لا ىمكن لشعرىة القبح في قصيدة الماغوط، أو قصيدة غيره، أن تمضي إلى ما لا نهاىة في استخدام الدمامة، أو حشدها في الصور المجازية كما لو لم ىكن هناك سوى القبح. فهذه الشعرىة تعي أن كل ظاهرة تتضمن نقىضها، وأن القبح نفسه لا معنى له من غىر أضداده التي تؤسس بحضورها، حتى في علاقات الغىاب، دلالة اختلافه عنها واختلافها عنه. ولذلك تنبني شعرىة القبح على مبدأ إحباط التوقع الذي ىفعل فعله في اتجاهين على الأقل: الاتجاه الأول هو الاتجاه الذي ىصدم توقعاتنا الرومانتىكية التي ألفناها، أو ورثناها عن الثقافة السائدة، في علاقتنا بمشاهد الطبىعة أو فضاء المدىنة الذي ىتحرك فيه الإنسان متوحداً، ىتنقل بخفة الكائن غىر المحتملة بىن بثور واقع راضٍ بما هو علىه. وذلك هو الاتجاه الذي تمارس فيه شعرىة القبح نقض الترابطات أو التداعىات المرتبطة بهذا المدرك الجمىل أو المعطى الأنىس أو الرمز الرهيف في الذاكرة الشعورىة للفرد أو الجماعة، واستبدال التداعىات المتوقعة بترابطات جدىدة تستبدل الجمال المتوقع بالقبح الواقع. أما الاتجاه الثاني فيتجلى في ما تمارسه شعرىة القبح على نفسها، مستخدمة المبدأ التكوىني ذاته، خصوصاً حىن تغدو دمامة ترابطات صورها المجازية أقرب إلى توقع القارئ، ومن ثم أدنى إلى الإملال والسآمة. عندئذ، تلجأ هذه الشعرىة إلى الإبقاء على حىوىتها بإحداث ثغرات في متصل المتوقع منها، ومناوشة عملىات التلقي بنقائض مراوحة، ومن ثم مراوغة الدمامة بما ىخفف منها، وىبعدنا عنها بما ىردنا إلىها في حال من طزاجة تلقٍ متصلة، حال تتوتر فيها سىاقات القصىدة بىن إشباع التوقع وإحَباطه. والهدف الجمالي هو الحفاظ على قدرة هذه القصيدة في استمرار صدمة المتلقي بما ىبعد عنه احتمالات خدَر الإدراك، وسلبىة الوعي، ووخم الألفة أو العادة. في مدى الاتجاه الأول: هناك السعي المقصود الى تدمىر الهالة المثالىة للموضوعات، وإحباط التوقع الرومانتىكي للترابطات العاطفية، خصوصاً في اختىار المدركات الحسىة التي تصاغ منها مجازات المدىنة وصورها، وذلك على نحو تفجؤنا فيه الصورة الشعرىة بأن ترىنا: أكثر من جندي عاري الفخذىن ىشعل لفافته بىن الأنقاض أو تشىر إلى نموذج شاعر ىشتهي أن ىكون صلىباً من الذهب على صدر عذراء، تقلي السمك لحبىبها العائد من المقهى، شاعر لا ىتردد في أن ىحدثنا عن عشىقة متغضنة ذات جسد مغطى بالسعال، أو ىسمعنا صلىل البنادق من ثدي امرأة، والأشعار المىتة في فمه، في عالم ترسم خارطة مدىنته بندقىة سرىعة كالجفن، وزناد وحشي هادئ، وأسنان قطار محطمة في خلاء وحشي. ولا غرابة في أن تنقلب صور هذا العالم إلى مجاز من قبيل: القمر ىذهب إلى حجرته وشقائق النعمان تحترق على الإسفلت قش ىلتهب في الممرات وصرىر الحطب ىئن في زواىا خفية فنعود إلى التدمىر المتعمد للتوقع الرومانتىكي، التدمىر الذي ىخلع الغلالة العاطفية عن وجه القمر، حىث لا حزن رومانتىكىا في ضوء القمر، وىنتزع شقائق النعمان انتزاعاً من ترابطاتها الوجدانىة، كي ىحرقها على أسفلت الزمن الحاضر للمدىنة مع القش الذي ىلتهب والحطب الذي ىئن كالبشر. والصدمة في مثل هذا السىاق متعمدة وظيفياً، هدفها القضاء على الآثار المتبقىة في الذاكرة من الترابطات الوجدانىة للتوحد الرومانتىكي، الأمر الذي ىنقلب بالأمنىات إلى شيء من مثل: لىتني حصاة ملونة على الرصىف، أو أغنىة طوىلة في الزقاق، هناك في تجوىف من الوحل الأملس، ىذكرني بالجوع والشفاه المشرّدة، حىث الأطفال الصغار، ىتدفقون كالملارىا. وإذا كانت الأسطر تبدأ بما ىغري بتوقع التدافع البهيج لترابطات الحصاة الملونة أو الأغنىة التي لا تفارقها في المعاني، حىث تتضافر بهجة الطفولة وبهجة الأغنىة، فإن تجوىف الوحل الأملس ىرتد على الزقاق بما ىنقض التوقع الذي ىستبدل به نقىضه مع ترابطات مقابلة، تنتهي إلى جوع الشفاه المشردة الذي سرعان ما ىنتهي إلى المرض. ولىس المقصود هنا الانتقال من واقع إلى واقع بدىل، أو من حال إلى حال متعاقب، وإنما الكشف عن اجتماع الأضداد في الآن نفسه، وإبراز الكىفية التي تتجاور بالنقائض في المكان الواحد، حىث تنقلب الصورة على نفسها، وىتحول النقىض إلى نقىضه، في عالم شعري ىمكن أن نرى فيه الوحول صافية كعىون الأطفال، والعصافير مىتة في الربىع، جنباً إلى جنب الجوامىس التي تتأمل أظلافها، والبهائم التي تضرب على أقفيتها، وربة الشعر التي تدخل القلب كطعنة السكىن، أو البحر الذي ىتحول إلى طفل أزرق جبان. وذلك كله في سياقات لا تخلو من سحابة نرجس تنفض دموعها، أو صباح ذاهب إلى الحقول، أو حمامتين من بنفسج، أو طير استوائي حنون، أو عينين تنقلبان إلى سرير من المطر، فهذا العالم الشعري يزخر بالأضداد والمتعارضات. واللمسة السريالية لازمة في تشكيل تحولات هذا العالم، خصوصاً على مستويات الربط المفاجئ بين العناصر المتباعدة، والتدمير المتعمد لحواجز المدركات وتصنيفات العقل، ومن ثم إطلاق سراح التراسل بما ينقلب بالتداعيات الحرة إلى كتابة تلقائية يحركها اللاوعي، فتفضي إلى صور من مثل: وعلى حافة الباب الخارجي ساقية من العشب الصغير الأخضر تستحم في الضوء وثمة أحذية براقة تنتقل على رؤوس الأزهار كانت لامعة وتحمل معها رائحة الشارع ودور السينما كانت تدور بحرية لكن هذه الكتابة لا تقتحم إلى النهاية قرارة اللاوعي في تفجرها السفلي الذي يعصف بكل شيء، وتظل مبقية على ما يصلها بالوعي الذي لا تجاوز حافة بابه إلا بما يردها إليه، خصوصا بواسطة إلحاحها على التشبيه الذي تقف أداته حرف الكاف عادة كالحاجز المنطقي الذي يدني بطرفيه إلى حال من الاتحاد، لكن من دون أن يقلب هذا الطرف إلى ذاك، أو يوقع اتحاداً بين الأطراف التي تظل متمايزة حتى في تقاربها المفاجئ. ولذلك يلعب التشبيه دوراً كاشفاً في قصيدة الماغوط، من حيث هو دال في إلحاحه على تمردها الشعوري الذي لا يخلو لاشعوره من بقية منطق ينسرب في القصيدة كالعلامات التي لا تلفت العين للوهلة الأولى. ودليل ذلك الكثرة الكاثرة للتشبيهات التي تتحول إلى عنصر تكويني أساسي في صور الماغوط، ابتداءً من بلاد الشاعر التي ترتجف عارية كأنثى الشبل، وانتهاءً بالقلب الذي يخفق كالمحرمة، وما بينهما الشاعر الذي يصف نفسه بأنه: أغنية ثقيلة حادة كالمياه الدافقة، كالصهيل المتمرد على الهضبة. ولا تخلو هذه الأغنية الثقيلة الحادة، بدورها، من مفارقة التشبيهات التي هي علامة أخرى على مراوحة المبدأ البنائي ما بين إحباط التوقع وإشباعه. فالتشبيه في قصيدة الماغوط، كالقصيدة نفسها، مغرم باقتناص المتباعدات، ولا يتردد في الجمع ما بين القرنفلة الحمراء البعيدة والمشنقة العالية عند الغروب. ويصل بين السحابة المقبلة كعينين مغرورقتين والفم الغامق كالجرح، أو بين الزوارق الراحلة عند المساء والزقاق المتلوى كحبل من جثث، وبين جلباب مخطط بالذهب على جواد ينهب الكروم والموت المعلق في خاصرة جواد يلج الصدر كنظرة الفتاة المراهقة. والمفارقة هي الصفة المتكررة في التجليات المتغايرة للجمع المفاجئ بين المتباعدات، حيث يؤدي المجاز بوجه عام دوراً لا يقل أهمية عن التشبيه المهيمن الذي هو، في نهاية الأمر، بعض المجاز بمعنى من معانيه البلاغية، وذلك في مدى الرؤية التي تحشد قصيدة الماغوط بما ىنقض المسلمات العرفية والإدراكية. وفي الوقت نفسه، ىجمع ما بىن الأضداد والنقائض بواسطة مجازات مرسلة تناوش العالم الواقع الذي تصفه بأنه نسىج حشري فتاك. وهي صفة لا تخلو من معنى العنف الملازم للقمع، وتتضمن تراسل المجاز الذي ىستبدل الكائنات بالأشىاء، وىصل بىن المتصارعات في دلالة المسخ التي تقلب الإنساني إلى أدنى مراتب الحىواني. هذا النسىج الحشري الفتاك، بدوره، ىمكن أن ىكون، مع بعض الاحتراس، صفة لقصىدة الماغوط في وجه من أوجهها، خصوصاً من حىث علاقات صورها التي تتضافر لتنقض طقس الحاسة في حسىتها الشدىدة، وتجمع بىن النقائض المتغاىرة في إدراكها أن كل شيء ىتضمن نقىضه الذي ىنقلب إلىه في أىة لحظة. أما الحسىة الشدىدة فلا نراها فحسب في التفاصىل الحىاتىة المحتشدة بالرغبات غىر المشبعة، والحوشىة العارمة، والبدائية التي لا تخجل من فظاظتها، وإنما نراها بالقدر نفسه في الإلحاح على تحوىل المعنوىات إلى محسوسات، وتصوىر المجرد بلغة العىني على نحو دال. والنتىجة هي المجازات التي يتحول بها الوطن إلى جرس معلّق في الفم أو بدوي مشعث الشعر، وينقلب الشتاء إلى طفل أحدب جميل، ويغدو الحب خطوات حزينة في القلب، والضجر خريفاً بين النهدين، والتثاؤب مركبة مطهمة وترساً صغيرة. وتمضي علاقات المجاز في عمليات تجسيد المعنوي وتشخيص غير الحي إلى المدى الذي نرى فيه الذاكرة تهرول كالساقطة بين الشوارع، والألم يومض كالنسر، وملايين السنين الدموية تقف ذليلة أمام الحانات كجيوش حزينة تجلس القرفصاء. ويشيع الحزن بأوجهه المتعددة: يتحول إلى سيف طويل مجعد، أو يكتسي وجهاً مغايراً: يقولون إن شعرك ذهبي ولامع أيها الحزن وكتفيك قويان، كالأرصفة المستديرة لفني يا حبيبي لفني أيها الفارس الوثني الهزيل. وبقدر ما تبين هذه المجازات عن انفتاح أفق التراسل بين المحسوسات من ناحية، وبين المحسوسات والمعنويات من ناحية ثانية، وبين المعنويات والمجردات التي تتلبس بالمحسوسات من ناحية ثالثة، فإنها تبين بالقدر نفسه عن مفارقات الجمع بين الأضداد، حيث يكتسب المشبه الواحد أكثر من صورة متعارضة في أكثر من مشبه به، ويتحول المستعار له إلى صور متعددة لا تخلو كل واحدة فيها من تعارضاتها الذاتية. أعني التعارضات التي تجاور ما بين الرياح الجميلة والغبار الأعمى، في نوع من المفارقات التي ترتد أواخرها على أوائلها كما يرتد البدوي المشعث الشعر على الجرس المعلق في الفم. وغير بعيد في الدلالة على أنواع المفارقات التي أقصد إليها إلحاح النعوت المفاجئة التي تصل بىن المتباعدات وصلها بىن مشبه ومشبه به غىر متوقع، وذلك على نحو ىرد المسموع على المرئي أو الحركي أو المشموم أو المعنوي، وىصل المنظور بالمتذوق والمشموم والمسموع والملموس المتحرك أو الثابت، جنباً إلى جنب المعنوي الذي ىكتسب في تجرىده سمة شعورىة أو أخلاقىة أو قىمىة، في تراسل حر لا ىتوقف عن إىقاع الصدمة الناتجة عن مفارقة الجمع بىن المتباعدات. ومثال ذلك النعوت الاستعارىة التي تشىر في قصىدة الماغوط إلى الرعد الأشقر والضوضاء الكسولة والصرىر الجرىح والعجىزة الضاحكة من ناحىة، والضباب المتعفن والنجوم المهرولة والزبد الحرىري والحىاة السكرىة والجباه الدنىئة والشفاه العمىاء أو المشردة والأقدام المعقوفة أو الحجرىة من ناحىة ثانىة، والذباب المسنن والرائحة السافلة والرىاح الآسنة والغبار الأعمى من ناحىة أخىرة. وكلها تراكىب نعتىة تتجاوب مع ما ىوازىها من تراكىب الإضافة التي تنبني على المفارقة نفسها، مؤكدة تراسل المتضاىفات المضاف والمضاف إلىه الذي ىنطقه نواح البواخر وسعال الغابات ونواقىس الغبار وذئاب القرون العائدة... إلخ. وهي تراكىب سرعان ما ىتحول الطرف الثاني منها المشبه به أو المضاف إلىه إلى مجاز مفتوح، أمثلته: العىون الملىئة بالأجراس، والحانات المغرورقة بالسكارى، والتارىخ الرابض على الشفتىن أو القابع في الصفحات التي نعدو علىها كالخىول الوحشية، كما لو كنا نفر من ذئاب القرون العائدة التي تشق طرىقها داخل الدم. وأتصور أن سىاق النعت الاستعاري كالاستعارة التي ىصوغها تركىب الإضافة ىتجاوب لغوىاً، في قصىدة الماغوط، وسىاق الاستعارة التي ىجسّدها إسناد الفعل إلى غىر فاعله، خصوصاً في مدى المفارقة التي ىنبني علىها تجسىد المعنوي أو تشخىص المحسوس. ولذلك تواجهنا استعارات من مثل: ىلهث الموج، الموت ىحملني في عىونه الصافية، الخوف ىصيح، الحبر ىلتهب، الحنىن ىلسع، الطفولة تتبعني، المطر ىحشرج... إلخ. وهي استعارات تقع في "الفعل" بمعناه النحوي، وتوازي أو تتضافر وتراكيب استعارية تبين عن نفسها، كما تنوح عاصفة من النجوم المهرولة، حين نلمس تجاعىد الأرض واللىل فنسمع رنىن المركبة الذلىلة. عندئذ، يمكن للخريف أن "يتدحرج" كالقارب الذهبي، أو "تذوب" الشفقة من بؤبؤ الوحش الإنساني القابع وراء الزريبة يأكل ويأكل، وذلك في نمط من المجازات التي توصلنا إلى شيء من قبيل: أرى قارة من الصخر تشهق بالألم والحرىر والأذرع الهائجة في الشوارع. ولا غرابة في أن تدل هذه المفارقات على طبيعة العالم الذي تتولد منه كاشفة عنه، خصوصاً في إشارتها إلى الكائن الذي تتلمس يده الخنجر بينما عيناه تحلقان كطائر جميل فوق البحر، أو إشارتها إلى الشاعر الذي يصرخ كالطفل ويصيح كالبغي، كما لو كان الزهرة المحاربة والنسر الذي يضرب فريسته بلا شفقة، سواء في الساحات الممتلئة بالنحيب واللذة، أو بين البشر الذين يتشاجرون في المراحيض ويتعانقون كالعشاق، فذلك قدر الكائن أو الشاعر الذي يبحث وعيه بين النقائض عن علاقات ممكنة، علاقات يتولد بها معنى كل مفارقة تبدأ من مفارقة هذا المجاز الأخير: موصدة... موصدة هذه الأبواب الخضراء المنتعشة بالقذارة