رواية "تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم - في جانب منها - رواية عن الكتابة، فالبطل الذي يتحدث من خلالها، كما يتحدث السرد عنه، كاتب يعاني عملية الكتابة التي حيل بينه وبينها في فترة السجن التي غيّرت الكثير داخله. وعندما خرج من السجن، ووجد حجرة يستقر فيها، عاودته رغبة الكتابة التي هي معنى أساسي في وجوده بوصفه كاتباً. ونحن نراه على امتداد الرواية يحاول جاهدا أن يجلس إلى مكتبه ليكتب، ولكنه في كل مرة يجلس فيها إلى المكتب لا يفلح في كتابة ما يريد، ويشعر بالعجز عن معاودة الكتابة، وتنتهي عملية الكتابة نفسها بنوع آخر من الفشل الذي عاناه في لقائه المحبط مع نجوى التي كانت تربطه بها علاقة عاطفية قبل اعتقاله. وكان الفشل في اللقاء مع "نجوى" التي سرعان ما اختفت من القصّ، ومن سرد الراوي - السارد، فلم تظهر بعد ذلك قط، كأنها تنتسب إلى عالم ما قبل الاعتقال الذي قطع قمع السجن الطويل علاقاته - أقول كان الفشل في اللقاء مع الحبيبة القديمة هو الوجه الآخر من الفشل مع الكتابة، فالكاتب كان يجلس ليكتب ما اعتاد أن يكتب مثله قبل السجن الطويل والتعذيب المهين، ناسياً أن ما اخترق روحه ووعيه، طوال فترة الاعتقال، باعد بينه وبين ما كان معتاداً أن يكتبه قبل ذلك، وقطع صلته به إلى الأبد، فقد أصبح هذا النوع القديم من العلاقة بالكتابة أشبه بنوع العلاقة التي كانت تصل الكاتب - الراوي بنجوى، بل أشبه بغير ذلك من أنواع العلاقات مع الأهل والأصدقاء التي قطعها الاعتقال، تاركاً الراوي - الكاتب وحيداً، مغترباً، لا تفارقه ذكريات القمع الوحشي الذي عاناه في السجن، وتذكِّره بها، كأنه في حاجة إلى تذكّر؟! دقات الجرس المتكررة التي أصبحت مقرونة بحضور عسكري المراقبة للتتميم والتوقيع في الدفتر اللعين الذي أصبح علامة أخرى على الحضور الدائم لعلامات القمع. واقتران الكتابة بالجنس أمر طبيعي على المستوى الرمزي في هذا السياق، ففعل الكتابة ينطوي على معنى من معاني الخلق الذي ينطوي عليه فعل الجنس، والعجز عن أحدهما يعنى العجز عن الآخر في التلازم الرمزي الذي يُدني بالطرفين المتباعدين إلى حال من الاتحاد. ولولا ذلك ما وصف القدماء من شعراء العرب المعنى المبتكر بالبكارة، والقصيدة الفريدة بأنها عذراء، والشاعر المتميز على أقرانه بالفحولة، وما قال أبو تمام بيته الشهير الذي يعرفه دارسو التراث: والشعر فرج ليست خصيصته طول الليالي إلا لمفترعه ولا أريد المضيّ في الاستشهاد بكتابات المحدثين من العرب وغيرهم لتقرير هذه اللازمة الرمزية المناوشة لمعنى الخلق في الكتابة، فالأهم من ذلك - في هذا السياق - هو لفت الانتباه إلى اقتران العجز عن ممارسة الكتابة بالعجز عن ممارسة فعل الحب مع الحبيبة القديمة، نجوى، ومن ثم تكرار الوسيلة الجنسية البديلة نفسها لفعل الاستمناء، وذلك في مجرى دلالي غير بعيد عن تلازم الفشل في معاودة العلاقات القديمة بالأصدقاء والأهل بالفشل نفسه في معاودة الطرائق القديمة من الكتابة. وفشل الكتابة بحسب أساليبها القديمة أمر طبيعي مع الحال الذي انتهى إليه البطل - الراوي - الكاتب بعد المعتقل، ذلك الذي لم تعد تصلح له هذه الطرائق، ولم يعد يصلح لها أو قادراً عليها، نتيجة تغير تكوينه النفسي واختلاف وعيه الأدبي. وربما كان الكاتب الراوي - البطل يشير إلى هذا الاختلاف بوصفه حالاً كتابياً، حين ذكر أنه يريد أن يكتب قصصاً من رأسه لا من الكتب، وذلك على نحو ما نقرأ في الحوار التالي: "سألتني أمّها عما أفعل الآن. وكانت تتكلم بصوت عالٍ. وقلت لها: إني أكتب. وقالت: هل تكتب قصص؟ قلت. نعم. وقالت: من الكتب؟ قلت لها: لأ، من رأسي. وقالت نهاد: إذن أنت شخصية". ودلالة الحوار واضحة في إشارتها إلى رغبة الكاتب في عدم تقليد أحد، وسعيه إلى الكتابة عمّا يعانيه هو. ولذلك تبدو المحاولة المتكررة للكتابة على الطريقة القديمة عملية صعبة جداً، تنتهي بالعجز وعدم القدرة، فابتداع الجديد الذي يأتي من رأس الكاتب من دون غيرها من الرؤوس أمر لا يحدث بسهولة، ولا يمكن أن يقع إلا إذا كانت هذه الرأس أمينة مع نفسها قبل أن تكون أمينة مع قارئها. وتتكشف استحالة ذلك عندما نضع في اعتبارنا أن البطل - الراوي - الكاتب الذي يحاول أن يخلص لتجربته هو بكل قبحها ومرارتها، لا يمكن أن يستجيب إلى أعراف الكتابة المألوفة أو نواهيها المعتادة أو تقاليدها السائدة. إنه يريد كتابة ما هو عليه، وما يجسّد واقعه المتعيّن أدبياً، أو يوازيه رمزياً، وبلغة الحال القمعي الذي اكتوى به. ولذلك نجده يقول لنا، أو لنفسه بلا فارق، في أحد أقسام الرواية: "غسلتُ وجهي. وأعددتُ فنجاناً من القهوة، ثم رتّبت المكتب. ومسحت الغبار الذي تراكم فوقه. وأمسكت القلم. ولكني لم أستطع أن أكتب. وتناولت إحدى المجلات. وكان بها مقال عن الأدب وما يجب أن يُكتب. وقال الكاتب إن موباسان قال إن الفنان يجب أن يخلق عالماً أكثر جمالاً وبساطة من عالمنا. وقال إن الأدب يجب أن يكون متفائلاً نابضاً بأجمل المشاعر. وقمت واقفاً. وذهبت إلى نافذة الأمس. ولكنها كانت مغلقة. وعدت أجلس إلى المكتب. وأمسكت بالقلم. ولكني لم أستطع الكتابة". والفقرة كلها دالّة من حيث إنارتها الى عجز الكاتب عن الكتابة بحسب المواصفات المطلوبة منه، والمحدَّدة سلفاً، ونتيجة تجارب مناقضة تماماً. ولا يمكن، بالطبع، لمثل هذا الكاتب أن يخلق عالماً أكثر جمالاً وبساطة من عالمه، وعالمه قد انحدر إلى قرارة القبح التي لم يعد معها في الروح أو الوجدان أو العقل أي إحساس بهذا النوع من الجمال الذي يتحدث عنه موباسان، أو ذلك الناقد صاحب المقال الذي يبدو رومانسياً ثورياً طيب القلب. والبساطة التي يطالبنا بها هذا الناقد، مقرونة بالتفاؤل النابض بأجمل المشاعر، وهم من الأوهام وسراب لا واقع له في هذا السياق، وأبواب أساليب كتابتها مغلقة أمام وعي كاتب "تلك الرائحة" - أو راويها الخارج من جحيم الاعتقال- كأنها "نافذة الأمس" التي لم تعد تفتح، وحتى لو فتحت فإنها لا تبين سوى الشاذ والغريب واللاإنساني. وكيف يمكن أن يكون متفائلاً كاتبٌ أنهكه عنف قمع المعتقل، ويلازمه الشعور بالعجز كالشعور بالقهر، فلا يملك سوى أن يقول لإحدى قريباته: "إني أشعر أني عجوز، نادراً ما أبتسم أو أضحك. وكل الناس أراهم في الشارع وفي المترو متجهمين دون ابتسام. ولأي شيء نفرح؟!". وعبارة "لأي شيء نفرح؟" الاستفهامية التعجبية في آن توازي السؤال المضمر: وأين هو هذا الجمال الذي يمكن أن نحسّه في هذا العالم الطافح بالقهر، كالمجاري الطافحة بتلك الرائحة؟ وهي تعقيب حاسم، يصدر عن حال شعوري وعقلي ومعرفي، يقترن بالموقف الاجتماعي السياسي الثقافي الاقتصادي الذي يفرض السؤال: كيف نفرح وذكريات أحبابنا الذين ماتوا من التعذيب لا تفارقنا؟ وكل من حولنا ينكرنا كأننا تهمة؟ وكل الناس تبدو متجهمة بلا بسمة؟ إن الكتابة على طريقة موباسان التي يذكرها الناقد طيب القلب سبيل مغلق، لا يمكن فتحه إلا بالعودة المستحيلة إلى زمن وهمي خالٍٍ من تجليات القمع. وهي عملية مستحيلة كل الاستحالة. ولذلك يجلس البطل - الراوي - الكاتب إلى مكتبه، نافضاً عن نفسه وعن مكتبه الغبار من دون فائدة، معانياً عجزه المتكرر، وكما لو كان هذا العجز دالاً يفضي مدلوله إلى معنى نقيض، معنى يومئ إلى ضرورة حضور كتابة أخرى، مختلفة، مناقضة، كتابة يجب أن تبدأ من هذا الغبار الذي تراكم على المكتب وعلى الروح، ومن العجز نفسه، ومن الرغبات المقموعة في الواقع الذي أصبح عدائياً، ومن ذكريات القمع التي لا يمكن احتمالها أو احتمال الواقع الذي يؤدي إليها إلا بتثبيتهما في الكتابة، الكتابة التي تتحول إلى ما يشبه درع برسيوس التي قاوم بها الميدوزا وانتصر عليها. وكان ذلك حين جعلها ترى على صفحة درعه الصقيلة - كما تقول الأسطورة اليونانية القديمة - صورتها التي انعكست على الدرع، فأبصرت وجهها البشع الذي يميت كل من يراه، فسقطت ميتة بعد أن أدركت ما لم تدركه من قبل عن نفسها. ومن هذا المنظور، فإن كتابة "تلك الرائحة" هي كتابة عن فشل الكتابة بحسب تعليمات الآخرين ومواصفاتهم المأثورة للكتابة الأثيرة. وهي كتابة عن قمع الكتابة الذي يمارسه تيار سائد بوعي أو بغير وعي، عن إكراه الكتابة على تجميل واقع يخلو من أي جمال، وأي تجميل له هو تزييف للوعي به وإخفاء لحقيقته البشعة. وهي تصفية للوعي الكتابي من بقايا هذا الإكراه، وانقطاع عنه على مستويات الشعور، كشف عن زيف الكتابة التي تُكره غيرها على الكذب، وعلى تجميل ما لا يقبل التجميل، فتنتهي إلى خيانة الجوهر الأصيل لمعنى الكتابة، وإلى قمع فعل الخلق الجسور الذي تقوم به عملية الكتابة حين تمارس حريتها الملازمة لفعل خلقها، خصوصاً حين يغوص هذا الفعل في قيح الجرح ليطهّره. ومقاومة هذه الكتابة الكاذبة بواسطة الفعل نفسه هي الكتابة النقيض، الكتابة التي هي الوجه الآخر من مقاومة قمع الواقع الذي يسجن مخالفيه، ويقضي على معارضيه لكي لا يبقى إلا الصوت الواحد الأحد الذي لا يقبل اختلافاً ولا يسمح بمغايرة. ومن المنطقي أن تتبادل أفعال المقاومة مواقعها، أو على الأقل تتلازم في معنى الحضور الذي يجعل من مواجهة قمع الواقع وجهاً آخر من مقاومة كتابة تزييف الواقع. هكذا، تتخذ مقاومة قمع الكتابة المهيمنة تجليات دالة في رواية "تلك الرائحة"، غير مفارقة علامات إحباط الرغبة المقموعة للكتابة من الداخل. والفشل المتكرر هو ناتج هذا الإحباط أو القمع. وفي الوقت نفسه، تعبير عن رغبة مقاومته أو إزاحته من طريق الكتابة، كأنه ذرات الغبار التي تتراكم على منضدة الكتابة. والعناد الذي يعاود به البطل - الراوي- الكاتب- القراءة، ويحاول المضيّ فيها، يشبه العناد الذي يقاوم به فشله المتكرر في الكتابة. وهو ينجح في مقاومة هذا الفشل عندما يكتب عن حاله، مجسِّداً مبدأ رغبته المحتجزة. ومجاوزة الكتابة السائدة التي حاولت قمعه هي يومياته العفوية التي تحققت نتيجة مبدأ الرغبة الذي يؤكد حضوره الكتابي الفاعل، حتى عندما يكتب عن عجزه عن الكتابة بحسب المواصفات السائدة، أو المطلوبة، في الكتابة الجميلة؟!. هل يمكن القول إن الكتابة النقيض، من هذا المنظور، هي نوع الفعل الكتابي الذي يعوّض حضورُه الكاتبَ عن غياب فعله الاجتماعي الذي لم يعد قادراً عليه، أو مسموحاً له بأدائه، خصوصاً عندما يحيله عنف القمع المادي الواقع عليه إلى كائن لا يخفي عجزه عن الفعل الاجتماعي؟ إن الأمر ممكن، وهو كذلك بمعنى من المعاني في رواية صنع الله إبراهيم، لكن شريطة فهم الكتابة النقيض بوصفها الفعل الإيجابي الممكن الذي يستطيع الكاتب ممارسته، ولا بد له من ممارسته، احتجاجاً على شروط قمعه، ومحاولة للخروج من المدار المغلق لعدم الانتماء، وتجسيداً إبداعياً لرغبة مجاوزة الواقع المحبط بوضع زوايا هذا الواقع أمام مرايا الكتابة التي تصدم أبناء هذا الواقع بما هم فيه، أو بما هم عليه، وتدفعهم إلى التعرف المباغت على الهوان اللاإنساني الذي انحدر إليه كل شيء، بما في ذلك كتابتهم الجميلة؟! التي تهرب من عالمها بمحاولة تزييف عالم أكثر جمالاً وبساطة. وإذا كانت الكتابة النقيض الوجه الفاعل من الكتابة، خصوصاً عندما تكتشف الكتابة حضورها بوصفها فعل احتجاج وتمرّد على كل ما يحول بينها وبين أن تكون مبدأ للرغبة المتمردة لا مبدأ للواقع الخانع، فإن هذه الكتابة النقيض لا بد من أن تكتسب من واقعها بعض سماته، لا على سبيل المحاكاة أو التقليد، أو حتى التكرار، فهذه سمة أنصاف أو أرباع الموهوبين، وإنما على سبيل استخدام الترياق الذي يقضي على جذر الداء، أو وضع الذات - الموضوع في مواجهة نفسها بمرايا تريها ما هي عليه، وما هي إياه، في لحظة تاريخية بعينها، فتدرك ما لم تكن تدركه عن حضورها الذي لم تنتبه إلى عدم إنسانيته، وذلك بسبب تتابع أفعال التطبيع الإيديولوجي التي هي تزييف للوعي. بعبارة أخرى، إن الكتابة النقيض هي الكتابة المقتدرة عن القبح عندما يكون القبح هو اللازمة الأولى للقمع الذي يتخلل كل شيء، تماماً مثل "تلك الرائحة" التي تتخلل كل ما يتنفسه البطل - الراوي - الكاتب، أو يشمّه أو يدركه. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يبدأ صنع الله إبراهيم روايته بجملة يقتبسها من جيمس جويس في روايته "صورة الفنان شاباً" كما لو كان يجعل من الجملة المقتبسة تعليلاً لوجود كتابته النقيض، وشعاراً لروايته وإشارة إلى اختلافها في آن. والجملة تقول: "أنا نتاج هذا الجنس وهذه البلاد وهذه الحياة... ولسوف أعبّر عن نفسي كما أنا" وهي جملة دالة في كشفها عن حضور المغايرة وتضافر الجنس العِرْق واللحظة التاريخية للوطن في إنتاج نوع الكتابة الذي يختاره الكاتب استجابة واحتجاجاً وتمرداً وتعبيراً خلاقاً مخلصاً عن النفس والواقع ومحاولة لمجاوزتهما في آن.