العلم الإسرائيلي كان وراء الرئيس جورج بوش حين وقف يلقي كلمته لمناسبة مرور ثلاثة أشهر على حادثة نيويورك المروعة. هل كان ذلك صدفة ناتجة من أن ترتيب الأعلام فرض وجود العلم الإسرائيلي في ذلك المكان المباشر أمام الكاميرا؟ على الغالب ليس هناك صدفة في أي شيء يحدث هذه الأيام. وفي وقت تريد فيه اسرائيل أن تبدي الدعم بوصفها الصديق الأول لأميركا، فإن هناك من الأصدقاء المسؤولين أولئك الحريصون على ترجمة ذلك في كل مناسبة ممكنة. مناسبة مثل هذا الموقف العاطفي والسياسي الخاص لا يمكن أن تفوت. ومع أن أكثر من دولة عربية أعلنت تعاطفها مع الولاياتالمتحدة ومشاركتها الحملة على الإرهاب، الا أننا لا نملك من يؤيدنا ويتعاطف معنا ويضع علماً عربياً قريباً من موقع رئيس الدولة الكبرى. ليست هناك من علامة تعجب هنا. وفوق كل ذلك، ليس لدينا ايضاً سينما. المشكلة هي تحديداً أن السينما إعلام وثقافة ومن دونها نبدو بلا إعلام وبلا ثقافة. لا سينما هناك أفلام - لكن لا سينما، وبالتالي ليست هناك صورة متطورة تتحدث الى العالم. في الحقيقة من دون السينما... ليس لدينا اي رأي. العام 2001 انتهى او يكاد، والمسؤولون عندنا يبحثون عن الكيفية التي يمكن معها ترميم الصورة العربية عالمياً، تلك التي نسفها أسامة بن لادن. يبحثون في كل الأشكال، في كل الصيغ ويتحدثون عن كتب، اعلانات، محطات تلفزيونية، منشورات، دعوات، مؤتمرات، دراسات جامعية... لكن لا أحد يتحدث عن السينما. التاريخ وحده سيحفظ أن نقاد السينما العرب، على اختلاف توجهاتهم، كرروا دائماً الحاجة الى سينما تعكس عالمنا ثقافياً وحضارياً وواقعياً. وحدهم الذين دائماً كتبوا عن الحاجة الى سينما قويّة. وكل ما تتطلبه كي تكون قويّة هو إيمان المسؤولين بها ودعمهم لها وإطلاقهم المواهب الموضوعة في الثلاجات. لكن أحداً من المسؤولين في الدول المنتجة للأفلام، لا يقرأ النقد والنقاد، وفي المرات القليلة التي يقرأ - او يسمع فيها - بمثل هذه المطالب يهز رأسه موافقاً ثم ينصرف الى متابعة أمور أجدى ... بعض هذه الأمور أوصلنا الى ما نحن عليه. هل هي صدفة أن يحتل العلم الإسرائيلي مكاناً بارزاً في السياسة الأميركية في الوقت الذي تتضعضع الحياة السينمائية في العالم العربي؟ لا. "كمشة" من الأفلام ذات التميّز المحدود هي كل ما يمكن استخراجه من باطن هذا العام في كل من سورية ولبنان وفلسطين ومصر وليبيا والأردن والعراق والجزائر وتونس والمغرب، وهي الدول التي أنتجت افلاماً من قبل وليس لديها موانع ظاهرة تحول دون أن تنتج المزيد. صحيح أن بعضها غارق في متاعب أهلية الجزائر وبعضها مهدد بالزوال فلسطين لكن هل النية موجودة أساساً في اي من الدول المذكورة؟ آخرون بلا ريب سيكتبون عن السينما العربية تفصيلياً، وقد تأتي الصورة أزهى قليلاً مما تعكسها هذه الكلمات. فيلم جيد من هنا وآخر لا بأس به من هناك. مخرج عائد ومخرج لا يتوقف وثالث يحضّر منذ سنوات ولا يبدأ. كل ذلك يشكل نواة الصحراء الجدباء ولا يبرهن على أن الأمور جيدة، او حتى قريبة من جيدة. تجربة قندهار عالمياً، شهد العام 2001 استمرار السعي لاستغلال كل وضع يمكن انجاز نجاح ما منه. لكن هناك استثناءات: "رسالة من قندهار" لمحسن مخملباف ايران لم يُصنع تعليقاً على أحداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر وما تبعها، لكن الفيلم برهان آخر على السباق الذي تربحه السينما غالباً حين تنطلق لتعلق على أحوال العصر او تتقدم لبحث مشاغله. في المبدأ، وجود فيلم يبحث في وضع المرأة الأفغانية في هذه الظروف، ضربة تجارية جيدة. في التطبيق، لم يتحمّس الأميركيون لمشاهدة هذا الفيلم حين عرض على شاشاتهم معتبرين أنهم اكتفوا من مواقف التعاطف مع الثقافات الأخرى ولو كانت انتقادية. في الحقيقة، إثر الحادثة الرهيبة أُلغيت عروض ايرانية عدة كانت جمعت للعرض في مهرجان خاص بها في سان فرنسيسكو. ما حدث في العقل الغربي نتيجة الحادث أعمق مما يمكن هذا العام احتواءه. سنرى الملامح الأولى من الشعور بالتباعد والاكتفاء الذي سيكنّه الغربيون تجاه الأفلام الآتية من العالم الإسلامي والعالم الثالث على نحو عام. قبل الحادثة، كان هناك ذلك الفضول المشبع بالاحترام والتقدير والرغبة في احتواء أفلام يدركون أنها تُنجز في ظروف صعبة مادية ورقابية. بعدها سحب العالم الغربي يده من بين أنياب ما بدا تمساحاً شرساً مستعداً لأن يقضم، ولا فرق بين تمساح وآخر... كلها في النهاية متوحشة. "رسالة من قندهار" كان واحداً من أفلام ايرانية قليلة خرجت هذا العام الى العلن مقارنة مع عدد الأفلام الايرانية البارزة التي طرحت عالمياً في العام الماضي. وهو ليس النتيجة التقنية المهمة التي يتطلع اليها النقد من مخرج أبدع سابقاً في مواضيع مختلفة "بساط" ربما أفضلها. على ذلك، ان صعوبة تصوير المادة التي بين يدي مخملباف واحدة من أهم المعوقات التي واجهته في حياته المهنية. "أ بي سي أفريقيا" لعباس كياروستامي كان فيلماً تسجيلياً من المفترض به أن يعالج موضوع انتشار الأيدز في القارة السوداء، لكن كياروستامي كان فرحاً بالمهمة التي أوكلتها اليه المنظمة المنبثقة من الأممالمتحدة لدرجة أنه خصّ نفسه بالمادة جاعلاً اياها تتحدث عن تجربته في تصوير الموضوع المؤلم. أفضل فيلم إيراني هذا العام هو "باران" لماجد مجيدي الذي تناول موضوع المهاجرين الأفغان في إيران. خلال الأعوام القليلة الماضية ازداد تناول بعض المخرجين الإيرانيين موضوع الأقليات غير الفارسية في ايران. سميرة مخملباف تناولت الأكراد في فيلمها "الألواح السود" وبهمان غوبادي تناول الأكراد ايضاً في "زمن الجياد المترنحة" وكلاهما بهدف طرح المشكلة علناً. "جمعة" لحسّان يكتبانه انفرد بتناول موضوع الأفغان المهاجرين عبر قصة عامل شاب يريد الزواج من ابنة صاحب المحل، لكن ما يمنعه كونه غريباً يرفض المجتمع الإيراني فكرة الاختلاط اجتماعياً به. "باران" هذا العام يمنح مشاهديه بعداً آخر في صميم المسألة متناولاً عمال البناء الأفغان المهاجرين ومسلطاً الضوء على شاب منهم اكتشف أن الفتى الذي احتل مكانه في مقهى العمّال وفرض عليه العمل في الأشغال الشاقة ليس سوى فتاة أفغانية متنكرة تعمل لإعالة والدها المصاب في حادثة. المسافة التي يقطعها الشاب الأفغاني لمساعدة الفتاة، التي لن يقترب منها تبعاً للتقاليد، تكشف عن بعد إنساني يهز الذوات التي اعتادت سبلاً مختلفة في النظر الى المشكلات المشابهة من بينها إغماض العين او الاكتفاء بالدعاء لإغاثة المحتاجين!. "باران" يعصر القلب من ألم معاناة ابطاله. ألم صامت يعبّر عنه ماجد بأسلوب تقني جيد بعيداً من الكاميرا المحمولة والمهتزة بدافع المزيد من الواقعية. أفضل عشرة للعام "باران" هو أحد أفضل وأهم عشرة أفلام شاهدناها هذا العام. الأفلام الأخرى هي من دون ترتيب: - "سفر الرؤيا الآن ... من جديد" لفرنسيس فورد كوبولا الولاياتالمتحدة النظرة الأعمق، من بين كل ما حققته هوليوود من أفلام، عن الحرب الفييتنامية. ملحمة أنجزها المخرج قبل 22 سنة فبدت مذهلة. أضاف اليها هذا العام 40 دقيقة أخرى فازدادت قوّة وعمقاً ولا يزال أفضل فيلم مثله مارلون براندو منذ ذلك الحين. - "من يعلم" لجاك ريفيت فرنسا المخرج الآتي من البنية الأساسية للموجة الفرنسية الجديدة يعود في أحد أفضل أفلامه لليوم. مرة أخرى البساطة هي سمة ما يعرضه، لكنها بساطة في الظاهر فقط: ممثلة جين باليبار تعود الى باريس بعد غياب وتحاول لملمة حياتها العاطفية المهجورة متعرضة في سبيل ذلك لأوجاع الأمس. - "أرض لا أحد" بوسنيا/ فرنسا قيمة هذا الفيلم ليست في انفراده عن المتوقع، بل في إنجازه وارتباطه بالمبدئي من شروط التنفيذ من دون أن يضعف ذلك الرسالة التي يحتويها الفيلم او يضر بها: بوسني وصربي يجدان نفسيهما في موقع واحد يتوسط الجانبين. بوسني آخر مصاب وملقى فوق عبوّة ناسفة لا يمكن تحريكه. يتضمن الفيلم نقداً لاذعاً للأمم المتحدة التي تترك الجريح يرمز للبلد ينزف حتى الى ما بعد انتهاء الحرب. - "العهد" لشون بن الولاياتالمتحدة من يشك في أن جاك نيكولسون فقد ينبوع موهبته وبدا متكرراً في الآونة الأخيرة لا عليه سوى مشاهدته في "العهد" ليبدّل رأيه ويعيد ثقته. لكن نيكولسون ليس سوى واحد من أفضل عناصر هذا الفيلم. القصة ذاتها وما تتيحه من شجون وإخراج شون بن اللامع والمنفرد، عنصران آخران: تحر واثق من الفخ المحكم الذي ينصبه لقاتل الأطفال الى درجة أنه حين تفشل خطته في القبض عليه لأسباب لا علاقة له بها ينحدر خاسراً حب كل الذين بقوا حوله واحترامهم. - "أغنية لمارتن" لبيلي أوغوست الدنمارك هناك فيلمان هذا العام تطرّقا الى موضوع خسارة الذاكرة بفعل موت خلاياها. هذا أفضلها الثاني هو "إريس" لريتشارد آير ولا بأس به. هنا امرأة في الأربعينات من عمرها تتزوج من قائد اوركسترا، وبعد حين يبدأ بفقد ذاكرته ترى واقعياً مراحل ذلك حتى ليبدو الفيلم دراسة طبية في بعض مراحله. بالتالي تصبح حبيسة حبها لزوجها وحبيسة حالته التي ترهقها وتضع على كتفيها مسؤولية كبيرة. أفضل تمثيل من وجهين غير معروفين عالمياً سيفن وولتر وفيفيكا شلدول. - "جواز سفر" لبيتر غوثار المجر ما الذي يدفع بعض المخرجين لإجادة أعمالهم مرة تلو المرة؟ فيلم بيتر غوثار الجديد يجيب عن هذا السؤال موضحاً أن كل ما يتطلبه المخرج لتقديم عمل جيد هو الحفاظ على مفردات لغته السينمائية التي وصل الى القمة بسببها. المشكلة في النقد الغربي الذي بات يسقط مثل هذه الأفلام من اعتباره لمصلحة البرّاق والأكثر تنوّعاً والأكبر حجماً انتاجياً. مشكلة امرأة روسية تزوّجت، في بحثها عن السعادة، من فلاح مجري. وهذا بعد ولادة ابنتهما يتحوّل الى العنف وادمان الخمر. واقعية غوثار وهو مخرج دقيق في عمله أمّ السينما منذ الستينات المجيدة مؤثرة ونهاية الفيلم التي لم تكن ما أراد المخرج اصلاً تضمينها تسحب المشكلة الفردية في بانوراما للمدينة بأسرها. - "ذكاء اصطناعي" الولاياتالمتحدة زواج ستيفن سبيلبرغ بستانلي كوبريك، أنتج هذا الفيلم. نظرة داكنة اخرى الى المستقبل من خلال بحث روبوت صبي عن "الأم" محاولاً إلغاء فراغها العاطفي في حياته. رحلته تقوده الى ما بعد فناء العالم من البشر والنهاية التي أثارت منتقدين عدة لها تراكمات من المعاني الجميلة والأساسية. هذا سبيلبرغ جديد ونادر. - "اميلي من مونمارتر" برهان آخر على أن السينما الفرنسية انتعشت كما لم تفعل منذ سنوات. المخرج جان بيار - جينو يقدم كوميديا عاطفية مشبعة بخيال فانتازي غريب. أودري توتو في دور امرأة شابة تقرر التدخل في شؤون المحيطين بها لكن فقط من باب حل مشكلاتهم واسعادهم، علماً أن كل ما تملك في هذا السبيل هو رغبتها العارمة. يحيط جينو كل ذلك بسيل فضفاض، لكنه جيد التوظيف، من الخدع والمؤثرات التي تعكس رحب الخيال. فيلم طموح وكوميديا غير مطروقة. - "الكشافون" تحفة صغيرة ممتازة من المخرج البريطاني كن لوتش تتناول حياة العاملين على سكك حديد بريطانيا في المرحلة التي شهدت تحويل هذا القطاع من العام الى الخاص وما تلا ذلك من انحدار على جانبي حياة الأفراد، الخاصة والعملية. كعادة أفلام لوتش هناك ذلك الأسلوب الكاشف على تمهّل، لكن لوتش يضيف هنا ألماً الى ذلك الاستعراض الاجتماعي المبهر والمقتصد. ولا يزال لدينا فيلمان يمكن معاينتهما في هذا النطاق: "علي" لمايكل مان و"سيد الخواتم" لبيتر جاكسون. الأول بيوغرافي من مخرج عُرف بجدية المعالجة التي يعمد اليها "الداخلي"، "آخر الموهيكانز" وذلك مهما بدا الخارج جماهيرياً، والثاني سينمائي نيوزلندي تصدى لواحدة من أصعب روايات الخيال الفانتازي وأنجز ثلاثة أفلام على مدى سنتين من العمل المتواصل أولها يعرض، كما حال "علي" في الأسبوعين الأخيرين من هذا العام ويمتدان الى العام المقبل بنجاح متوقع على الصعيدين الفني والجماهيري. موسم الجوائز معظم الأفلام الواردة أعلاه أخفقت في أن تجد طريقها الى الجوائز ومنصات الاهتمام العالمية أسوة بعدد كبير من الأفلام المحتفى بها هذا العام. ذلك أن لجان التحكيم استمرت على منوال اعتمدته قبل سنوات ومفاده "تسييس" الجوائز اما لاعتبارات "وطنية" أفلام بحسب بلدانها وثقافاتها وإما لاعتبارات تتعلق بتحديث المعايير السابقة التي كانت الجوائز الدولية تمنح على أساسها. فيلم "تهريب" لستيفن سودربيرغ خطف جائزتي "غولدن غلوب" و"الأوسكار": أربع قصص تتداخل عن المعركة الخاسرة للقانون ضد تجارة المخدرات وتهريبها. سودربيرغ يلقي على الموضوع نظرة تتعامل مع جوانب وشخصيات عدة تخوض تلك المعركة على هذا الجانب او ذاك. لكن الفيلم يخفق في توفير نهاية بحجم الاطروحات السابقة. في مهرجان برلين خرج فيلم "حميمية" لباتريس شيرو بالجائزة الكبرى. فيلم فرنسي ناطق بالإنكليزية صوّر في لندن عن إحدى قصص الكاتب الباكستاني الأصل حنيف قريشي يشتغل على موضوع رجل يبحث في تاريخ عشيقته الغامضة. شيرو يزيّن الفيلم بمشاهد جنسية أقوى من المعتاد ما اعتبر قدراً من الإسفاف، بصرف النظر عن النيّات الحسنة. حين جاء موعد مهرجان "كان" السينمائي، خطفت الأفلام الفرنسية مرة ثانية الاهتمام. "من يعلم؟" لجاك ريفيت و"في مديح الحب" لجان - لوك غودار أثارا اهتماماً واسعاً، لكن "استاذة البيانو" وهو انتاج فرنسي - بلجيكي من اخراج ميشيل هنيكه هو الذي فاز بالسعفة الذهبية: ايزابيل أوبير بارعة في تقمّص دور المرأة المركبة التي تبدو نظامية ومسيطرة على مقدرات حياتها، لكنها في الحقيقة أرق من أن تواجه أول تحد جنسي في حياتها المتقدمة. الفيلم حاد في معالجته ويقف على الحافة بين ادعاء التحليل النفسي وبين القدرة على إثارة فضول مشاهديه. وفي "البندقية" فإن الفيلم الرابح كان هندياً هو "عرس موسم المطر". ميرا نير قدّمت ميلودراما هندية، بحسب أفضل التقاليد الهندية في هذا المجال. كل ما في الأمر أنها رفعت قليلاً من موازين تلك الميلودراما وعناصرها حيث بدت كما لو أنها اقتبست منها اللغة العالمية التي قد تسعد المشاهد وتجذبه اينما كان. بعض الشغل على الشخصيات الجانبية تقطعه مشاهد رقص وغناء وصولاً الى حفلة العرس التي كلها رقص وغناء! لكن ما أفرزته هذه المهرجانات الرئيسة أيضاً، هو وصول المحاولات الحثيثة لخلق "مهرجانات جديدة" من تلك القديمة القائمة الى أعلى حد بلغته للآن. المهمة صعبة ومفادها أن عمر كل من المهرجانات العتيدة الثلاثة برلين، كان، "فانيسيا"، تجاوز الآن نصف قرن لكن ذلك لا يعني أنه يشيخ. ليس فقط أن عناصر بشرية جديدة دخلت إطارات العمل في كل من هذه المهرجانات فقط، بل هناك ايضاً محاولات مستميتة لتحويل كل منها الى "المهرجان" الأول، ذلك الذي يسعى اليه أكبر عدد من المواهب الموجودة، والذي يعكس بانوراما شاملة لأنواع العمل السينمائي وحالاته والذي يجلب اليه أكبر عدد من نجوم السينما. على هذا الصعيد، لا يزال من الصعب إزاحة "كان" من مكانه المتصدر والذي يراه كثر هالة أكبر حجماً من الحقيقة. "البندقية" يبلور ثانياً من حيث أهمية الجهد المبذول في نطاق ايجاد الأفلام الفنية اما مستواها فهو أمر آخر وبرلين تراجع الى المركز الثالث من الثاني في العام الماضي. في عالم متشابك الغايات لا بد من التساؤل عما اذا كانت المهرجانات وبلغت السنوية منها هذا العام 600 مهرجان ونيّفاً وخصوصاً الكبيرة حجماً تخدم الصناعة والتجارة أكثر مما تخدم الموهبة والفن والمشاهد الباحث عن قيمتهما. والواضح أن خروج فيلم ما بجائزة أولى او ثانية من اي من هذه المهرجانات هو - عملياً - ما يستند اليه في حملته الإعلامية والتجارية لاحقاً. واذا كان هذا حقاً مشروعاً ومبرراً، الا أن الهالات الثقافية التي كان مثل هذا الفوز يخلقها حتى خمس عشرة سنة مضت تضمحل بفعل التأكيد على الهوية التجارية للعمل الفني ومحاولة الإفادة منها الى أقصى حد. اليوم، الأفلام الفنية لديها سوق يتعرض للمد والجذب دوما. والمساحة المتاحة لها تضيق او تتسع، بحسب مقدرة كل فيلم على حدة. ذهبت الأيام عند ما كان اسم المخرج وحده كفيلاً بحفر قناته الترويجية بين المشاهدين في العالم. سنة أميركية وحتى هذه المساحات المحدودة تعرّضت في الحادي عشر من ايلول سبتمبر، وكما ورد ذكره أعلاه، الى النسف. اما أميركياً، فإن العام السينمائي نفسه بدأ على نحو مثير للاهتمام اذا نظرنا الى الدلائل التي نضحت بها الهجومات على واشنطنونيويورك. في النصف الأول من العام قدّمت هوليوود "بيرل هاربور" لجيل لا يعلم شيئاً عن عنف الواقعة التي تمثلت في هجوم سلاح الجو الياباني على الميناء الحربي الأميركي في السابع من كانون الأول ديسمبر سنة 1941 وما نتج منه من تدمير شامل طال معظم حاملات الطائرات والبواخر الحربية التي كانت راسية هناك ومعظم المنشآت العسكرية على الأرض. الهجوم الذي جر قدم اميركا الى الحرب العالمية الثانية. وهذه الكلمات تبدو كما لو كانت السيناريو نفسه الذي وقع في الحادي عشر من أيلول سنة 2001، مع اختلاف العدو فقط. الهجوم على ناطحتي السحاب جر قدم اميركا الى حرب جديدة تختلف كثيراً عن تلك الحرب السابقة انما تشابهها في المنطلقات: هجوم مباغت، رد فعل ماحق. انطلق "بيرل هاربور" لمايكل باي كفيلم الصيف الأول. انتاج ضخم كلف 140 مليون دولار بمنجزات تقنية عالية وطموحات عملاقة، لكن في غضون أسابيع قليلة بدا أنه لن يكون "تايتانك" آخر في سوق الأفلام، على ذلك استطاع تحقيق النجاح التجاري الكبير الذي كان يخشى غيابه. في أعقابه خرجت أفلام عدة ذات حجم إنتاجي لا بأس به لكن قليلاً منها استطاع إنجاز المهمة التجارية الملقاة على عاتقه: "هانيبال"، "خياط باناما"، "من بعيد جاء العنكبوت"، "كوكب القردة"، "تطوّر"، "لارا كروفت: غازية التابوت" الخ... حضّر نفسك لرامبو لم يحقق أي من هذه الأفلام المعادلة المطلوبة للفيلم الأميركي التجاري: لم يكن تجارياً ولم يكن فنياً. بعضها كان منفذاً جيداً والبعض الآخر لم يتمتع حتى بهذه الصفة. الفيلم الوحيد الذي نافس "بيرل هاربور" في مردوداته التجارية كان "شرك" الكرتوني. والسينما الكرتونية هذا العام لمعت بقوّة. "شرك" كان أحد بضعة أفلام سجلت إقبالاً على الصعيدين الفني والجماهيري. أهم الأفلام الأخرى "اتلانتيس" و"وحوش" الحالي. وكون "شرك" من انتاج استديو "دريمووركس" خلق منافسة صعبة على قيادة سينما الرسوم المتحركة بينها وبين شركة وولت ديزني التي تحتفل هذا العام مرور 100 سنة على ميلادها. في النهاية ستتلوّن الكثير من ملامح العام المقبل بما حدث في النصف الثاني من هذا العام. منذ الان فإن طوفاناً من الأفلام ذات الحس الوطني بات ملموساً: "لعبة تجسس"، "سقوط الصقر الأسود"، "خلف خطوط العدو" وأرنولد شوارزنيغر يحاول حث يونيفرسال على عرض "ضرر جماعي" يدور على عملية إرهابية. لكن بينما ينشغل شوارزنيغر في حث هوليوود على عرض فيلمه قبل أن يأكله النسيان، يبني سيلفستر ستالون عضلاته مرة أخرى ليعود في "رامبو 4" حيث "سيلهب أقفية جنود طالبان" بحسب ما ذكرت مجلة "هوليوود ريبورتر" في عدد أخير. وكان رامبو في الجزء الثالث هو ذاته الذي ساعد الثوار الأفغان على محاربة الأشرار الشيوعيين. سيكون من المثير مشاهدة كيف سيعود متجنباً إثارة هذا الجانب الساخر من المسألة الأفغانية بأسرها.