات الاستراتيجية وهو مضطر الى اقامة اعتبار لرأي الولاياتالمتحدة التي كانت اصبحت "الاخ الاكبر" لروسيا على عهد الرئيس السابق بوريس يلتسن لكنها عادت الى مواقع الخصم او "اللاصديق". وتضع روسيا في حساباتها ايضاً الحرص على اقامة علاقات متوازنة مع سائر الدول الخليجية وهي لا تريد التفريط في صلات اقامتها بصعوبة مع دول مثل السعودية، اضافة الى علاقات قديمة نسبياً مع الكويت. في ضوء ذلك لجأت الديبلوماسية الروسية الى "حفر الحجر" ببطء وان كانت رفضت بشدة استخدام القوة ودانت الغارات الاميركية البريطانية واستنكرت محاولات تغيير النظام في بغداد بالقوة. وعملت موسكو على اقناع العراق بقبول صيغة معدّلة للقرار 1284 الذي كانت روسيا امتنعت عن التصويت عليه، لكن الديبلوماسيين الروس يرون انه يشكل حالياً "الارضية الشرعية الوحيدة" التي يمكن التحرك فوقها، ويشيرون الى ان رفض بغداد هذا القرار يعطي واشنطن غطاء لخروجها عن الشرعية الدولية. بناء على هذا الفهم صيغت المبادرة الروسية الاخيرة الداعية الى "مبادلة" الموافقة العراقية على القرار المذكور بوعد دولي بتعليق العقوبات ورفعها في مدة زمنية محددة. لكن العراقيين أبدوا شكوكهم في قدرة موسكو على اقناع الاميركيين بهذه المبادرة وحذّروا من الوقوع في "شباك التفتيش" مجدداً. ولتبديد هذه المخاوف تدرس موسكو جملة اقتراحات منها وضع مذكرة تفاهم ملحقة بالقرار وتتضمن "احداثيات" الاتفاق المقترح. والارجح ان رمضان سينقل آخر الافكار الروسية الى بغداد وفي حال قبولها فان موسكو ستكثف نشاطها على المحاور الاوروبية والعربية والاميركية لدفع المبادرة والحصول على تأييد واسع لها. ولفت الانظار تزامن زيارة رمضان مع وجود رئيس مجلس الأمة الكويتي جاسم الخرافي في موسكو، وعلى رغم ان المحللين استبعدوا لقاءات سرية او "نقل رسائل" الا انهم يقرّون باحتمال استغلال روسيا وجود "الشقيقين اللدودين" على ارضها لتسمع آراء الطرفين وتوضح بعض النقاط الغامضة. وأياً كانت ردود الفعل على المبادرات الديبلوماسية فإن موسكو ماضية في توسيع علاقاتها الاقتصادية مع العراق. وكان وزير الخارجية ايغور ايفانوف رفع تقريراً الى الامين العام للامم المتحدة قدّر فيه خسائر روسيا بسبب انضمامها الى العقوبات ب30 بليون دولار، ويؤكد خبراء روس ان هذا هو "الرقم الموثق" في حين ان الرقمي الحقيقي قد يصل الى 50 بليوناً. وينتظر ان تعقد قريباً صفقات كبرى لاستخراج النفط تساهم فيها شركات من روسيا ودول اوروبية عدة، ما سيؤدي الى قيام "لوبي" مؤيد لرفع العقوبات. وثمة عقود تناقش لاطلاق قمر اصطناعي لحساب العراق واعادة بناء شبكة الاتصالات الهاتفية والقيام بجملة اعمال وصفها احد الخبراء بأنها "تقترب من الخطوط الحمراء ولا تتجاوزها شكلياً". وسيواصل الروس جهودهم لاقناع ايران او تركيا بتوفير ممر جوي لاستئناف الرحلات المنتظمة بين موسكووبغداد. ولن تصبح مشكلة الديون عائقاً يعترض تطوير العلاقات، اذ ان موسكو تنطلق من مبدأ "الفصل" بين هذه المشكلة وتطوير العلاقات الاقتصادية التي تتوقع ان تعود عليها بمردود يفوق حجم الديون اضعافاً مضاعفة. واذا تحققت كل النيّات فإن موسكووبغداد ستقتربان من "التعاون الاستراتيجي" الذي دعا اليه الرئيس العراقي صدام حسين في رسالة نقلها نائبه الى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.