مهرجان صبيا.. عروض ترفيهية فريدة في "شتاء جازان"    سوق بيش الأسبوعي.. وجهة عشاق الأجواء الشعبية    اكتشاف مخلوق بحري بحجم ملعبي كرة سلة    وظائف للأذكياء فقط في إدارة ترمب !    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    زيلينسكي يقول إن "الحرب ستنتهي بشكل أسرع" في ظل رئاسة ترامب    ترامب ينشئ مجلسا وطنيا للطاقة ويعين دوغ بورغوم رئيسا له    إسبانيا تفوز على الدنمارك وتتأهل لدور الثمانية بدوري أمم أوروبا    "أخضر الشاطئية" يتغلب على ألمانيا في نيوم    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    منع استخدام رموز وشعارات الدول تجارياً في السعودية    نيوم: بدء تخطيط وتصميم أحياء «ذا لاين» في أوائل 2025    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    نجاح قياس الأوزان لجميع الملاكمين واكتمال الاستعدادات النهائية لانطلاق نزال "Latino Night" ..    لجنة وزارية سعودية - فرنسية تناقش منجزات العلا    اختتام مزاد نادي الصقور السعودي 2024 بمبيعات قاربت 6 ملايين ريال    "الشؤون الإسلامية" تختتم مسابقة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في غانا    "سدايا" تنشر ورقتين علميتين في المؤتمر العالمي (emnlp)    منتخب مصر يعلن إصابة لاعبه محمد شحاتة    الأمير محمد بن سلمان.. رؤية شاملة لبناء دولة حديثة    ابن جفين: فخورون بما يقدمه اتحاد الفروسية    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    رتال تختتم مشاركتها كراعٍ ماسي في سيتي سكيب بإطلاق حزمة مشاريع نوعية بقيمة 14 مليار ريال وتوقيع 11 اتفاقية    بعثة الاخضر تصل الى جاكرتا استعداداً لمواجهة اندونيسيا    القوات الجوية السعودية تختتم مشاركتها في معرض البحرين الدولي للطيران    جدة تشهد أفراح آل قسقس وآل جلمود    إحباط تهريب 380 كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    القمر البدر العملاق الأخير    تركي آل الشيخ يعلن القائمة الطويلة للأعمال المنافسة في جائزة القلم الذهبي    قادة الصحة العالمية يجتمعون في المملكة لضمان بقاء "الكنز الثمين" للمضادات الحيوية للأجيال القادمة    المملكة تواصل توزيع الكفالات الشهرية على فئة الأيتام في الأردن    فريق قوة عطاء التطوعي ينظم مبادرة "خليك صحي" للتوعية بمرض السكري بالشراكة مع فريق الوعي الصحي    خطيب المسجد النبوي : سنة الله في الخلق أنه لا يغير حال قوم إلا بسبب من أنفسهم    ميقاتي: أولوية حكومة لبنان هي تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701    خطيب المسجد الحرام: من ملك لسانه فقد ملك أمرَه وأحكمَه وضبَطَه    "الخبر" تستضيف خبراء لحماية الأطفال من العنف.. الأحد    ليس الدماغ فقط.. حتى البنكرياس يتذكر !    قتل أسرة وحرق منزلها    أمريكا.. اكتشاف حالات جديدة مصابة بعدوى الإشريكية القولونية    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    الخرائط الذهنية    «قمة الرياض».. إرادة عربية إسلامية لتغيير المشهد الدولي    في أي مرتبة أنتم؟    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنظيم دروسها العلمية بثلاث مُحافظات بالمنطقة    باندورا وعلبة الأمل    مدارسنا بين سندان التمكين ومطرقة التميز    لماذا فاز ترمب؟    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آل بوش وايديولوجيا اليمين الأميركي . أساتذة دبليو الايديولوجيون : المحافظة العطوفة 7
نشر في الحياة يوم 01 - 06 - 2001

} بعد ان تناولت الحلقة السابقة طريق جورج دبليو الى الرئاسة، هنا حلقة أخرى:
في 1998 قرأ دبليو، وهو يستعد لدورته الثانية في الحاكمية، كتاباً أثار اعجابه فوصفه بالعمل الأكثر تأثيراً فيه "بعد التوراة". وما لبث ان دعا صاحبه مايرون ماغنيت، ابن السادسة والخمسين اليوم، فتعرّف اليه ووثّق الصلة به. مذّاك لم يُلق الرئيس الحالي خطبة الا ضمّنها فكرة أو أكثر مما كتبه ماغنيت في "الحلم والكابوس"، او مما قاله له شخصياً.
وحاجة دبليو الى الأفكار والمفكرين هي ما لا يُمارى فيه. هذا، على الاقل، ما توحي به آراؤه التي انتشرت كالبرق مع تسميته مرشحاً للرئاسة، ثم مع انتخابه. ومأثوراته التي ذكّرت كثيرين بنائب أبيه، دان كويل، برهان لا ينضب. فهو حين أفتى في الاقتصاد اعتبر أن "معظم وارداتنا تأتي من الخارج"، ورأى في علم الكون أنه "آن الأوان للجنس البشري كي يدخل النظام الشمسي"، ولم تنجُ منه البيئة فقال إن "التلوّث ليس ما يؤذي البيئة. ما يفعل ذلك نقص النظافة في هوائنا ومائنا". لكنه حين ارتكب الجغرافيا لحظ أن "نيجيريا قارة مهمة".
والعالم كبير للأسف فيما دماغ دبليو دماغ دجاجة. وهذا ما يلحّ على تحصيل ثقافي لم يتسنّ له من قبل او لم يحظ باهتمامه. فدارسه بيل مينوتاغليو سجّل، في كتابه "الابن الأول"، ان ما من أحد في العائلة ]عائلته[ استطاع ان يقول "ما اذا كان هناك أي عمل محدد في الفن أو الأدب أو الموسيقى، ولو مجرد نغم أو ميلوديا، هزّه عميقاً في روحه". وهو نفسه، وفي احدى مناظراته، أكد أن "الفيلسوف السياسي" الذي ترك الأثر الاكبر عليه كان يسوع الناصري. واذا صح هذا ولم يكن غرضه مخاطبة المؤمنين، لم يكمن السبب في معرفة دبليو بالمسيح بل، على الأرجح، في جهله بالفلاسفة. فدبليو، بعد كل حساب، من أعيته تسمية ثلاثة قادة من اصل اربعة في بلدان العالم الكبرى والمؤثّرة.
مايرون ماغنيت
لكن الجهل ليس نتاج نقص الثقافة فحسب. فهو، بالقدر نفسه، نتاج ثقافة كالتي يزوّده بها "الغورو" مايرون ماغنيت. فالاخير قدّم للرئيس "مسحاً خرائطياً" للامور الكبرى، بحسب تعبير كارل روف مستشار دبليو السياسي. وغدت آراؤه في خصوص العائلة والرفاه والمساواة العرقية مراجع يدين بها المحافظون على جانبي الاطلسي. وقد رأى ماغنيت، في مقابلة أجرتها معه "الأوبزرفر" البريطانية مؤخراً، ان الاخطاء التي ارتكبت في بريطانيا والولايات المتحدة انما تنبع من رغبة في اشتقاق السياسات الاجتماعية من معايير المساواة العرقية بدل التقاليد. ومستخدماً إدموند بيرك من دون اي تعديل يستلزمه مرور القرون، لاحظ التضحية "بجميع القيم التقليدية لثقافتنا" تحت وطأة الصواب السياسي.
ففي بريطانيا، مثلاً، يتعرض التقليد لتهديم يمتد من المسّ بمجلس اللوردات الى التطاول على "الحق" في صيد الثعالب باسم الحداثة. وهذا، عنده، خطأ يرقى الى فقدان الهوية، فلا يعادله الا تكييف بريطانيا تبعاً لأذواق الأجانب بدل فرض قيمها القومية عليهم. وهكذا لا يعمل تقرير كتقرير ماكفرسون الشهير، الذي اوصى بضرورة محاصرة العنصرية منهجياً في الشرطة والتعليم، الا على تشويه التعليم وتصديع الشرطة كأداة حافظة للأمن والتقاليد في آن إذ يستهلكها، والحال هذه، تبرئة نفسها من تهمة العنصرية.
وماغنيت، بحسب ادعائه، اول من ابتكر "المحافظة العطوفة" من منصته في رئاسة تحرير مجلة "سيتي جورنال" الاميركية التي يعتبرها الليبراليون صوتاً استفزازياً ل"معهد مانهاتن" المحافظ. لكن الاهم كتابه الذي دوّخ دبليو. ف "الحلم والكابوس" الذي يقال انه في موقع القلب من تشكيل سياسات الرئيس الاجتماعية، زوّده "عنصرَ الرؤية" الذي افتقر اليه أبوه. أما الأفكار التي يحتويها فتدور على الطعن بالستينات وقيمها التي أفضت الى "تداعيات خطيرة". الا ان ماغنيت، على عكس محافظين كثر، لا يردّ العطل الى قصور الفقراء وتقصيرهم، بل الى مواقف الطبقات الوسطى كما تبلورت في ذاك العقد المرذول. وهو استطراداً لا يساجل اليسار، عاكساً بهذا انتهاء الحرب الباردة وضمور الشيوعيات والتحول من الاقتصادي الى الاجتماعي والقيمي، بل يركّز محاجّته على الليبرالية بنزعاتها الفردي منها والمتعوي. ذلك ان الثقافة التي تصوّر من لا يملكون كضحايا ثقافة اغنياء ستينيين. وهذا ما يتأكد له في تشديدها على الفردية الراديكالية والتحرر الشخصي، وهما من كماليات الفقراء ومن خارج نظرتهم الى العالم المحيط. لكن التشديد هذا ضارّ بهما ضرره بالأمة ككل: فهو ينزع "القيمة عن كل الأشياء التي هي شرط الخروج من الفقر، كالعمل الشاق والمسؤولية الشخصية والزواج والاهتمام بالعائلة والبقاء في المدرسة". وهو يبالغ في تثمين الامور "التي اذا أخذ بها الفقير بقي فقيراً الى الأبد، مثل تناول المخدرات وانجاب اطفال خارج الزواج والرسوب في المدرسة وعدم التعاطي بجدية مع العمل". اما الجهود التي بُذلت لكسر حلقة الفقر، كبرامج الرفاه والتدريب المهني ونظام الكوتا للاقليات، فرافقها الفشل لأن الحكومة لم تفهم ان الفقراء المستبعدين حال ثقافية اكثر منها اقتصادية: "فالافكار نفسها هي التي خلقت الواقع، وليست التغيرات الاقتصادية او فشل البرامج الحكومية ما خلقه. ولئن تبين ان أثر هذه الافكار على الطبقات الوسطى كان مؤذياً، فالأثر على من هم تحتُ كان كارثياً". وتطويراً لنظرية عدم التدخل، يرى استاذ دبليو ان الحكومة لا تنقذ احداً، وكل ما تستطيعه "أن ترعى بيئة مادية واجتماعية يكتشف فيها الناس أنهم يستطيعون انقاذ انفسهم".
وتبعاً لتصورات ماغنيت يمكن استخلاص معنيين مُلحّين ل "المحافظة العطوفة" التي توّجت وابتذلت مساراً مديداً من اضفاء العاطفية على السياسة: فمن جهة، آن أوان التذرير التنظيمي للكتلة التي تقف خارج الحزب الجمهوري، ومن ثم فصل فقرائها وأقلياتها المستبعدة عن العامل الثقافي الذي يوفّره افراد من الطبقة الوسطى. هكذا يُنزع التسييس والعقلنة عن لعبة يُفترض انها سياسية وعقلانية، فيتم "تحرير" الفقراء من الحزب الديموقراطي ليُتركوا هلاماً في مواجهة قدر اقتصادي وعرقي عارٍ. وفي هذه الاهاضة الكاملة للجناح، يصير كل "دعم" يقدمه الاغنياء، او الدولة احياناً، بمثابة "عطف" بحت.
ولتعويل كهذا على الاحسان مصادره الاكيدة في التجربة الاميركية، حيث اشتُهر بعض الاغنياء بسخائهم في تقديماتهم العامة. بيد أن ماغنيت وسائر دعاة "المحافظة العطوفة" يحوّلون مثل هذه الممارسة الطوعية، على أهميتها، نهجاً في بناء الأمة.
وينشأ، من الناحية الأخرى، رهان مبالغ فيه على العامل الاخلاقي والقيمي شرطاً للنجاح، وهذا ما تغذى لاحقاً من "فضائح" كلينتون، أحد ألمع الرموز الستينيين، كما عززه التداخُل والتمديُن اللذان أحدثتهما، او وسّعتهما، تعددية ثقافية أخافت المتمسكين بالعالم "النقي" السابق.
مارفين أولاسكي
لكن مايرون ماغنيت، وإن كان أفضل أساتذة دبليو، ليس أستاذه الأوحد. وقيادة الولايات المتحدة تستدعي، لسوء الحظ، قراءة أكثر من كتاب، ولو اختيرت كتب تكرر فكرة واحدة بتنويعات عدة.
كائناً ما كان الحال، يبقى أبرز الاساتذة الآخرين مارفين أولاسكي الذي تتشكّل صورته من نُتَف فيها المثقف والمبشّر والمشعوذ والمحتال. والراهن ان الاحتيال يبدأ مع صياح الديك في هذه البيئة الأخلاقية، فيزعم أولاسكي أنه هو، لا ماغنيت، من اخترع "المحافظة العطوفة".
المؤكد ان معرفته بدبليو أقدم من معرفة منافسه. فهو، كأستاذ للصحافة في جامعة تكساس بأوستن، التقاه في 1993، أي مع بداياته السياسية وبعد عام واحد على اصدار أولاسكي الكتاب الذي اعتُبر تمهيداً لكل كلام عن المحافظة والتعاطف. ولم يكن دبليو، في النخبة العليا، الجمهور الوحيد ل"تراجيديا التعاطف الأميركي". ذاك ان نيوت غينغريتش كان حصل في 1994 على نسخة منه جاءته هدية عيد ميلاد من وليم بانيت، أحد مثقفي اليمين الجمهوري الذي وجّه، في عهد بوش الأب، السياسة الوطنية لمكافحة المخدرات. وسريعاً ما طلب رئيس المجلس من جميع اعضاء الكونغرس الجمهوريين ان يقرأوا ذاك العمل الفذ. لكن غينغريتش لم يقف هنا. ففي خطابه الذي استهلّ به رئاسته للمجلس والذي وجهه الى الأمة مطالع 1995، قال غير هيّاب: "إن موديلينا الاثنين هما أليكس دو توكفيل ومارفين أولاسكي".
وعبارة ذهبية كهذه يتفوّه بها غينغريتش، وكان يومها في الذروة، كفيلة بجعل الممدوح يفيض كتباً. وبالفعل راح الاستاذ الجامعي ينشر الاعمال الايديولوجية الصالحة لتوفير اجابات سهلة عن اسئلة لا حصر لها. فهناك "صحافة متهتّكة: التحيّز المناهض للمسيحية لدى الاعلام الصحافي الاميركي"، و"النطق بالحق: كيف يتم احياء الصحافة المسيحية؟"، و"العلاقات العامة للشركات: منظور تاريخي جديد" مستوحى من تجربة لأولاسكي خرج منها بأن كبريات المؤسسات المالية متورطة في مؤامرة ليبرالية للقضاء على المنافسة، عبر دعم التدخل الحكومي، و"الصراع من أجل الحرية والفضيلة: الحروب السياسية والثقافية في اميركا القرن الثامن عشر"، و"التقليد القيادي الاميركي: الرؤية الاخلاقية من واشنطن الى كلينتون" حيث يموضع "الرؤية الاخلاقية" للرؤساء في "المعتقدات الدينية والسلوكية الجنسية". وقد قدّم أولاسكي لطبعة جديدة منه ملاحظاً ان كلينتون ربما نجا من الحكم القضائي العادل، "بيد أن محكمة الرأي العام قاضته". فالمقترعون الذين خدعهم ذات مرة بالتعويل على الاقتصاد، ما عادوا يقبلون ب"رؤية أخلاقية مفادها أن كل شيء يمر". وعليه فان انتخابات 2000 هي التي "يريد الشعب ان يرى بنتيجتها رئيساً لا يعهّر المكتب البيضاوي".
والهدف الذي قاد أولاسكي لأن يكتب "تراجيديا التعاطف الأميركي"، هو أمله "في تحويل الرفاه، قدر الامكان، من احتكار الدولة الى تنوع مرتكز على الايمان". فعلى الحكومة، بالتالي، ان تخرج من الرفاه، وعلى الدين ان يدخله. الا ان العبرة النظرية التي تبشّر بالارتداد الى ما قبل الدولة، بلورتها قصة طريفة لا بد أن دبليو استمتع بها واستفاد. فباعتراف أولاسكي نفسه، وضع عمله بعد مقارنة أجراها لإنجيلية القرن التاسع عشر الاحسانية بجهود الرفاه العلمانية اللاحقة. وقد وجد أن الأخيرة عديمة النفع ما دامت لا تركّز على المسؤولية الشخصية. لكن كيف وجد ذلك؟ "من خلال نظرة فورية الى التعاطف المعاصر مع الفقراء" خلال يومين قضاهما متخفياً في هيئة متسوّل يجوب مطاعم الوجبات الرخيصة التي تقدمها الدولة للفقراء في واشنطن والمعروفة ب"مطابخ الحساء". وهو يروي حرفياً: "لقد لبست ثلاثة قمصان تي شيرت مُستعمَلة وكنزتين قذرتين، وزوّدت نفسي قلنسوة طويلة وكيساً بلاستيكياً، ووضعت محبسي الزوجي جانباً ولطّخت يديّ بالكثير من الوسخ ومشيت بتثاقُل بطيء يتميز به الذكر الابيض ابن الاربعين الذي لا مأوى له من ابناء الشارع". وخلال نهاريه كابن شارع أين الليلتان؟ قُدّم له "الكثير من الطعام، والكثير من العقاقير من كل نوع، والكثير من عروض الثياب والمأوى". شيء واحد لم يُقدَم له: كتاب توراة.
التسعينات ضد الستينات
لقد خُطّ معظم هذا الكتاب في 1990، حين كان أولاسكي في زمالة تدريسية لدى "هريتيج فاونديشن" مؤسسة التراث في واشنطن، كاشفاً عن تصوراته الهذيانية في ما خص "الشارع" وأبناءه اكثر من كشفه اي شيء آخر. لكن عندما نُشر "تراجيديا…" كانت تسود اوساط اليمين تلك شتى الآراء عن "النهب الأخلاقي" الذي مارسته الستينات، و"القذارة الأخلاقية" للحياة الاميركية مذّاك. فالبلاد ظلت طاهرة حتى العقد اللعين الذي جرفها الى الخطيئة، وها آن أوان الخروج منها بمباشرة التربية الجديدة للصغار.
وبدا سهلاً على وعي دبليو استدخال تقنيات الوعظ الامومي هذه وصياغتها بلغته العجائبية. ف "أولادنا"، كما تقول سيرته الذاتية، "ينبغي تحديهم كي يكونوا أفضل ما يستطيعون. ولا ينبغي ابداً ان نترك الاولاد يتأخرون، وذلك بأن ندفعهم الى الأمام ليتقدموا". ومنظّرو اوائل التسعينات كانوا مثله، بالطبع، لا يريدون ترك الاولاد يتأخرون بأن يدفعوهم نحو الأمام ليتقدموا! وكان أحد هؤلاء روبرت بورك الذي استوقفه التحول الستيني الآثم نحو فرض العلمنة على الشبيبة والامة، فرأى ان العملية الموصوفة تنفّذها "الطبقة المثقفة" وذراعها الممثلة في القضاة بقيادة المحكمة العليا. كذلك ظهر وليم بانيت، موظف مكافحة المخدرات الذي اهدى غينغريتش نسخة من "المحافظة العطوفة"، واصدر عمله الاول "كتاب الفضائل" فهجا هوليوود والإعلام والتفسخ الاخلاقي وشيوع العنف في التلفزيون. وثمة كوكبة من اسماء اخرى كجون ولترز وجون ديلوليو وجيمس ويلسون وروبرت وُدسون الذي يذكره أولاسكي بوصفه واحداً ممن أثّروا عليه تكوينياً.
ولا يصعب التدليل على صلة دبليو، فكراً وسلوكاً، بهؤلاء. فبانيت وولترز وديلوليو هم الذين اصدروا، في 1997، كتاباً مشتركاً يحتاج الى اقل بكثير من كاتب واحد، عنونوه "حساب الجسد: الفقر الأخلاقي". ويطرح الكتاب رؤية ذعرية، تعود اسبابها الى الستينات، عن تجارة المخدرات وجرائمها والمخاطر المترتبة عليها. لكن الكتّاب الثلاثة لم يستوقفهم بتاتاً انخفاض هذه الجريمة بنسبة النصف مع التحسينات الاقتصادية وفرص العمل الجديدة خلال ولايتي كلينتون.
الا ان جون ولترز، مثلاً، هو من خدم نائباً لبانيت في مكافحة المخدرات في ادارة بوش الاول، ومن ينوي الرئيس الحالي تعيينه في هذا المنصب. اما ديلوليو فهو الذي أحلّه دبليو في منصب استحدثه البيت الابيض لرعاية شؤون الكنيسة والمبادرات الكوميونلية للجماعات.
وديلوليو، في هذا المجال، اسم صاعد. فهو استاذ جامعي في بنسلفانيا، يعمل في "برامج مرتكزة على الايمان" معدّة لشبيبة دواخل المدن وصغار المراهقين، كما يصدر كتباً ذات عناوين بالغة الدلالة ونامية التأثير في اجواء اليمين: "كيف نكسب حرب اميركا ضد الجريمة والمخدرات؟" و"نزع التنظيم عن الوظيفة الرسمية: هل يمكن تحسين الحكومة؟". كما ينشر بافراط مقالات سجالية تتوزّعها "وول ستريت جورنال" و"واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" و"كومنتري".
أولاسكي أيضاً وأيضاً
لكن مارفين أولاسكي يبقى النجم الأسطع. في العام الماضي، أصدر كتابه الأهم الذي اختار له العنوان المباشر والصريح "المحافظة العطوفة". وهو، من صفحته الأولى ينصح القراء، بخليط من اللينينية والتبشير البروتستانتي، بأن تلك الدعوة "ليست شعاراً بسيطاً ولا شعاراً محصّناً حيال الهجمات الشرسة… انه برنامج مكتمل ذو فلسفة مدروسة بعناية". وبعد أن يحذّر من أن عمله سيلقى المعارضة لا "القبول السهل في القرن الواحد والعشرين"، يمضي شارحاً: "ذاك أن عليه أن يعبر نهراً من الشكوك تطول دور الدين في المجتمع الأميركي. عليه ان يتجاوز العديد من المرابض الايديولوجية المسلحة. ووحدها الشجاعة السياسية ما يمكّن المحافظة العطوفة من ان تكسب وتحوّل اميركا". وعلى نحو مسهب يكرّس أولاسكي معظم الكتاب لمساره الشخصي حيث صارع الالحاد بعدما عرفه في الرابعة عشرة، ثم صارع الحزب الشيوعي الاميركي الذي غادره وهو في السادسة والعشرين لأن "الله وجدني وغيّرني".
وكان دبليو، الذي "اكتشف الله" هو الآخر، مَن كتب التقديم ل"المحافظة العطوفة"، فرآه "صورة ملهمة عن الموارد العظمى للياقة والرعاية والتزام الواحد بالآخر مما يتشارك فيه الاميركان".
بيد ان فكر أولاسكي يهدد، إذا ما كُتب النجاح لفرضياته بجعل الاميركان، كإثنيات واديان وطبقات واجناس، لا يتشاركون في شيء. فهو يتجرأ على احد اهم ثوابت تجربة الولايات المتحدة التي عززت طويلا تعايش الجماعات، فينكر فصل الكنيسة عن الدولة، معتبراً مصدر هذا الفصل لا أكثر من عبارة "شخصية" تضمنتها رسالة كتبها توماس جفرسون. مع هذا يعود، كسائر المحافظين، الى الثوابت تلك مؤكداً ان الايمان الذي تنشره التنظيمات "المرتكزة على الايمان" لا ينبغي ان يكون مسيحياً حصراً. فغاية المحافظة العطوفة هي "التنوّع المرتكز على الايمان"، وهو نظام يجعل الحكومة تقدّم لمحتاجي المساعدة خيارات في البرامج عددها عدد الأديان والمذاهب.
غير ان التخفيف هذا لا يكفي لتجنب معضلة ضخمة قد تواجهها الولايات المتحدة بفضل الآراء المذكورة. وهذا، على الأقل، ما تهدد به اشارات متعاظمة صادرة عن أولاسكي وصحبه الى "نقص في أميركية" الذين "لا يؤمنون بألوهية المسيح" كاليهود والمسلمين، وحتى الى "الالتواء" و"العوَج" في ايمان بعضهم بالمسيح، في اشارة لا تخفى الى الكاثوليك.
وأولاسكي لا يكتفي بالكتب فيبث أفكاره في عمود تحمله المجلة الاسبوعية "عالم" World التي تصدر في أشفيل من اعمال نورث كارولاينا، ومحررها هو بوب جونز الخامس، حفيد مؤسس جامعة بوب جونز ونجل رئيسها الحالي. والجامعة هي الحصن الاكاديمي للتمييز العنصري ضد السود وللتعصب البروتستانتي ضد الكاثوليك. وحتى 1999، حين عُدّلت ولُطّفت قليلاً، ظلت الافتتاحية الثابتة لمجلة "عالم"، والمسماة "البيان الرسالي"، تنصّ على ما يلي: "لكي نساعد المسيحيين في تطبيق التوراة على فهمهم للحوادث الراهنة لحياتهم اليومية، واستجابتهم لها… لكي نُرفق الإخبار بالتعليق… من منظور ملتزم بالسلطة النهائية للتوراة بوصفها كلمة الله المكتوبة والمعصومة. لكي نساعد في تطوير فهم مسيحي للعالم بدل القبول بالايديولوجيات العلمانية القائمة".
وبحسب احصاءات نشرتها المجلة نفسها في 1999، فان 95 في المئة من مشتركيها البالغ عددهم 103 آلاف شخص، يعتبرون انفسهم من العرق الابيض، و98 في المئة يذهبون الى الكنيسة "أسبوعياً في العادة".
كرست "عالم" عدداً كاملا، في أيار مايو 1998، للزواج والعائلة، مع التشديد على موضوعة "الرئاسة والتابعية" حيث نُصحت النساء بأن يكنّ "رعايا" لأزواجهن لأن "الزوج رأس المرأة كما المسيح رأس الكنيسة". وأولاسكي، المطلّق هو نفسه، له آراء في المرأة تصلح ان تكون المعادل الاميركي للآراء الطالبانية في افغانستان. ف"الله لا يمنع النساء من أن يكنّ قادة في المجتمع بصورة عامة"، كما كتب عام 1998 في "مجلة الرجولة والأنوثة التوراتية" للانجيليين، "لكن حين يحدث ذلك فإنما بسبب تنازل الرجال… هناك عارٌ ما يلتصق بهذا. لماذا لا يكون عندكم رجل قادر على ان يخطو الخطوة الى أمام؟".
وكبير الرجال القادرين على ان يخطو خطوة كهذه هو دبليو، على ما راهن أولاسكي منذ لقائهما الاول في 1993. يومها كان الرئيس الحالي يستجمع الاسلحة في مواجهة امرأة نافسته على الحاكمية هي آن ريتشاردس. وتبادل الاثنان الاحاديث لمدة ساعة بحضور المستشار كارل روف، فيما وجّه السياسي، بحسب رواية المنظّر، "أسئلة تذهب الى لبّ المسائل التي تخص الاطفال المولودين خارج الزوجية، والرجال الذين يموتون ببطء من جراء اساءة استخدام المخدرات في الشوارع".
وطال فراق الاثنين الى ان التقيا ثانية في 1995، حين كان الحاكم في أوج ولعه بطروحات اليمين الديني في مكافحة المخدرات. وعلى مدى السنوات القليلة التالية من حاكميته لم يقتصر عمل دبليو على جعل تكساس اول ولاية تحوّل الرساميل الرسمية الى "برامج مرتكزة على الايمان"، بل عطّل عملياً تنظيم الدولة لهذه البرامج بذرائع ايديولوجية صريحة. واخطر ما في الأمر أنه، بهذا، منح اليمين الديني قوة مالية وثقلاً سياسياً لم يتمتع قبلاً بمثلهما.
وهذا، في الواقع، ما وصفه أولاسكي بأن "فرصةً نهضت لحاكم بعيد النظر كي يتولى المبادأة". ذلك ان دبليو، عند منظّره، شخص "طبيعي" بفعل تربية أبيه، ولكن أيضاً "نظراً الى تغيره الشخصي المستند الى الايمان الذي حدث في 1986 ونقله من مُسرف في الشراب في بعض الاوقات الى ممتنع عن الكحول".
لكن أولاسكي لم يصبح مستشاراً دائماً لقائده، مع انه لم ينقطع عن الصلة به. وفي شباط فبراير 1999 عيّنه رئيساً للجنة السياسية الفرعية لشؤون الدين في تكساس. تم ذلك اثر لقاء دام اربع ساعات بينهما حيث صاغا الموقف من الدين وصلته بالسياسة، بمشاركة بعض المنظّرين الجدد كولترز وديلوليو وغيرهما.
ولتبيّن مدى تأثير أولاسكي يمكن الرجوع الى خطاب دبليو البرنامجي في انديانابوليس في 22 تموز يوليو 1999، والذي وصفه الأول بأنه تتويج لعملية بدأت بلقاء الساعات الاربع. إذ أعلن الحاكم يومذاك انه "في كل مرة تشعر ادارتي بمسؤولية في مساعدة الناس سوف ننظر اولاً الى المنظمات المرتكزة على الايمان والى الاحسانيات والتنظيمات التابعة للجماعات التي اظهرت استعدادها للحفاظ على الحيوات وتغييرها… سوف نغير القوانين والتنظيمات التي تعيق تعاون الحكومة مع المؤسسات الخاصة". ثم ضرب عدداً من الامثلة على التحول عبر الايمان هي قصص تحاكي، معنى ومبنى، تلك التي يخبرها أولاسكي.
وفي خطابه للمؤتمر الجمهوري في فيلادلفيا، تكاثرت الالماحات التي يختلط فيها التذاكي والتغابي، ويشوبها غموض قد يراه البسطاء طاقةً سحرية يبثّها الايمان في الضالعين فيه. ف"حين أتصرف ستعرفون اسبابي… حين اتكلم سوف تعرفون قلبي"، مع افراط في الاشارات التي تدور على "تثمين حياة الطفل الذي لم يولد بعد" و"أن علينا تجديد قيمنا كيما نستعيد وطننا".
هذا كله كان كفيلاً بجعل دبليو مضحكاً لولا ان الامر مأسوي. فرئاسة رئاسات الأرض تنتهي بين ايدي هؤلاء المشعوذين. ودبليو لم يكذّب خبراً فأنشأ في البيت الابيض منصباً للمبادرات "المرتكزة على الايمان" نيط به العمل، بالتنسيق مع الاجهزة الحكومية، لتوفير الرساميل التي يتطلبها تذليل المسائل الاجتماعية!
ان الميل الى تعطيل خدمات الدولة قفز، على يديه، قفزة متقدمة استُكملت عدّتها الاخلاقية والايديولوجية. فكما لو ان دبليو، في انسياقه الى مناخ نضالي يطلقه أشبال ريغان، يكفّر عن جريمة أبيه الذي أعاق الثورة الريغانية، فيعيد إطلاقها بزخم مضاعف. وهذا، بالضبط، هو العطف الاحساني الذي لا يشرحه شيء كتلك الرساميل التي حُجبت عن تعليم الفقراء وتطبيبهم، بذريعة خفض الضرائب مرةً، والطريق المسيحية في استخدام الفائض مرة أخرى.
* الحلقة التالية: تركيب السلطة الجديدة، غداً السبت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.