الأوساط السياسية الإسرائيلية ما زالت مهمومة بالبحث عن اجابة نهائية مُرضية، للسؤال المتعلق بكيفية التصرف مع السلطة الفلسطينية. وهذا يعني أن نخبة الحكم لم تطمئن تماماً لتقرير أجنحتها ومعاملها الأمنية، الذي نصح بإضعاف السلطة واستنزافها حتى الرمق الأخير، وقضى بأن غياب ياسر عرفات أفضل للمصلحة الإسرائيلية من حضوره أو وجوده في مركز صناعة القرار الفلسطيني. ويبدو أن الجدل المحتدم إسرائيلياً بهذا الخصوص، تأثر بعض الشيء بنصائح الاصدقاء الأوروبيين والحلفاء الاميركيين، وكذلك بالتحذيرات العربية، الداعية إلى عدم التعرض بسوء للرئيس الفلسطيني، كونه أنسب البدائل القيادية الفلسطينية المحتملة لديمومة مسيرة التسوية فلسطينياً أو حتى شرق أوسطياً. في غمرة عملية المفاضلة هذه، لا يأخذ الإسرائيليون في اعتبارهم على الاطلاق أي عناصر أو معطيات خلاف مصلحتهم الذاتية، ومنظور كهذا يقوم على تضخيم الدور الإسرائيلي في تحديد اللاعب الفلسطيني المقابل، قيادة ومؤسسات، لا يمثل ضمانة كافية بأي حال من مغبة ارتكاب حماقة كبيرة بحق السلطة وزعيمها، حماقة لا تقل شأواً عن تلك التي تسلكها إسرائيل ضد الكوادر الفلسطينية النشطة ميدانياً. يتأكد هذا من خلو النقاشات الإسرائيلية حول مصير المنظومة القيادية الفلسطينية عموماً، ومن أي وازع اخلاقي أو خطوط حمر رادعة قانونياً، ويتأكد ايضاً من افتقاد هذه النقاشات لما يفترض أنه مصلحة فلسطينية، ينبغي وضعها في الحسبان ولو بدرجة محدودة. وبهذا يظهر الشأن القيادي الفلسطيني وكأنه أمر إسرائيلي داخلي بحت، يقوم ويقعد، يصعد وينهار، وفقاً للإرادة الإسرائيلية المنفردة. تنطوي هذه المقاربة الإسرائيلية على أخطاء وتجاوزات بكل المعاني الممكنة، اخلاقياً وسياسياً وقانونياً، وبالطبع تاريخياً. ولعل صيغة أوسلو وتوابعها مسؤولة عن تخليق الشعور بأن الحقيقة الكيانية الفلسطينية لن تكون، ولا ينبغي لها أن تكون، سوى من صنع إسرائيل وتدبيرها. وهذا "وهم" بوسع إسرائيل أن تعيش فيه كما تشاء، غير أن المثير في هذا السياق، هو ضعف رد الفعل الفلسطيني والعربي والدولي على تجلياته. فإسرائيل تهدد بإزاحة السلطة واستبعاد قيادتها بشكل أو بآخر، وهي تضع تهديدها كسيف مُسلط على الرقبة الفلسطينية، ومع تقديرنا للغضب الخارجي من هذا السلوك الارهابي، الا أننا نلمس تقصيراً في المحاجاة المقاومة له. ففي معظمهم يحاول هؤلاء الغاضبون ردع إسرائيل عن المضي في نياتها لاستئصال السلطة، معتمدين على نصيحتها بأنه لا مصلحة لها في ذلك. ولكن ماذا لو رجح الإسرائيليون هذه المصلحة ثم مضوا في سياستهم على هذا التقدير؟ ما يفترض أن يقر في أذهان العرب أن المقاربة الإسرائيلية لقضية الحكم والسياسة في فلسطين، قد تُنذر بمثلها بالنسبة إلى الدول العربية ذاتها، بعضها أو كلها، بحسب الاضواء والقدرات الإسرائيلية. وتحتاج السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير الفلسطينية، إلى شبكة أمان عربية - ودولية - تنأى بديمومتها وخياراتها عن هيمنة هذه الأهواء، ذلك باعتبار انها جزء من النظام العربي، وأنها خيار للشعب الفلسطيني ذاته، بغض النظر عن حصافة هذا الخيار. بصيغة أخرى، ثمة حاجة عربية توازي الحاجة الفلسطينية وتظاهرها، لاجتثاث المبدأ الإسرائيلي العامل بالقول أو بالفعل على تعليق كينونة السياسة والحكم في فلسطين برغبة إسرائيل ومصالحها. وبين يدي الجهود العربية والفلسطينية الساعية الى ذلك، ينبغي التذكير بأن هذه الكينونة - سواء تمثلت في السلطة أو منظمة التحرير أو غيرهما. ترتبط وثيقاً بحق تقرير المصير المعترف به للشعب الفلسطيني. وهو الحق الذي يجُبُّ أي سياسة أخرى أو مبادئ مخالفة تبتدعها إسرائيل من عندياتها. على أنه كشرط لازم لمرور هذا المنظور الجذري، لا بد أن تتحرك السلطة الفلسطينية وهاجسها أنها ليست من منتجات إسرائيل أو اتفاق اوسلو بالذات. يمكن لهذه السلطة التذكير بالانتخابات العامة التي "شرعنت" وجودها في مناطق الحكم الذاتي، وبصورة أوقع لها ولقيادتها أن يستعصما بالاعترافات العربية والدولية بهذه الشرعية. ولهما ولكل الغيورين على استمرارية الكينونة السياسية الفلسطينية واستقلاليتها، استحضار موقف الشرعية الدولية من هذه الكينونة. تضمن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 1514 للعام 1960، أن الجمعية العامة هي الجهة الوحيدة صاحبة الصلاحية للحكم على ما اذا كان شعب ما غير مستقل يستحق التمتع بحق تقرير المصير. وفي حال أنكرت القوى الاستعمارية ممارسة هذا الحق، فقد سوغت الأممالمتحدة والقانون الدولي عموماً لجوء الشعوب المحتلة للمقاومة بكل الوسائل المتاحة، بل وطالبت الدول الاخرى بتقديم كل أنواع الدعم المادي والمعنوي لهذه الشعوب. من المفهوم أن هذا الموقف الدولي العام ينطبق على حال الشعب الفلسطيني، ولا حاجة بنا للتأكيد على أهمية استلهامه، علاوة على استلهام الموقف الأعمى الخاص العاطف على هذه الحال، في معرض التصدي لبطاقات الارهاب الإسرائيلية ضد الأطر السياسية الفلسطينية داخل منطق السلطة وخارجها. لن يجدي في هذه المواجهة على كل حال، أن تتحرك السلطة وكأنها رهينة تنتظر شارة الوجود والعدم من إسرائيل. فالتحرر من هذا التصور والاستعداد للاحتمالات المترتبة عليه، من مقتضيات وشروط دحر المخطط الإسرائيلي في هذا الاطار. * كاتب فلسطيني.