كان واضحاً أن الصدمة التي أحدثتها كتابة القبح التي انطوت عليها رواية صنع الله إبراهيم "تلك الرائحة" قد أحدثت أثرها فور صدورها ومع الاستجابات القرائية الأولى إليها. وبدا واضحاً أن المعجبين بها ينتمون إلى الهامش الثقافي، أو التيار الطليعي، ضمن الثقافة السائدة. وكان أغلب هؤلاء من الشباب المتمرد على كل شيء، الرافض السير في الطرق المعبّدة، الباحث عن أساليب تجريدية جديدة، قادرة على تجسيد رؤيته النقضية للعالم الذي يرفضه. ومن هؤلاء تجمعات الشباب الماركسي الذي رفض حل "الحزب الشيوعي المصري" سنة 1965، كما رفضت المصالحة مع النظام الناصري الذي رأت فيه دولة تسلطية تؤسس ما سموه "رأسمالية الدولة" المعادية لمصالح البروليتاريا. وقد ضمت هذه التجمعات رفاق ما عرف باسم "واو. شين" أو "وحدة الشيوعيين" التي ضمت إبراهيم فتحي وصلاح عيسى وعبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب وجمال الغيطاني وصبري حافظ ويحيى الطاهر عبدالله وغيرهم. ويمكن أن نضم إلى تجمع "واو. شين" تجمعات أخرى وأسماء أخرى، تكونت منها المجموعة التي عملت على إصدار مجلة "غاليري 68" لتكون مجلة طليعية، تعمل على تأكيد حضور جيل الستينات وتوصيل صوته الذي ظل مهمشاً لوقت غير قصير. أما ممثلو التيارات المهيمنة، سواء من الأجيال الليبرالية التقليدية أو الاتجاهات القومية أو حتى الماركسيين المحافظين، فلم يتردد الكثير منهم في إظهار نفورهم من الرواية. ويمكن أن نرصد من هؤلاء اثنين على سبيل التمثيل، أولهما أحمد بهجت الذي كان أميل إلى المحافظة الأدبية، وثانيهما يحيى حقي الذي كان يميل إلى الاعتدال والتوسط في الأمور، ومن ثم عدم التطرف أو الجذرية التي تأخذ طابعاً حدِّياً في مواقف الأدب والحياة على السواء. ولذلك فإنه ظل محافظاً على إعجابه بالمرحلة "الاستاتيكية" في أعمال نجيب محفوظ، ولم ير في مرحلته "الديناميكية" اللاحقة نقيضاً إيجابياً، أكثر قيمة فنية من المرحلة السابقة التي كانت بمثابة الأصل الهادئ ونبع اللغة الصقيلة الموحية، وإنما رأى فيها امتداداً حيوياً لقوة الدفع التي عثرت على تجليات موّارة بالتوتر. وكانت بداية استجابة النفور ما كتبه أحمد بهجت في عدد الجمعة من جريدة "الأهرام" 11/2/1966 تحت عنوان "لغة الألم عند يوسف إدريس ولغة المجاملة". وكان المقال حديثاً عن مجموعة "لغة الآي آي" التي كان يوسف إدريس نشرها أخيراً، إلى جانب المقدمة التي كتبها لرواية "تلك الرائحة". وبعد أن امتدح أحمد بهجت غالبية قصص مجموعة "لغة الآي آي" مؤكداً أنها قفزة جديدة إلى الأمام في كتابة يوسف إدريس، وأنها عمل إبداعي خالص لفنان متميز، فإنه يدينه بسبب كتابة مقدمة "تلك الرائحة" التي عَدَّها أحمد بهجت من قبيل المجاملات المؤذية التي تسيء إلى الحقيقة. ومن هذا المنظور، يميز أحمد بهجت بين يوسف إدريس الفنان الذي يصل إلى الذرى، ويوسف إدريس الرجل الذي يتخبّط في المجاملة، فينحدر إلى المغالطة. ولا يزال الصراع دائراً بين يوسف إدريس الرجل ويوسف إدريس الفنان في ما يرى أحمد بهجت، وذلك على نحو يسبب كثيراً من الحرج للفنان، بالقدر الذي يتسامح به الفنان مع الرجل. هذا الصراع يظهر في قصص "لغة الآي آي" التي تغلَّب الفنان على الرجل في الكثير منها، وتسبب الرجل في إفشال بعضها القليل. ولكن مزالق الرجل تمتد من هذه المجموعة إلى غيرها من الأعمال، خصوصاً التعريفات والمقدمات التي يكتبها يوسف إدريس لأعمال لا قيمة كبيرة لها. ودليل أحمد بهجت على ذلك تقديم "تلك الرائحة" الذي هو تقديم يجافي القيمة الحقيقية للرواية التي لا علاقة لغالبية ما جاء فيها بالفن، في ما يؤكد أحمد بهجت الذي لا يتردد في كتابة الآتي: "كتب يوسف إدريس مقدمة يقول فيها إننا أمام رواية هي ثورة، هي زلزال، هي ديستويفسكي، وهي روعة، وهي موهبة.. إلى آخر ما قال، وبعد الفرحة بالموهبة الجديدة نكتشف أننا أمام معدة تكتب رواية.. عمليات بيولوجية تتوالى وتحدث.. لا رأس للمؤلف ولا ملامح ولا تفكير ولا قلب.. ولا وجه، وبالتالي ليست له صفات الإنسان. وبدل العينين هناك فجوة داخلها آلة من آلات الكاميرا الحساسة التي لا تغفل تسجيل غازات المعدة خلال انطلاقها إلى الحجرة وتبعثرها في الهواء، وأثر ذلك على وجوه الجالسين. وربما كان المؤلف قد تعرّض لتجربة مريرة أسلمته لحالة مرضية، فهل يكون ذلك مبرراً لهذه المقدمة. نحن نتمنى أن يكتب صنع الله إبراهيم رواية أخرى غير تلك الرائحة. سوف يبدع لأن هناك صفحات كاملة في تلك الرائحة وهي تخلو من تلك الرائحة.. صفحات تقول إننا أمام موهبة في محاولة بدائية تستهدف تصوير حادث وقع للأديب فتصوَّر أنه لو سجله بأسلوب خبري فسيكون هذا فنّاً، وليس هذا لازماً بالقطع". وتثير استجابة أحمد بهجت السابقة ملاحظتين تتداعيان إلى الذهن على الفور: أولاهما أن لغة الاستجابة لم تلتفت إلى طابع الاحتجاج السياسي الاجتماعي - أو حتى الوجودي - للرواية، ولم تشر إليه، واستبدلت بالانتباه إليه الانتباه إلى المشاهد الصادمة للذوق الاجتماعي الذي يرفض الخروج على حدود اللياقة في الكتابة أو السلوك. ولذلك يتم اختزال الرواية في "عمليات بيولوجية تتوالى وتحدث". وتعرض لغة الاستجابة عن تفاعل السياقات الذي هو أوسع بكثير، وأكثر تعقيداً، من أن يختزل في "عمليات بيولوجية" منفرة. وتفر لغة الاستجابة فرار السليم من الأجرب؟! من كل ما يتصل بتجسيد فظائع السجون الناصرية، أو استمرار عمليات القمع خارج السجن، أو تعرية تحلل الحياة الذي لا تخفي روائحه النتنة الشعارات البراقة والمظاهر اللامعة. وقد يكون التركيز على العمليات البيولوجية المستمرة نوعاً من الاستبدال النفسي بالمعنى الفرويدي، أقصد إلى تلك العملية النفسية التي تحل فيها دوافع محل غيرها على سبيل الآلية الدفاعية المراوغة التي تخفي شيئاً وتظهر غيره. أما الملاحظة الثانية التي تتداعى إلى الذهن فهي الخاصة بشبهة المحاكاة، فلغة الاستجابة تقرن بين "تلك الرائحة" والتعرض ل"تجربة مريرة" أسلمت صاحبها ل"حال مرضية". وغير خاف أن التجربة هي تجربة السجن، وأن الحال المرضية هي حال المراقبة، والإشارة غير المباشرة إليهما نوع من تجنب الإشارة المباشرة إلى غير المرغوب الحديث عنه. والسؤال المضمر الذي يخايل المُحَلِّل لهذه الاستجابة: هل يجوز أن يكتب كل من عانى تجربة مريرة عن حاله المرضية؟! والإجابة بالنفي المضمر في مثل هذا السياق، ومن ثم فهي إشارة ملازمة - على مستوى الإضمار نفسه -إلى أن الأدب تصوير لحالات الصحة لا معاناة المرض. ولكن ذلك النوع من النظر إلى الأعمال الأدبية يعود بنا إلى علاقة الأدب بالواقع، وحدود محاكاته أو صوغه الإبداعي الموازي، في دائرة تتقلص فيها حدود الصيغ الإبداعية للمحاكاة لتغدو قاصرة على كل ما هو جميل فحسب، وعلى كل ما يتجنب قبح الحياة وتشوهاتها في الوقت نفسه. وغير بعيد من هذا المنطلق، تأتي استجابة يحيى حقي 1905-1993 في مقال كتبه تحت عنوان "مقاومة التطرف بالتطرف" في جريدة "المساء" عدد الاثنين 14/2/1966، وكان المقال هجوماً على مسرحيات "العبث" التي كتبها يونسكو وبيكيت، من مثل "نهاية اللعبة" فضلاً عن مسرحية "مشهد من الجسر" لآرثر ميللر، ومسرحية "قطة على سطح ساخن" التي كتبها تينسي ويليامز. ويبدأ يحيى حقي مقاله: "ليس القصد هنا هو الحكم على أدب المسرح اللامعقول والجنس، له أو عليه، وإنما كتبت هذا المقال من إشفاقي أن يكون قد تخلّف لدى الشباب عندنا انطباع بأنه أدب ترضاه أوروبا كل الرضى لأنه يعبّر عن العصر، وأن نقده علامة على التخلف أو الغباء. أريد لهم بمقارنة الرأي أن يصلوا إلى نوع من الاتزان، لا أطلب منهم رفض هذا المسرح ولكن كفكفة للحماس المتدفق، أكتبه لأني قرأت أخيراً رواية تلك الرائحة للأستاذ الصديق صنع الله إبراهيم، فانزعجت لها انزعاجاً شديداً، هي مثل مخيف لسوء فهم معنى المعاصرة في الفن ومعنى التجديد". وخلاصة رأي يحيى حقي في الموضوع أن المبدع لا يمكن أن يقاوم تطرف الحياة بالتطرف في الفن، وأنه يسيء إلى الفن نفسه لو عالج القبح بالقبح على طريقة: وداوني بالتي كانت هي الداء. فالفن ليس درع برسيوس الذي انعكست على صفحته بشاعة قبح وجه الميدوزا المرعبة على ما هي عليه، الفن جمال لا يُقرُّ القبح، ويواجهه بنقائضه. وطريقته الإيحاء الرقيق والتلميح الموحى واللغة المهذبة، وليس التصريح الخشن أو الإشارة المباشرة أو الإثارة الفجة أو اللغة التي لا تعرف الحياء. ولكي يدعم يحيى حقي رأيه فإنه يستشهد بنموذج من مقالات الناقد الفرنسي المعاصر - في ذلك الوقت - جان جاك غوتييه عن مسرحيات "العبث" التي كتبها الكاتب الإيرلندي صموئيل بيكيت 1906-1989 الذي حاز جائزة نوبل سنة 1969، خصوصاً مسرحيته "نهاية اللعبة" 1957. وكان الهدف من الاستشهاد بالناقد الفرنسي المحافظ، متواضع القيمة، هو تأكيد أن هذه المسرحيات تجد من يرفضونها في موطنها، وأنها مسرحيات بلا قيمة فنية كبيرة لأنها أعمال تنطوي على التسامح في تقبل البشاعة، وتؤكد ميلاً غير أصيل الى النتن وعفن الموت وتهاويل الخيال المرتعب للمرضى النفسيين. ولم يكن يحيى حقي يتوقع، بالطبع، أن يفوز بيكيت الذي نفر منه وقلل من شأنه بجائزة نوبل بعد ثلاث سنوات على وجه التحديد، الأمر الذي لا بد من أنه صدم يحيى حقي الذي استشهد بناقد فرنسي لم يكن على وعي بحركة السهم الصاعد للكتابة الطليعية في وطنه. ويضيف يحيى حقي إلى ما نقله من تسفيه أعمال بيكيت تسفيه الناقد نفسه لمسرحية "مشهد من على الجسر" 1955 للكاتب الأميركي آرثر ميللر المولود سنة 1915. وهو تسفيه ينتهي إلى النتيجة النقدية نفسها، مضيفاً إليها عيوب الميلودرامية بكل مبالغاتها طولاً وعرضاً وغلظة. ويختم يحيى حقي بالإشارة إلى مسرحية "قطة على سطح ساخن" 1955 للكاتب الأميركي الجنوبي تينسي وليامز 1911-1983 التي حصلت على جائزة بوليتزر Pulitzer Prize وتحولت إلى فيلم شهير من أفلام هوليوود. ولا يلفت نظر يحيى حقي في هذه المسرحية إلا الشذوذ الجنسي الذي تنطوي عليه والانهيارات العصبية التي تؤكد في وعي المشاهد أنه يدخل إلى عيادة طبيب محلل نفساني وليس إلى مسرح يؤكد الإحساس بالجمال. وبقدر ما كان الهدف من تسفيه الأعمال المسرحية الطليعية هو تمجيد الأعمال المسرحية التقليدية، ومن ثم تأكيد مبدأ اللياقة الجمالية في حدوده البورجوازية الكلاسيكية، كان الهدف كذلك مقاومة الأثر الحماسي الذي تركته الأعمال الطليعية الأوروبية والأميركية عموماً في نفوس شباب الكتّاب المتمردين على كل شيء، الساعين إلى التجريب الذي صدم جيل الآباء الطيبين. أقصد إلى هؤلاء الكتاب الذين وجدوا في الأعمال الطليعية ما يستجيب إلى رغبتهم في تجسيد تمردهم الأدبي بكتابة مختلفة. ولا شك في أن حصول كتاب عالميين غير تقليديين - بحسب الفهم السائد - على جوائز نوبل، وغيرها من جوائز العالم الكبرى، كتّاب من طراز سيفريس اليوناني نوبل 1963 وجان بول سارتر الفرنسي نوبل 1964 وأوسترياس الغواتيمالي نوبل 1967 وكاواباتا الياباني 1968 وصموئيل بيكيت العبثي نوبل 1969- أقول إن حصول كتّاب من هذا الطراز على جوائز نوبل وغيرها كان علامة دالة على التحوّل الجذري في المشهد الأدبي العالمي، وعلى بزوغ تيارات تمرد عالمية سرعان ما أصبح جيل الستينات منتسباً إليها بمعنى أو غيره، خصوصا بعد أن انطوى هذا الجيل على دوافع التمرد لأسباب عدة. ولذلك ثار كتّاب هذا الجيل على الأعراف الأدبية التي تربّى عليها، وتبنّاها، جيل الآباء الطيبين الذين كان يحيى حقي خير مثال لأفراده، وأكثر نماذجه حنواً على الشباب وخوفاً عليهم من منظوره الخاص بوصفه أحد أولئك النيرين الكبار. ويبدو أن دافع الحنو والخوف معاً هو الذي دفع يحيى حقي إلى معاودة الكتابة في الموضوع نفسه، وذلك في مقاله الذي كتبه في عدد "المساء" الصادر في 27/3/1967، أي بعد حوالى عام، مناقشاًً ظاهرة الكتابة الجديدة للشباب، خصوصاً في جانبها الذي يخرج عن حدود اللياقة المعقولة أو المقبولة. ولذلك يجعل يحيى حقي عنوان مقاله "حدود..!" مؤكداً في ثناياه أن الفن غريم الفيزيولوجيا لا يأبه بها، ولا تدخل مجاله، بل يكرهها. "قد يكون بطل القصة مصاباً بمغص كلوي مثلاً، ولكن عيب عليها أن تصف لنا أعراض هذا المرض وفعله بصاحبه، من زعيق وتَلَوٍّ وعرق، ثم عودة إلى الهدوء بعد تناول العلاج، غاية ما تفعله - بل مقصدها الأوحد - أن تتخذ من هذه الأزمة - إذا خدمتها في تطوير الموقف - ذريعة لتشريح نفس المريض وعلاقته بالحياة والمجتمع. كذلك ولادة الأم، إنها ترد في قصص كثيرة، فلا تنتظر منها أن تصف لك المخاض مرحلة مرحلة، وإنما تهتز فحسب لروعة الخلق، أو أثر مجيء هذا الطفل على تطوير مواقف شخوص القصة". وكما يكره الفن الفيزيولوجيا يكره أيضاً التعبير الفيزيولوجي، فإنه نوع من القبح ينبغي تحاشيه في ما يرى يحيى حقي الذي ظل يرى الجمال في النظام، والجمال في نقائض القبح التي وقعت في أسرها "تلك الرائحة" التي يتحدث عنها يحيى حقي على النحو الآتي: "ما زلت أتحسّر على هذه الرواية القصيرة التي ذاع صيتها أخيرا في الأوساط الأدبية وكانت جديرة بأن تعد من خيرة إنتاجنا لولا أن مؤلفها زلّ بحماقة وانحطاط في الذوق، فلم يكتف بأن يقدّم لنا البطل وهو منشغل بجلد عميرة لو اقتصر الأمر على هذا لهان ولكنه مضى فوصف لنا أيضاً عودته لمكانه بعد يوم ورؤيته لأثر المنيّ الملقى على الأرض. تقززت نفسي من هذا الوصف الفيزيولوجي تقزّزاً شديداً لم يُبق لي ذرة من القدرة على تذوق القصة رغم براعتها، إنني لا أهاجم أخلاقياتها بل غلظة إحساسها وفجاجته وعاميته، هذا هو القبح الذي ينبغي تحاشيه، وتجنيب القارئ تجرّع قبحه". وأتصور أن أي تحليل نقدي لهذه الاستجابة لا يمكن أن يغفل ما تنطوي عليه من بعد مسكوت عنه، يبدو كأنه بعد مقموع تحت وطأة النفور الغالب على الاستجابة كلها، المحاصر لكل ما يمكن أن ينقضه من داخل الدوافع المهمشة بسطوة الدوافع المهيمنة. أقصد إلى بعد التسليم ببراعة القصة، وعدم رفض أخلاقياتها، بل غلاظة إحساسها وعاميتها. ولكن ما الذي يمنع أن تكون بعض هذه البراعة راجعة إلى غلظة التصوير في بعض المواضع، وفجاجة المشاهد في مواضع أخرى؟ وذلك سؤال يمكن أن يدفع إلى سؤال آخر عن وهم التطابق الذي تفترضه الاستجابة المهيمنة بين الجمالي الاستطيقي والجميل؟ ولماذا لا يمكن أن نجد الجمالي الاستطيقي في القبيح، ولماذا لا ينطوي صوغ القبح على أثر استطيقي هو هذه "البراعة" التي يعترف بها يحيى حقي؟ بالطبع، كان من قبيل العبث أن يحاجج شباب الستينات يحيى حقي بأشعار بودلير أو كتابات بيكيت أو ميللر أو يونسكو أو جويس أو غيرهم، فقد كان هذا الكاتب العظيم - مثل بقية أبناء جيله الطيبين - نافراً بحكم التكوين الفكري والإبداعي لجيله من هذا النوع من الكتابة، مصدوماً بكتابة شباب الستينات التي زلزلت الثوابت الأدبية لعوالم جيله المألوفة. لكن لحسن الحظ لم يحجر هذا الجيل على الشباب، ولم يستخدم أساليب قمع أو إرهاب، بل أبدى تسامحاً وتشجيعاً سمح لكتابات الستينات بالمزيد من الحضور والانتشار.