تعرّض الرئيس الأميركي باراك أوباما، بعد الخطاب الذي أعلن فيه موقفه تجاه مستوى التمثيل الفلسطيني في هيئة الأممالمتحدة إلى نقد واسع في المنطقة العربية. وذهب البعض من المعلقين إلى القول إن المواقف التي عبّر فيها الرئيس الأميركي عن شيء من التعاطف مع الفلسطينيين عندما دعا إلى وقف الاستيطان الإسرائيلي، كانت عبارة عن مناورة بغرض التعتيم على حقائق المواقف الغربية المنحازة انحيازاً كاملاً إلى جانب إسرائيل. ولتأكيد وجهة النظر هذه، أعاد أصحابها إلى الأذهان مضمون الخطاب الذي ألقاه أوباما قبيل الانتخابات الرئاسية الماضية أمام منظمة إيباك الأميركية - الصهيونية المؤيدة لإسرائيل، حيث بدت مواقفه متطابقة مع سائر الزعامات الأميركية البارزة تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي. من الأرجح ألا يكون هذا التقويم لمواقف أوباما في محله، وأن ما قاله الرئيس الأميركي في خطابه الشهير في جامعة القاهرة بصدد العلاقة بين الولاياتالمتحدة يعكس آراءه الشخصية، ولكن، من حق العرب بعد التجارب الكثيرة الكف عن الاعتقاد أن قضاياهم المحقة ستلقى الرعاية والإنصاف لدى النخب الحاكمة في العواصمالغربية الرئيسة. ولعل من المناسب، بعد أن كرر الرئيس أوباما وتبنى في خطابه كل مقولة وزعم صهيوني من دون استثناء، ألا تحاسب إدارته على سلوك طريق الإجحاف بحق الجانب العربي. فالعرب لا شأن لهم ولا قيمة لمصالحهم ولا لحقوقهم لدى أصحاب القرار النافذين في العواصمالغربية. على العكس، المقاربة التي تحظى بشعبية في هذه العواصم عند بحث علاقات الغرب بالعرب هي اللعبة الصفرية، أي تلك التي تعتبر أيّ إضعاف للعرب تقوية للغرب كما هو الأمر، على سبيل المثال لا الحصر، في قضايا الطاقة والنفط. لعل من الأجدى، في هذه الحال، عند التطرق إلى أية قضية تمس تلك العلاقات، أن يعود المرء إلى أثر هذه القضية على المسألة اليهودية. فالغرب الذي أنزل المصائب الكبرى بهذه الطائفة من البشر، والذي بات يشكو من عقدة الذنب في علاقته بها، يعتبر نفسه حامياً لها ومدافعاً عن أمنها وسلامتها وحريتها. ولقد تردّدت أصداء وتجليات هذه النظرة في المواقف الأخيرة تجاه مسألة الدولة الفلسطينية. وإذ استنفرت الديبلوماسية الإسرائيلية أنصارها الدوليين بحجة أن المطالبة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية تشكل خطراً على إسرائيل وأن الفلسطينيين يرمون من خلال هذه المطالبة إلى تجريدها من المشروعية وتهديد أمنها وبالتالي أمن اليهود وسلامتهم، سارع الرئيس الأميركي والزعماء الأميركيون إلى تبني هذه النظرة بحذافيرها، فهل كانت واشنطن محقة في تقديراتها هذه؟ هل إنها تسير، بالفعل على طريق إنقاذ اليهود من محنة جديدة؟ ما فعلته واشنطن يخالف هذه النوايا المعلنة. لقد وفرت الدعم كل الدعم السياسي لحكومة نتانياهو، أي لحكومة تزيد المسألة اليهودية تعقيداً وتفاقم الأخطار البعيدة المدى المحدقة باليهود. أي أن ما فعلته واشنطن هو مساندة أشد الحكومات الإسرائيلية تطرفاً، على المصالح البعيدة المدى لليهود. هذه المواقف الأميركية تستند عادة إلى فرضيات بات من الملح مراجعتها إذا أرادت واشنطن حلاً إنسانياً وواقعياً، وليس حلاً عنصرياً ومستحيلاً للمسألة اليهودية. في مقدم هذه الفرضيات ما يأتي: إن الزمن كفيل بإقناع الأسرة الدولية بالموافقة على المشروع الصهيوني برمته وكما يطرحه الزعماء الإسرائيليون، أياً كان هؤلاء الزعماء ومهما كان مضمون المشروع الذي يدعون إليه. وإن تثبيت الاحتلال للأرضي العربية يضفي عليه مشروعية ويحوله إلى أمر واقع لا يمكن تبديله. أثبتت مداولات الأممالمتحدة الأخيرة أن هذه الفرضية خاطئة وأن التمسك بها سيقود اليهود إلى المهالك. فعلى رغم التراجعات التي أصابت القضية الفلسطينية والانقسام الحاصل في صفوف الفلسطينيين، وعلى رغم التأييد المنقطع النظير الذي يلقاه نتانياهو في الكونغرس الأميركي، تأكد أن الأكثرية الساحقة من المجتمع الدولي لا تزال تؤيد القضية الفلسطينية وترفض الاحتلال. وكان من الملفت للنظر هنا الموقف الذي اتخذته دول بريكس (الصين، الهند، روسيا والبرازيل). إن عدد سكان هذه الدول يناهز ثلث سكان العالم تقريباً. ولئن كان المعيار العددي مهماً في العقود الماضية فإنه ينبغي ملاحظة أن موازين القوى الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية في العالم باتت تتجه لمصلحة هذه الدول ومن ثم لمصلحة الفلسطينيين والعرب. هذا الواقع سينعكس سلباً على مصير اليهود إذا نجح المتعصبون الصهاينة في اختطاف المسألة اليهودية وتسخيرها لمصلحة مشاريعهم. ما تفعله الإدارة الأميركية هو تشجيع هذا النهج الأخير بدلاً من إيقافه حرصاً على أمن اليهود وسلامتهم. إن الزعماء الإسرائيليين مستعدون للتفاهم مع الفلسطينيين والعرب، وإنهم على استعداد لتقديم التنازلات. ألم ينسحب الإسرائيليون، في ظل حكومة مناحيم بيغن بالذات، من مصر؟ ألم يوقع إسحاق رابين اتفاق السلام مع ياسر عرفات على رغم أنه كان يصنف من صقور السياسة الإسرائيلية؟ لكن هذه الفرضية تستند هي الأخرى إلى أساسٍ واهٍ، فبعد أيام قليلة من عقد مؤتمر مدريد للسلام قبل عشرين عاماً تقريباً، أكد إسحاق شامير، رئيس الحكومة الإسرائيلية، ورداً على الانتقادات التي وجهها إليه الزعماء الصهاينة المعارضون للمؤتمر، «أن إسرائيل ستفاوض عشرين عاماً، وفي نهاية المطاف لن تتخلى عن الضفة والقطاع وهضبة الجولان». ولقد ثبت أن شامير كان على حق ليس لأن الفلسطينيين، أو ليس لأن السلطة الفلسطينية التي أعلنت التخلي عن العمل العسكري غير مستعدة لتقديم التنازلات، بل لأن الإسرائيليين عارضوها. أما إسحاق رابين فإن مصيره، يعتبر على العكس، شهادة على الموقف الصهيوني من السلام. إن الادارة الأميركية ستتمكن دوماً من الاضطلاع بدور الراعي النزيه لمساعي التسوية العربية - الإسرائيلية، وإنها بالتالي ستتحكم بسائر مفاصلها بحيث تضمن أنها ستخدم المصالح الإسرائيلية ومن ثم أمن اليهود وسلامتهم. وتعتبر الإدارة الأميركية أنها تستطيع استخدام المساعدات التي تقدمها إلى الدول التي ساهمت في توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل. لكن هذه النظرة لا تستند هي الأخرى إلى أساس متين، فالرأي العام العربي على بينة من أن هذه المعونات أعطيت إلى الدول العربية بغرض ضمان أمن إسرائيل وليس من أجل السلام الإقليمي. ولا يخفى على المواطنين والمواطنات في البلاد العربية، في عصر وسائل الاتصال الاجتماعي، كيف تربط الإدارة الأميركية بينها - أي بين المساعدات - من جهة، وبين موقف الأطراف المشتركة في معاهدة السلام، من جهة أخرى. فخلال الأشهر الماضية، دأبت الإدارة الأميركية على تذكير الحكومة المصرية الجديدة بأن أي مساس بالمعاهدة مع إسرائيل سيؤثر سلباً في المساعدات المقدمة إلى مصر. في المقابل، عندما شكل بنيامين نتانياهو الرافض اتفاق أوسلو، حكومته الأولى عام 1996 وعندما بدأ يمارس ضغطاً شديداً على القيادة الفلسطينية لتعديل الاتفاق لم تهدده الإدارة الأميركية بوقف المساعدات. هذا الأمر تكرر عام 1998 عندما شكل إيهود باراك حكومته وأجبر الفلسطينيين على تقديم تنازلات جديدة إلى إسرائيل في معاهدة واي ريفر. الرأي العام العربي بات يعلم أن الوجهة الحقيقية لهذه المساعدات هي إسرائيل وليس جهات عربية، لذلك فإنها لا تشكل دليلاً على عدم انحياز الراعي الأميركي إلى جانب إسرائيل بل على العكس، تشكل دليلاً ملموساً على هذا الانحياز، ما يضع الدور الأميركي في المنطقة على المحك ويعطل قدرته على توفير الأمن والسلامة لليهود إذا كان هذا هدفاً من أهداف السياسة الأميركية. أخيراً لا آخراً، ينبني الموقف الأميركي على أن العرب والدول التي تؤيدهم وتؤيد الفلسطينيين يقبضون الادعاء الإسرائيلي بأن المفاوضات غير مشروطة. إن هذه الفرضية قد تكون صحيحة لو أن أشخاصاً مثل فردريك دوكليرك، آخر رئيس أبيض في جنوب أفريقيا، يجلسون في مقاعد الحكم في إسرائيل ولو أن الإسرائيليين يمتنعون عن تنفيذ مشاريع الاستيطان. أما عندما يحكم إسرائيل أشخاص مثل نتانياهو وليبرمان وعندما تقضم إسرائيل الأراضي العربية من طريق الاستيطان، فإن تأكيد أن الطريق إلى السلام يمر عبر المفاوضات هو إهانة جديدة إلى الكفاءة العقلية للعرب وأصدقائهم الدوليين، ودليل جديد على العقلية العنصرية التي تدير بها إسرائيل والصهيونية معاركهما. هذه العقلية لن تخدم اليهود ولن تضمن لهم ما يستحقونه، مثل سائر الجماعات البشرية والدينية الأخرى من عدل وأمان وحرية، بل ستهددهم بالكوارث والمصائب الجديدة. * كاتب لبناني