من أبرز الأفلام الناجحة المعروضة الآن في الكثير من مدن العالم فيلم "بيرل هاربور"، وهو شريط أميركي جديد عن الحرب العالمية الثانية، وإن لم يكن الأول عن تلك الموقعة التي لا تزال تُعدّ أقسى هزيمة عسكرية منيت بها الولاياتالمتحدة إلى اليوم. ففي السابعة إلا ربعاً صباح السابع من كانون الأول ديسمبر 1941، هاجمت أسراب كثيفة من السلاح الجوي التابع للأمبراطورية اليابانية ميناء بيرل هاربور الأميركي في إحدى جزر هاواي، على موجات متوالية. وحين الانتهاء منه، بعد ساعات قليلة، كان تحول كتلة من اللهب العائم على الماء. مستودعات ومعسكرات ومرائب طيارات على الأرض، كانت أيضاً جزءاً من العملية التي نفذتها أكثر من 350 طائرة. بنتيجة الغارة، قتل أكثر من 2400 أميركي وجرح نحو ألف ودمرت سبع بواخر حربية كبيرة، وقضي على كل سلاح الجو الأميركي على الأرض. في المقابل، خسرت اليابان 30 طائرة وخمس غواصات صغيرة. بعد ستة أشهر، أبحرت حاملات الطائرات الأميركية نحو جزيرة ميدواي في المحيط الهادئ، حيث شنت طائراتها الغارة الأميركية الأولى على طوكيو، في عملية ناجحة كرد، على رغم تكبد سلاح الجو الأميركي خسائر جديدة، أرواحاً وعتاداً، بسبب نفاد الوقود خلال العودة، أو نتيجة المضادات النارية. حقائق اذا كنت تريد الحقائق، عليك بفيلم "تورا... تورا... تورا" 1970، إذ كان فيلماً كبيراً جداً في أوانه انطلق مشروعاً اميركياً - يابانياً مشتركاً. كانت الفكرة الأساسية تحقيق فيلمين منفصلين: واحد ينقل وجهة النظر الأميركية يخرجه المقبول تشارد فلايشر، والثاني وجهة النظر اليابانية ويتولاه المخرج الياباني الراحل أكيرا كوروساوا. لكن الأخير اكتشف مبكراً أن هوليوود تريد أن تنص عليه ما يفعل، فترك المشروع، وخلفه فيه توشيو ماسودا وكينجي فوكاسوكا، حين قررت هوليوود جمع الفيلمين في واحد، بلغت مدة عرضه 144 دقيقة. سبعون دقيقة منها خصصت لنقل وجهة النظر اليابانية على نحو غير عدائي، ضمن محاولة الفيلم أن يكون تاريخياً صحيحاً لا عملية عاطفية. ينقل "تورا..." التي تعني باليابانية "نمر..." الواقعة التاريخية من جانبيها الياباني والأميركي، وينجح في رصف الحقائق وتجسيدها على نسيج كبير من الأحداث وعناصر الانتاج. في سبيل ذلك، يسرد الأحداث المهمة التي أدت إلى الغارة اليابانية، وطريقة اتخاذ القرار لدى البحرية الأمبراطورية، وكيف فوجئ الأميركيون، على رغم تحذيرات مختلفة، بالغارة ثم كيف تكبدوا الخسائر من دون توقف، ساعات جعلت الميناء يبدو كتلة هائلة من النيران. في 183 دقيقة، يختار "بيرل هاربور" أن يسير على منوال مختلف عندما يدمج الحقيقة بالخيال، والواقع بالروائي. هدفه صوغ حكاية خيالية يحيكها على نسيج ما حدث. ونموذجه في هذا التوجه لا يبتعد أكثر من خمس سنوات، عندما انطلق فيلم "تايتانك" الذي صوّر ايضاً كارثة واقعية - ولو مختلفة - في مهمة زرع حكاية عاطفية تماماً وسط مآسي ركاب الباخرة الضخمة التي غرقت بعد ارتطام جبل الثلج بها. على صعيد "بيرل هاربور" - الفيلم، فذلك التطبيق لنموذج "تايتانك" قصد ابتكار قصة حب ثلاثية: راف بن أفلك وداني جوش هارتنت طياران في البحرية الأميركية وصديقان منذ الطفولة، وثمة تمهيد مُرضٍ لقوة الصداقة التي تربطهما. راف يقرر التطوّع للإشتراك في الحرب التي كانت حتى ذلك الحين دائرة في سماء أوروبا، بانضمامه الى القوات الجوية البريطانية. في في اليوم نفسه يتعرف إلى الممرضة ايفيلين كيت بكنسال، وبعد ساعات يمون وقع في حبها. صباح اليوم التالي، يركب القطار ويراها من خلف نافذته وقد جاءت لوداعه من دون أن تراه. يبتسم اذ أدرك أنها تحبه. بعد أشهر، يتناهى الى الجميع أنه مات في إحدى المواجهات، ويكون وقع الخبر شديداً على ايفلين وداني، لكن الاثنين ينساقان في علاقة عاطفية، اذ تصبح ايفلين كل شيء في حياة داني. عند هذا الحد، وبعد نحو ساعة من الفيلم، يعود راف الى الظهور... فقد أصيب وغرقت طائرته في اليم ، لكنه استطاع ان يطفو وأُنقذ وعولج في المستشفى. غني عن القول أن راف وجد أن المرأة التي أحب أصبحت ملكاً لأعز أصدقائه. يثور ويعكس خيبة أمله ويشتبك مع صديق العمر في شجار غير آبه بحقيقة أن كليهما، داني وايفلين، لم يتحابا الا بعدما اعتقدا أنه مات فعلاً. وفيما كل ذلك يحدث، ينتقل الفيلم في أكثر من موقع إلى التحضيرات اليابانية للمعركة. وفي صبيحة اليوم التالي للشجار الذي أنتهى بمصالحة داني وراف من دون حل لأزمتهما العاطفية، يفيقان على الأصوات الأولى للغارة اليابانية. هنا ينتقل الفيلم بأسره، تقريباً، الى وصف الغارة وتجسيدها: التحليق، القصف، اشتعال النيران، الانفجارات على الأرض، المآسي الصغيرة المتعددة، وبينها انقلاب باخرة على جانبها ومحاولة من بقي حياً من بحارتها النجاة من نيران الرشاشات اليابانية الحاصدة الأرواح. وبعد نصف ساعة من هذا الخليط الناجع في الدلالة إلى السبب الذي من أجله تنجح السينما الأميركية في اقتحام اهتمامات الشعوب الأخرى الثقافية والترفيهية، يكون بقي من عمر الفيلم نحو ساعة، يمضيها في متابعة قرار الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت الهجوم على طوكيو، مستفيداً من نجاة نحو ست حاملات طائرات وعزيمة طياريها في التطوّع لمهمة قد لا يعود أحد منها سالماً بسبب طول المسافة بين موقع انطلاق تلك الطائرات ووصولها الى طوكيو. راف وداني ينخرطان في هذه القوة... وأحدهما يموت في النهاية. وإذا كان تقصي الحقائق على الشاشة سيعود بنا إلى "تورا... تورا... تورا"، فإن متابعة قصة حب مشوقة هو من اختصاص فيلم فرد زنيمان "من هنا حتى الأبدية" المقتبس سنة 1953 عن رواية لجيمس جونز تصف قصة حب عاصفة تقع أحداثها في بيرل هاربور قبيل الغارة بين ضابط بيرت لانكاستر وزوجة جنرال ديبورا كير. فيلم، بدوره، يخلط بين الخيال والواقع ويستخدم مشاهد تسجيلية صوّرت خلال الغارة، لكن العلاقة العاطفية تبدو أقوى وأكثر أهمية مما يرد في فيلم مايكل باي "بيرل هاربور". انتقال هنا انتقال دائم بين قصة الحب وقصة الحرب، وهذا ليس المشكلة مطلقاً. المشكلة أن القصة العاطفية غير مثيرة في حد ذاتها، والمدة التي نتابعها فيها أكثر من نصف الفيلم هي تلك التي يبتعد فيها الشريط عن الإتيان بجديد. في الوقت نفسه، لا يعوض استخدام المخرج باي لقطات "كلوز أب" لوجهي بن أفلك وكيت بيكنسال خلال أحاديثهما، أو لوجهي جوش هارتنت وبيكنسال في المقابل، نقص الخبرة في مجال إشاعة أجواء عاطفية رومانسية - بكلمة أخرى حقيقية. باي الذي يقدم هنا رابع أفلامه بعد "اولاد سيئون" و"الصخرة" و"ارماغيدون"، لا يزال يعالج كل شيء على نمط من ليس لديه وقت للتوقف عند دقات القلوب، بل يريد تأسيسها مشهدياً، مكتفياً بما يستطيع أبطاله عكسه على الشاشة من مشاعر عاطفية. وقدرة أفلك وشريكيه في البطولة هناك دور رابع منفصل وضعيف الأثر لكوبا غودينغ مجتر من فيلمه السابق "رجال شرف" اذ يؤدي ثانية دور طباخ أسود يبحث عن فرصة لإثبات قدراته الحربية بالكاد تبلغ مستوى القبول. لكنها تغطس تحته كلما كان على أحدهم استخدام كليشيه او عبارة مطاطة خالية من بعد فاعل. ومن تجارب سابقة، فإن مشاهدين كثراً، خصوصاً بين الذكور، سيتململون مما يعتبرونه إضاعة لوقت ثمين وصولاً الى الغارة نفسها. في "تايتانك"، كان الدمج العاطفي على خلفية واقعية أمراً أكثر قبولاً، وبعض السبب كامن في أن السيناريو كانت لديه حرية اختيار اي قصة حب يريد تقديمها، وهو اختار قصة ذات بعد اجتماعي وطيد العاشق فقير، المعشوقة تعيش ثراء كاذباً، والطرف الثالث سيمنحها ثروته اذا استجابت حبه، لكنها لا تريد. هنا، وعبر سيناريو وضعه راندال والاس كتب "قلب شجاع" لمل غيبسون من قبل ، كان لابد من العودة إلى قصة حب ثلاثية الأطراف، كل من فيها جيد. قصة شاهدنا مثيلاً لها في السابق: الجندي الذي يعود من الماضي بعدما اعتقد الجميع أنه مات، ليجد أن حبيبته إما ارتبطت وإما تزوجت وإما استسلمت، وبعض هذه الأوضاع هو ما تحصل عليه من دون مفاجآت. ضعف القصة العاطفية لا يؤثر في العملية الفنية للدمج بين ذلك الجانب الرومانسي المزعوم والأحداث التاريخية البحت. بل وفق صانعو الفيلم في صياغة ناجحة لإنجاز الفيلم المنوي تقديمه، ليس فقط من حيث توقيت الانتقال بين الجانبين، بل ايضاً من حيث وضع الفيلم بأسره تحت تلك العباءة الكبيرة، بما يتطلبه ذلك من بذل كبير في مختلف ميادين العمل، درامياً وإنتاجياً وفنياً. تلك البواخر التي نراها تشتعل، وتلك الطائرات التي تقصفها، ليست كلها انتاجات تكنولوجية خالصة، بل هي حقيقية. صانعو الفيلم توجهوا الى متاحف طائرات واستأجروها، والعمال بنوا بواخر او الأجزاء الظاهرة منها على الأقل. لكن دمجاً آخر تم بين هذه المواد الفعلية والمؤثرات المشغولة على الكومبيوتر أكثرها استخداماً تصوير عشرات الطائرات اليابانية من الجو لتبدو كما لو أنها تعبر كاميرا سابحة في الفضاء بدورها. شيء آخر ينجح الفيلم فيه هو تكوين الصورة الجمالية الخاصة. فمدير التصوير جون شوارتزمان الذي عمل على فيلمي باي/ بروكهايمر "الصخرة" و"ارماغيدون" يمنح الفيلم طابع سينما الأربعينات، مستخدماً لهذا الغرض إضاءة قوية وكثيرة المصادر بحسب موقع المشهد وألواناً داكنة للملابس والديكور. في المشاهد اللاحقة، عندما يصبح لزاماً تصوير الفوضى على الأرض، الناتجة عن القصف وهرع الناس منه في كل اتجاه، او لتنفيذ أمر ما، تتحول الكاميرا محمولة بتأثير فاعل، وإن كان يختلف عن ذاك الذي يخلفه "انقاذ المجند رايان" أو "الخيط الأحمر الرفيع"، فيلما ستيفن سبيلبرغ وترنس ماليك الحربيان من نوع مختلف ايضاً تبعاً لأسلوب العمل عليهما. "انقاذ المجند رايان" أراد أن ينقل هلع الحرب، فعمد الى مشاهد دموية يكشفها أمام عين المشاهد التي تعبر عنه الكاميرا المحمولة، و"الخيط الأحمر الرفيع" مال الى الفن أكثر منه الى المواجهةو ولو أن الكاميرا بقيت محمولة وفي مشاهد معينة معبّرة ايضاً عن عين المشاهد، كأنه حاضر.