} بعد أن تناولت الحلقة السابقة رئاسة جورج بوش الأب، هنا حلقة أخرى: لئن شكّلت ولاية بوش الأب نكسة لليمين الجمهوري فيما كان يبحث عن ريغان آخر، شكّل انتخاب ادارة ديموقراطية لولايتين متعاقبتين نكبة اليمين ذاك. اما الرمز الذي تجسّد فيه الانتصاران الديموقراطيان في 1992 و1996 فكان النقيض لما يفكّره اليمين او يتصوّره، محوّلاً عطالة المحبط بريغان الى نشاطية الكاره لكلينتون. ذاك ان الاخير، طفل طفرة الولادات التي تلت الحرب العالمية الثانية، هو شاب الستينات العاصفة الذي عاف الخدمة في فيتنام، وابن العائلة المصدّعة بالطلاق، الصادر من وسط اقرب الى الفقر منه الى الغنى. الا انه ايضاً عازف الساكسوفون الهاوي، وهي تقليدياً آلة السود الجنوبيين انطلاقاً من نيو أورلينز، وصديق الوجوه الاكثر ثقافية ونقدية في هوليوود. لكن كلينتون الذي تبلور شبابه في أكسفورد البريطانية امتلك نقيصة اخرى، في نظر اليمين، هي انه بادي الاعجاب بأوروبا امتداداً لتقليد طليعي يرقى الى العشرينات الاميركية. وهذا من غير ان ننسى انه زوج هيلاري بقدر ما هي زوجته. فالسيدة الاولى التي كانتها بارباره بوش، أم جورج دبليو، تماهت بالقديسة زوجةً وأماً مُصنّمةً تبتسم لزوجها طائعة، وتربّت على كتفي نجلها مباركة أو مشجعة. وهي، مع نانسي ريغان، شابهت ماكرات الحريم وحائكات الدسائس في العتم، بعدما قرنتها "الجميلة" جاكلين كينيدي بالازياء والنضارة والزينة التي سطعت وهّاجة في البيت الابيض. على العكس تماماً كانت هيلاري رودام كلينتون المحامية، الصانعة، المناضلة في قواعد الديموقراطيين وصاحبة الرأي والموقف، حتى بدت لكارهيها الكثر أشبه بالعذراء المضادة. فكيف وأن نشاطها هدّد بعض المصالح لا سيما في صناعة الدواء؟ والحال ان إليانور روزفلت، الانسانية الأممية والنسوية، كانت وحدها من ماثلتها هيلاري في وجهها العام. غير ان الازمنة اختلفت عن الاربعينات حين كانت رقعة الدمقرطة ضيقة ونقد الرؤساء وزوجاتهم مهمة السياسيين في المدن الكبرى، بينما كانت الصحافة أقل بحثاً عن الاثارة بما لا يقاس. وقصارى القول إن مواصفات كلينتون حين تؤخذ مجتمعةً، تجسّد لليمين المحلي والديني، الابيض والقومي، كل ما يمجّه مادياً ورمزياً. وهي، من ثم، ما ينبغي طرده من البيت الابيض على النحو الذي طرد يسوع السماسرة والتجار من الهيكل "بيت أبي". لكن المعركة المديدة ضده والتي تسلّحت بالاخلاق، افتقرت ايما افتقار الى الاخلاق نفسها. فالرذائل التي لبست خوذة الفضائل حرّكتها اغراض نفعية لا تُحصى لشركات ومؤسسات لا تُحصى بدورها. ثورة غينغريتش صحيح أن كلينتون لم يكن وودرو ويلسون ثانياً في حله النزاعات الدولية التي تصدى لها، ولا كان فرانكلين روزفلت آخر في محاولته تأسيس برامج ضمان صحي واجتماعي لائقة بالمواطنين. الا انه بدا، هو القريب من النشاط الرأسمالي المعولم قربه من "الاقتصاد الجديد"، ابن زمنه الانتقالي الموصوف مرة ب "ما بعد الصناعية" ومرة ب "ما بعد الحداثة"، والممهور مراراً بتراجع السياسات الايديولوجية. فكلينتون، وقد مكّن حضور حزبه في الوسط، أسهم في تغيير قيم السياسة الاميركية ومعانيها. فالوجهة، بالتالي، لم تعد من كبائر الامور الى صغائرها، بل غدت تسلك الطريق المقابل متجنّبةً الملحمي والنُصبي والخارق. واذا صح ان الرئيس الديموقراطي السابق ترك قضايا كثيرة "بلا حسم"، كحكم الاعدام وموقع مثليي الجنسية في الجيش وتقييد حمل السلاح ومبدأ التدخل الانساني في الخارج، غير انه وضعها بقوة على الاجندة العامة. هكذا لم يتعارض نهجه مع الباحثين عن تكريس اجندات الماضي وحدهم، بل تناقض ايضاً مع قيم ومصالح داخلية تنفر من كل تنظيم تستدعيه الحاكمية في زمن العولمة. وفي الخانة هذه اندرجت "حقوق" بائعي البنادق وملوّثي البيئة والمشجعين على رواج التدخين والمتحكمين بسعر الدواء، فضلا عن المميزين ضد الناس تبعاً للونهم واعتقادهم وجنسهم وخيارهم الايروسي. وكان من الرايات المرفوعة في معركة الماضي الاصرار على عالم لا ينقسم الا دولاً وسياداتٍ وطنية، ولا تتحرك دولته الكبرى الا بموجب اعتبارات تخصّها وحدها. وامتلك التحليل الضمني لليمين المتطرف روايته للاحداث: فالقيم الكلينتونية هذه ما كان لها اصلاً، لولا ميوعة جورج بوش الأب، ان تبلغ عتبة البيت الابيض. اما وقد استقرت فيه فقد انبغى اخراجها بأية طريقة ممكنة. وكان العام 1994 عام المواجهة الكبيرة الاولى مع بيل وهيلاري كلينتون. فالجمهوريون حققوا عامذاك انتصارهم الانتخابي الضخم الذي رعاه ورمز اليه رئيس المجلس نيوت غينغريتش. وسرت التكهنات التي تفيد ان هذا الوجه الطافح سيصير حتماً الرئيس المقبل، إن لم يكن في 1996 ففي 2000. ولم يؤثّر في ذلك ان غينغريتش المتأثر ب"مستقبلية" ألفين توفلر، عبّر عن شهوة لا تُقاوم للنزوع التوتاليتاري الى الجمع والتركيب واشتقاق الوجهة الصارمة من زمن رآه هادفاً بالضرورة. فالماضي، وهو فضائل وأخلاق وتديّن، يمتد في مستقبل افتتحته "الموجة الثالثة" على أجنحة الانترنت ووسائط الاتصال الحديثة. والمستقبل المذكور لا يكفّ عن الغَرف من بحر ذاك الماضي، فيتعايشان متجانسين مُتحابّين، بحيث يكون الثاني للأول ما كانته اليونان وروما القديمتان لنهضة أوروبا. هنا بدا غينغريتش كأنه يلعب الدور الذي لعبه بترارك وبوكاتشيو! الا ان شهوة التصوّر الكلي والنبرة الثورية كما عكسهما برنامجه "العقد مع أميركا"، دفعت الأمور الى حافة انفجارية كانت الموازنة سببها المباشر. هكذا عُطّلت الدوائر الحكومية والمتاحف والحدائق العامة التي تعيش على انفاق هذه الدوائر، وتوقف دفع اجور الموظفين الفيدراليين، علماً ان الدستور لا يجيز هذه الصلاحية للكونغرس، كما شاع، على الشفاه والصفحات والشاشات الصغيرة، تعبير "ثورة غينغريتش". غير ان هذا المشهد العالمثالثي الذي لم ينقصه الا احتلال الدبابات للساحات العامة، لم يود بادارة كلينتون. وفيما تسارعت لقطاته أسهم في تقصير عمر الانتصار اليميني وتتويجه بفضيحة طالت اخلاقيات غينغريتش نفسه. وذهب بعض النقاد أبعد، مدللين على صلة نسب بين روحيتين في العداء للدولة: تلك الرسمية التي نمّ عنها سلوك رئيس المجلس، وتلك الارهابية المباشرة التي ترفض "التدخل الفيدرالي" كما ترجمها تفجير تيموثي ماكفاي المبنى الرسمي في اوكلاهوما سيتي، موقعاً 186 قتيلاً بينهم 19 طفلاً. ففعلٌ كهذا انما يحصل في كنف فعل كذاك. هنا ظهر ان المواقف الايديولوجية والنضالية تكاد تُخرج الجمهوريين من السياسة لتلقي بهم كلياً في حضن الردود الاطلاقية. وما زاد الأمر سوءاً أن حقبة ما بعد ريغان لم تلد القائد السياسي المجمع عليه، فيما اضافت العولمة تناقضات جديدة تبحث عن رموز قيادية غير متوافرة في بيئة اليمين الرسمي. وتعاظمت، في هذا السياق، علامات التبعثر والتشرذم. ففي انتخابات 1992 الرئاسية، مثلاً، قسم البليونير روس بيرو الصوت المحافظ المفترض به تأييد جورج بوش الأب. ثم في 1996، حين كان بوب دول المرشح الرسمي ضد كلينتون، طرح عليه بات بوكانان في الانتخابات التمهيدية للجمهوريين تحدياً اعنف من ذاك الذي طرحه على بوش قبل اربع سنوات. مونيكا غيت ما ان استسلمت ثورة غينغريتش حتى وجد اليمين الشرير سادة حرب جدداً يرمون قفازاتهم في وجه كلينتون، يسهّل مهمتَهم سلوكه الرخو والمائع. وكان الفصيل المتقدم الذي غدا من فصائل البنّائين لادارة جورج دبليو بوش، مجموعة مُحكمة التنظيم من المحامين تُعرف ب"الرابطة الفيدرالية" ينتمي اليها محامي بوش الابن ثيودور أولسون وبعض المسؤولين الحاليين كوزيرة الداخلية غايل نورتون ووزير الطاقة سبنسر ابراهام ورئيس اللجنة التشريعية في مجلس الشيوخ أورّين هاتش. وفي عداد اصدقاء المجموعة كلٌ من القاضيين المحافظين في المحكمة العليا انتوني سكاليا وكلارنس توماس، والمدعي العام الحالي جون اشكروفت. تأسست الرابطة قبل عشرين عاماً، في غمرة الصعود الريغاني الأول، بهدف التصدي ل "سيطرة المعتقدية الليبرالية على السياسات العامة وعلى المحاكم منذ حركة الحقوق المدنية". وكان آخر ما الهب مخيّلة محاميها الفيدراليين وحماستهم "قضية" مونيكا لوينسكي وباولا جونز لعزل كلينتون. ولئن كان كينيث ستار وكثر من فريقه اعضاء ناشطين فيها، فتمويلها الأساسي صدر عن "مؤسسة سكايف" لصاحبها البليونير ريتشارد ميلّون سكايف المعروف بتبرعاته السخية لدعم قضايا يمينية من النمط المعهود. هكذا كبدته فضيحة جونز - لوينسكي 24 مليون دولار. اما صلة الوصل بين سكايف وما بدأ "مشروع أركنساو" قبل ان يتداعى فضائح جنسية، فكان ثيودور اولسون الذي جعلته علاقته ببوش اكثر محامي الولاياتالمتحدة نفوذاً، علماً انه في الوقت نفسه رئيس فرع الرابطة في واشنطن. وأولسون هذا تدرّب على كينيث ستار في عهد الادارة الريغانية، كما عمل مستشاراً قانونياً لريغان ابان قضية ايران - كونترا الشهيرة ليتولى، من ثم، رئاسة تحرير مجلة "أميريكان سبكتاتور" التي "كشفت" قصة باولا جونز. وابان الانتخابات الرئاسية الاخيرة لمع نجم اولسون، مرة أخرى، بوصفه فارس جورج دبليو في المشادة المتعلقة بأصوات فلوريدا. كان العزل شعار نواب الاكثرية الجمهورية في مواجهة رئيس شعبي وناجح انتُخب مرتين. واستمر الامر هكذا على رغم رفض ثلثي الشعب الاميركي ذلك المطلب، لا بل على رغم محاكمة مجلس الشيوخ له في شباط فبراير 1999 التي رفعت السيف المصلت عن رأسه. والراهن، ان تبيان ملامح استراتيجية الجمهوريين لم يكن مرةً صعباً: فالصحافي الاميركي الشهير بوب وودورد نقل في كتابه "الخيار" تحذير الناطق بلسان البيت الابيض ماك ماكّوري، قبيل انتخابات 1996، من أنهم سيردون على اتّباع الرئيس خطاً وسطياً يحرمهم بعض جمهورهم، بالطريقة التالية: "يمكنهم فقط تحقيق الكسب حين يُنزلون بكلينتون الشيء الاخطر… وهو ان يدمّروه كلياً ككائن بشري… سوف يفعلون كل ما يستطيعونه كي يحوّلوه الى كذاب، او يُظهروه غشّاشاً… هذا أساساً هو الخطر حين لا يكون لديك أساس جدي للسجال". وبعدما كان شعار العزل تعبيراً عن مبارحة السياسة والافتقار الى السجال، بات هو نفسه هدفاً استراتيجياً يُمعن في رهن السياسة للاخلاق، كائناً ما كان الثمن. فتسبب الاصرار عليه في اضعاف الجمهوريين في استقصاءات الرأي جميعاً، من دون ان يردعهم ذلك من المضي في معركة اتخذت طابع التفتيش والتطهّر. وبالثأرية التي انطوت عليها، قوّت حركة النزوح من السياسي الى الاخلاقي العنصر النضالي، المتطرّف والشبابي، في الوسط الجمهوري. وهذا لم يعد فقط الى تفوق العنصر الاخير لدى طرح المسائل ايديولوجياً واطلاقياً، بل ايضاً الى التراجع العام في الاقبال على التصويت لدى الفئات السكانية الاكثر شباباً والاقل تعبئةً والاكثر نجاحاً في الميادين غير السياسية، لا سيما المال. والحق ان العملية الانتخابية غدت منذ سنوات تمنح وزناً متعاظماً للمجموعات الحسنة التعبئة والتنظيم، والحسنة التمويل في آن، ك"الغالبية الأخلاقية" و"الائتلاف المسيحي" و"رابطة البندقية الوطنية" وبضعة تنظيمات مناهضة للاجهاض. وهذا الجيل من الشبان الراديكاليين الذين وصلوا الى مواقع تمثيلية في التسعينات، هم من يصفهم لارس ايريك نلسون في "نيويورك ريفيو اوف بوكس"، بأنهم تعرّفوا الى اول رئاسةٍ جمهوريةٍ مع رونالد ريغان. الا ان الاخير لم يكن قائدهم السياسي أساساً، بل كان "إلهاً بالنسبة اليهم. كان دِيناً". هكذا وجدوا في المواجهة مع كلينتون "ثأراً" للريغانية من جهة، و"ثأراً" مما نزل بالمعسكر الجمهوري ابان فضيحة ووترغيت التي حلّت بالرئيس الجمهوري نيكسون في 1974، كما لو ان سنوات ريغان الطويلة كلها لم تكف لردّ الاعتبار. غير ان الفضيحة الاخيرة كانت ذات دلالات سياسية قبل ان تكون اخلاقية، فيما مونيكا غيت اخلاقية محضة. وأبعد من هذا ان هؤلاء راحوا، في تلك الغضون، يقضمون مواقع أساسية في الحزب الجمهوري. ففي 1996، مثلاً، اتهم جون موران الذي كان المسؤول المالي في اللجنة الوطنية الجمهورية وأحد ناشطي حملة بوب دول الرئاسية، "الائتلاف المسيحي" وآخرين "مناوئين بلا كلل للأجندة المعتدلة"، ب "اختطاف" اللجنة المذكورة. وبالتدريج بات الجمهوريون المعتدلون جنساً منقرضاً تُذعره جهود المحافظين لتطهير الحزب من الافكار غير النقية فيُبدي التطابق والاذعان. ومثلما انطوى اغتيال كينيدي على طاقة تآمرية، انطوت الحرب على كلينتون على طاقة مماثلة تولى الصحافيون التفنن في ترويجها. وفي هذا الغموض اندرجت حياة الرئيس الجنسية، وعلاقته بزوجته "الباردة"، واحتمالات مستقبلهما كعائلة، ومواقف ابنتهما تشيلسي، ناهيك عن الارقام الفلكية التي ارتبطت بالدعاوى بما في ذلك المبلغ الذي زاد على 11 مليون دولار وتوجّب على كلينتون وهيلاري تسديده للمحامين. معركة 2000 في 1998 أجرت "واشنطن بوست" بالتعاون مع جامعة هارفارد ومؤسسة كايسر استقصاء للرأي غدت نتائجه شهيرة. اذ ظهر ان 50 في المئة ممن سئلوا يرون ان الاخلاق من متطلبات الرئيس، فيما عاكسهم 48 في المئة. وما لبثت "البوست" ان قرأت النتيجة على النحو الآتي: "بعد فضيحة البيت الابيض: الاستقصاءات تقترح تطلّب الجمهور للقيادة الاخلاقية". بيد ان اكثر من ثلثي الاميركيين الذين استفتتهم "لوس انجليس تايمز" في شباط 1999، اي بُعيد اسقاط العزل، قالوا ان سوء تصرف كلينتون لم يُفقدهم الاحترام لمنصب الرئاسة، وتمنى 68 في المئة ان لا يُثار الموضوع هذا في حملة 2000 الانتخابية، وقدّر اكثر من ثلاثة في كل خمسة اشخاص ان الجمهوريين يسعون الى العزل "لأنهم، أساساً، ينوون ايذاء الرئيس كلينتون سياسياً"، بينما قال ثلث واحد، اي ما يضاهي حجم القاعدة الجمهورية، ان ما يحرّك الجمهوريين هو القلق "من مغبّة أعمال كلينتون على النسيج القانوني والاخلاقي للبلد". وكائناً ما كان تأويل الأرقام، فُرض الموضوع الأخلاقي على الصلب السياسي، وجزمت استقصاءات الرأي منذ نيسان ابريل 1999 بأن معركة 2000 الرئاسية ستتركز حول "القيم". وفي تموز يوليو اعلن جورج دبليو برنامجه في انديانابوليس فجاء مصداقاً لتلك الاستقصاءات. وبدورها بقيت تأثيرات المسلسل الفضائحي على حملة آل غور الرئاسية موضوعاً مفتوحاً. لكن قبل ان يُبتّ الأمر بتّه غور نفسه في تنازله لأسوأ التفسيرات المحتملة. فنائب الرئيس والمرشح الديموقراطي للرئاسة، بدل ان ينحاز الى الانجازات الاقتصادية التي تحققت في العهد الديموقراطي، اختار نائباً له السناتور المؤمن جداً جوزيف ليبرمان! واستند الاختيار هذا على فرضيتين، أولاهما ايصال الاستياء من سلوك كلينتون بعدما أُسقط عزله. والثانية، ضرورة الانفصال عن الشراكة في عهده، ومن ثم في انجازاته. وظهر، في المعنى هذا، ان اختيار ليبرمان هو طريقة في مخاطبة المقترعين اتبعها غور الرخو في موضع اكثر سياسية من ذاك الاخلاقي الذي تجلّت فيه رخاوة رئيسه. اما ليبرمان، الأرثوذكسي اليهودي الذي اثار ترشيحه استهجان البيئة الثقافية اليهودية في نيويورك، فلم يتلكأ في بثّ اشارات غنية الدلالة. فتحدث عن "اللحظات الخاصة التي تنتاب المُصلّي"، وعن تسميته لنيابة الرئاسة بصفتها "معجزة". ولم يفوّت البوح الامومي والابوي فخاطب، في كلمته الى مؤتمر حزبه، أمه: "أماه، شكراً، أحبكِ. وأنتِ وأنا ندرك كم سيكون الوالد فخوراً هذه الليلة. نعم، نحن نحبك يا أماه". وفعلاً، بدا الدور الابوي الذي أدّاه ليبرمان حيال غور بالغ الوظيفية وعميق الاستناد، في الوقت نفسه، الى مرتكزات ميثولوجية. اذ اريد منه قطع الطريق نهائياً امام اية شبهة في ما خص علاقة غور بكلينتون، كأنما الوافد الجديد يتولى مهمة إلهية هي قطع دابر الخطيئة التي يمكن ان تحوّم حول نائب الرئيس. ومجاراةً لحملة جورج دبليو وديك تشيني التي كانت توغل في ابداء التديّن والاخلاقيات، اصدر ليبرمان كتاباً عنوانه "في مديح الحياة العامة" مدافعاً عن مهنته كسياسي محترف بطريقة شديدة الاعتذارية. فهو يلاحظ، مثلاً، ان عليه "تحمّل الازدراء" من أولئك الذين لا يثقون بالسياسيين. وما يفعله هو المغامرة بأن "تلطّخه" الانتخابات، فيما لا يعني له الانتصار سوى "الانتقال الى حلبة أخرى أصبحت أبشع من أي وقت سابق". وفي استعراضه حياته السياسية يذكّرنا بأنه حينما انتُخب الى مجلس الشيوخ في 1988 قام بما يلزم تكفيراً عن الانتساب الى هذه الحلبة البشعة، فلبّى "زيارات خاصة للقادة الدينيين الثلاثة الذين يعنون لي الكثير، لأطلب منهم أن يصلّوا لي وأنا أباشر هذا الفصل الجديد في حياتي". ذاك ان مطران الكاثوليك في هارتفورد وراعي الانجيليين البروتستانت في ميلفورد والحاخام مناحيم شنيرسون في بروكلين، هم مداخل السياسة التي إما ان تكون مرادفاً للفضيلة او لا تكون. ولم يقتصر اطراء اختيار ليبرمان على الديموقراطيين، فرأى خصم كالأب جيري فالويل ان السناتور المؤمن "يضفي الصدقية على كل شيء يلمسه". وراجت، في هذه الغضون، مصطلحات ك "مركزية القيم في السياسة" و"القيادة الاخلاقية" التي يوفّرها ليبرمان للحملة الديموقراطية، لا سيما بعد تجديد شجبه لكلينتون، ولهوليوود التي "لا تفهم الورع"، وللثقافة الشعبية حيث "يتعاظم الجنس والعنف". ربما لا يكون من الخطأ أن يشير المرشحون الى معتقدهم او ايمانهم. فالسياسيون ليسوا جنساً قائماً بذاته، كما ان اشارات كهذه ستساعد في أنسنتهم وتقديمهم أفراداً وأشخاصاً. والسياسة، في آخر الحساب، ليست مقطوعة عن جوارها في الاجتماع ولا عن شروط الحياة قوةً وضعفاً. الا ان اقحام معتقدهم وايمانهم في الحيّز العام بتحويلهما الى سياسة شيء آخر. وعلى ارض كهذه تنافس المتنافسون في الانتخابات الرئاسية، فبقي جورج دبليو وليبرمان في الطليعة من دون ان يتأخر كثيراً ديك تشيني وآل غور الذي كان رأى منذ أيار مايو 1999 في اتلانتا، أن "الايمان بذاته أمر أساسي لاندلاع التحول الشخصي". أما جورج دبليو فأكد مبكراً ان اميركا "أرض الله" فيما الله خلقها لتكون هكذا. وتحدث نائبه ديك تشيني عن ان التسامح لا يكون الا ذاك الذي علمنا اياه يسوع المسيح. وتبعاً للمعلّق ابراهام فوكسمان، راح كل واحد من المرشحين يجبّ الآخر "تشديداً على مدى قدسيته ومدى تدخل الله في حياته. وعلى حين غرّة بدا هذا التوكيد الجديد على الايمان والدين كأنه يبعدنا عن تجربة دامت مئتي سنة من اثارة الحملة للقضايا التي تحرّكنا". نجح اليمين الشعبوي، بقدر من الصخب وقدر من البذاءة، في فرض الاجندة على الجميع. وتكاثرت التعابير الرؤيوية التي تفيد ان "أمراً غلطاً ما يتجوّل في أميركا" وأنه "لا بد من تكفير عن إثم ما". ووقعت اللغة هذه وقوع الموسيقى على آذان انصار العائلة والقيم. فهؤلاء، على رغم كونهم اقلية اقتراعية، وجدوا مصادر تشجيع لا تنضب، فكيف وان الحزبين ضيّقا الكلام وحصراه في كلامهم الفِرَقي؟، وهو عمل ترتبت عليه نتائج كارثية منها الامعان في تنفير الشبيبة من السياسة، وافراغ الأخيرة من مضامين عدة هي، تعريفاً، مضامينها. وبالتأكيد كان من نتائج هذا التحول أن جورج دبليو غدا رئيساً لجمهورية الولاياتالمتحدة. * كاتب ومعلق لبناني. الحلقة المقبلة: تربية جورج دبليو. الثلثاء المقبل. ** تنشر الحلقات الخميس والسبت.