قبل أن يصل الى رئاسة الوزارة، قمة صناعة القرار في اسرائيل، لم يكن آرييل شارون من أنصار المنهجية التي اختطها حزب العمل بزعامة اسحق رابين وشيمون بيريز للتسوية على المسار الفلسطيني. وظل شارون عند رأيه المناهض لأداء العماليين وما يسمى بالقوى اليسارية بخصوص التسوية، على رغم التجليات والافرازات العملية التي نجمت عن تلك المنهجية، ومنها نشوء السلطة الفلسطينية للحكم الذاتي في الضفة وغزة منذ 1994، كما أن الرجل ومعه رهط كبير من الليكوديين ومحازبيهم، لم ينكروا رفضهم لتتابع هذه التجليات وتربصهم بها ولا سيما وجود تلك السلطة وزعيمها ياسر عرفات في رحاب ما يدعى عندهم ب "أرض اسرائيل". كل المعنيين بعملية اوسلو وتوابعها، كانوا على علم بموقف شارون ورهطه، وكانوا يدركون أي مصير كالح ينتظرها فيما لو قدر لهذا الفريق المعارض الصعود الى الحكم في اسرائيل. ومن أجل الحيلولة دون هذا المصير، بذل المؤيدون منهم لمعسكر أوسلو جهوداً كبيرة لإحباط المشهد الكريه: مشهد شارون ومعسكره وقد تبوأوا مقعد الحكم ومسؤولية سيرورة عملية التسوية عموماً. وفي حقيقة الأمر، كان شارون المعارض من خارج دائرة صناعة القرار أهون في تأثيره على هذه العملية. كانت معارضة مما يمكن احتماله واتقاء شروره، ويبدو أن معسكر أوسلو، على الجانب الفلسطيني والاسرائيلي والعربي والدولي، أزاح من ذهنه الاحتمال الأسوأ، وقوامه انهيار كتلة اوسلو داخل المنظومة السياسية الإسرائيلية، بتفسخ حزب العمل وتشظيه وزوال دولته مع مناصريه، لصالح كتلة اليمين الصهيوني بزعامة شارون نفسه. الأمر الذي تحقق منذ شباط فبراير الماضي. هذا الانقلاب الابيض في اسرائيل فاجأ الكثيرين، بل ولا يمكن أحد الزعم بسهولة بأنه توقع بلوغ شارون بالذات الى زعامة الليكود، بديلاً من صقوره القدامى والمحدثين وعلى رأسهم بنيامين نتانياهو، علماً بأن هذا الاخير وإن اظهر صقورية ازاء مسيرة اوسلو، إلا أنه اقل وقعاً على ديمومتها ومنتجاتها من شارون. فنتانياهو تعامل مع هذه المسيرة وفاوض السلطة الفلسطينية وزعيمها عرفات وأبرم معمها بعض الاتفاقات بخصوص الخليل مثلاً. والحق انه لا يمكن الزعم بأن شارون كان من المرشحين الأقوياء لرئاسة الوزارة الاسرائيلية، قبل ان يصل الى هذا المنصب محمولاً على أصوات غالبية شعبية مهووسة بالخطاب الصهيوني المتطرف. استبعاد هذا السيناريو، ترتب عليه استبعاد التفكير في تداعياته. لكن الذي حدث فعلا هو ان شارون اضحى في موقع من بوسعه تطبيق رؤيته السلبية عملياً. وفي الوقت الراهن بات على كل من يعنيهم مسار التسوية الفلسطيني، إنعام النظر في الحملة الاسرائيلية الجارية ضد السلطة وعرفات وإحالتها الى هذه الرؤية. بمعنى أن شارون الحاكم، الذي يحظى بتأييد زهاء ثلثي الرأي العام الاسرائيلي، ليس هو شارون المعارض الذي شاغب مطولاً على عملية التسوية وحرّض باستمرار ضد عرفات وسلطته. فهو لم يعد فقط راغباً في قلب معادلة اوسلو وصولاً الى ازاحة تجلياتها، بمن فيها عرفات والسلطة، وانما هو قادر ايضا على ذلك. تحولت رؤية شارون ورهطه الى برنامج سياسي قيد التنفيذ، وفي هذا السياق، كان علينا ان نقرأ بكل جدية مغزى تصريحاته وتصرفاته التي يدفع فيهما بأن السلطة الفلسطينية وزعيمها عدوّان يجب التخلص منهما، وأن لديه البديل الذي يمكنه المساعدة على الحلول مكانهما. وكان بعض المقربين من دوائر الحكم في تل ابيب استخلص نوايا شارون الجادة للمضي في تنفيذ خطة "جهنم" تجاه السلطة، وفي ذلك ذكر المعلق الأشهر في اسرائيل زئيف شيف انه لا يستبعد ان يشمل مشروع شارون "اعادة احتلال مناطق السلطة وإقصاء رئيسها أو وقف التعامل معه، لا سيما وأن الرد الاميركي في حال كهذه لن يكون في ما يبدو سلبياً". ولم نلبث الا قليلاً حتى ثبتت صدقية هذا الاستشراف. وسواء تمكن شارون ومعسكره من اكمال مشروعهما في هذه المرحلة ام حالت عوارض معينة دون ذلك، فقد اصبح زوال السلطة بإرادة اسرائيلية منفردة امراً وارد الحدوث، لا ينبغي ازاحته من صورة ما يجري في رحاب القضية الفلسطينية عموماً. وإذا أردنا الحقيقة، كان التفكير العقلاني في تسلسل المعطيات، يقتضي توقع هذا الاحتمال ولو من باب الفرض الضعيف. ذلك أن القول بفشل أوسلو، يفضي جدلاً الى القول بانهيار الآليات التي أسستها، ومنها السلطة الفلسطينية، وما كان لشارون أن يقصد تقويض اوسلو وصيغتها المهيضة من دون الالتفات الى استهداف السلطة، وهو يسعى الآن حثيثاً لمتابعة هذا التسلسل الطبيعي. المنطق والعقلانية يقولان بأن مقاصد شارون لا تقوم على قاعدة صلبة من الفعل السياسي الرشيد، اذ أين هي القوة الفلسطينية البديلة الأنسب لإسرائيل من عرفات وسلطته؟ ثم إن قضية اجتراح مثل هذا البديل انتهت الى الفشل الذريع في كل المحاولات الاسرائيلية السابقة الاردن ثم رؤساء البلديات ثم روابط القرى منذ 1967 حتى مطلع التسعينات، لكن من قال ايضا ان شارون بالذات يهتدي بالمنطق السياسي الرشيد او المحسوب بدقة؟ نقول ذلك وفي وجداننا ان الرجل لا يمكن أن يبلغ بعشوائيته السياسية حد الاعتقاد في الاستعاضة بحركة حماس عن السلطة أو بأحمد ياسين عن عرفات!. في كل حال فان من يسعى الى اجتثاث السلطة ليس بوارد التفكير في، او المساعدة على، تعقيد نظام فلسطيني وريث مقبول شعبيا، وهكذا فإن المشهد الفلسطيني ينطوي على احتمال شديد التعقيد والعبثية: غياب السلطة بقوة القهر الاسرائيلي والتنكيل بالأطر النضالية الأخرى، ولا نتيجة يمكن تشوفها من هكذا وضعية سوى الامكانات المفتوحة لأيلولة الوضع الفلسطيني، في حدود الارض المحتلة خصوصاً الى نوع من الفوضى والتسيب. تُرى هل تحسّب شارون وزمرته لمثل هذه النتيجة؟ لسان حال شارون يوحي بأنه يتجه الى اعادة السيطرة على الضفة وغزة وفقاً لما كان عليه الأمر قبل أوسلو ونشوء السلطة الفلسطينية. ومبعث هذا الهاجس هو حديث شارون عن جهوزيته بالبديل. وطالما اننا لا نتصور امكان نجاحه في اجتراح البديل من أهل البيت الفلسطيني، فإن علينا أن نستشرف ان الاحتلال الاسرائيلي المباشر هو الطرف المقصود بهذا الحديث. ومرة اخرى، نلاحظ للوهلة الأولى أن مثل هذا التصور لا يتسق والمصلحة الاسرائيلية ذاتها. اذ أن الدولة اليهودية أخلت يدها من المسؤولية عن ثلاثة ملايين فلسطيني بفعل آليات اوسلو، وأوكلت أمرهم الى السلطة الفلسطينية. فأي حكمة من اعادة تحملها لهكذا مسؤولية، في الشكل المباشر الذي يعنيه الاحتلال؟ سوف تفصح الأيام والوقائع عن مقاصد حكومة شارون من تقويض السلطة وقضية البديل "الغامض". غير أن الطرف الفلسطيني والظهير القومي العربي مطالب بالاستعداد لهذا السيناريو، فلم يسبق لفلسطين قبل 1948 وبعده، ان خلت من قيادة ذاتية من اهلها وشعبها، بغض النظر عن مدى فاعلية هذه القيادة. الرسالة الفلسطينية العربية لشارون ومن ينتصر لمخططه الأحمق ويبغي معه القاء فلسطينالمحتلة الى العدمية القيادية السياسية، هي ان اسرائيل تحت زعامته الرعناء أو زعامة غيره، ليست الطرف المعني بتقرير قيام الأطر القيادية الفلسطينية وقعودها او زوالها، وانه قد تتمكن اسرائيل من ازاحة السلطة الحالية واجهاض بنيتها وسيطرتها، لكن ذلك ليس خاتمة المطاف بالنسبة الى كينونة الشعب الفلسطيني السياسية. * كاتب فلسطيني.