طوال عهديمي كارتر، قبع جورج بوش في بيته ومصرفه. لقد بدا شبيهاً بالضباط إذ يُسرّحون فيلجأون الى قطاع خاص تهيأت لهم أسبابه. لكن بوش، الذي اصبح رئيساً ل"فيرست ناشونال بنك" في هيوستون، راح من موقعه في المال يتحيّن فرصته في السياسة. الا انه لم يعوّل على انقلاب، وهذا ليس من طبعه، تاركاً مثل هذا التعويل للطامح الجمهوري الآخر. فالعالم الغربي، يومذاك، كان يتآلف مع وجه صاعد في بريطانيا موصوف ب"ابنة البقّال". وهذا النعت الذي لم يكتم ايحاءه الشعبوي هو ما عُرفت به مارغريت ثاتشر بعدما حطمت القيادة التقليدية للمحافظين البريطانيين، وقبل ان يتأكد أنها "السيدة الحديد". فلماذا لا يصل في واشنطن، "ابن صانع الأحذية" رونالد ريغان الى حيث وصلت ثاتشر في لندن؟ ووقف ريغان ذو اللون الصارخ يواجهه بوش ذو اللون الباهت، ومعاً دخلا المنافسة على الترشيح الجمهوري لانتخابات 1980. ولئن شدد الاخير على خبرته في العمل الحكومي، متخذاً مواقف معتدلة في معظم المواضيع، كان الزئير الريغاني يقول ان صاحبه طرزان آتٍ من الغابة والخارج لا من خبرات الداخل. فالممثل غير الموهوب بدا دائماً مسكوناً بانقلاب: في شبابه الأول طلب الانتساب الى الحزب الشيوعي الاميركي ورُفض لضعف قابلياته الذهنية، الأمر الذي أسهم في تحويله ألدّ أعداء الشيوعية في القرن العشرين. وقبل عقود على احرازه النصر المدوّي عليها، تجسس للمكارثية في هوليوود ووشى ببعض "مشبوهيها". وبقيت الخارجية من سماته قياساً بالتيار الجمهوري العريض: في 1964 نشط بحماسة في حملة غولدووتر التي أنفها الجمهوريون التقليديون، وفي 1968 هزمه نيكسون، وفي 1976 لم يسعفه الحظ في مواجهة جيرالد فورد. واذا طغى على حملة ريغان خفض الضرائب وزيادة الانفاق العسكري، لم يكتم بوش سخريته مما سمّاه "اقتصاديات الشعوذة"، وهي عبارة ندم عليها وأرّقته حينما تبنى هذه الاقتصاديات لاحقاً. والحال ان بوش الباهت انسحب من المواجهة فلم يكملها، متيحاً لخصمه ان يثأر مرتين من مؤسسة الحزب التقليدية: مرةً حين غلبه، ومرة حين اصطحبه ضعيفاً نائباً له، بعدما رفض الرئيس السابق فورد العرض نفسه اذ اشتمّ منه رائحة الاهانة. ... إنها الثورة اما على النطاق الوطني، فلم تبدُ الامور أصعب. ففيما كان كارتر يجاهد عبثاً لخفض سعر الوقود، قضت عليه محاولته البائسة لانقاذ الرهائن في ايران التي انتهت حطاماً وخردة في الصحراء. وفعلاً حمل ريغان وبوش 44 ولاية في نصر كاسح وهبا اليمين صدارة الحياة الاميركية. وبتسريحة شعره الوفية للخمسينات والتي استوحت أوائل رجالات الغرب الاوسط، تقدم الرئيس الجديد ليعلن ثورة فعلية. والثورة طاولت دور الدولة والاقتصاد، كما رفعت حرارة الحرب الباردة متسببة في التعجيل بانهيار الاتحاد السوفياتي وكتلته التوتاليتارية. ذاك ان السنوات ال16 الفاصلة بين هزيمة غولدووتر ورئاسة ريغان، لم تعرّض "الحكومة الكبرى"، التي يكمن جذرها في النيو ديل، الى أي انتكاس كبير. فقد مضى جونسون ونيكسون وفورد وكارتر في تعزيز دولة الرفاه، ولو تفاوتت بينهم الحماسة والانجاز. فحين حلّ الممثل السابق في البيت الابيض كانت الدولة المذكورة قد تكرّست جزءاً من الحياة الاميركية. هكذا بدت محاولة ضربها عملاً ثورياً لا محافظاً إذ المحافظ، تعريفاً، هو من يُبقي على التقليد لا يغيره. في تلك الغضون احتكر الرئيس الضوء كله وتقلّص نائبه الى مجرد ملحق به. فالثورات، كما هو معروف، لا تكتمل إن لم تتشخصن. وفقط عندما جُرح ريغان بسبب محاولة اغتيال تعرض لها في 30 آذار مارس 1981، تولى بوش الرئاسة لأسابيع قليلة فوصف "عهده" ب"الاطمئنان الى الاستمرارية". وتكرر الأمر في ولايتهما الثانية، في تموز يوليو 1985، لدى استئصال تورم سرطاني من معي ريغان الغليظ. وفي المرتين، وفي الولايتين، تأكد ان الموظف امين للسيد حين يغيب. وألحق ان تبوأه نيابة الرئاسة بدا اقرب الى ترقية في الوظيفة فكُلّف مهمات معظمها احتفالي وخارجي، وبعضها القليل على شيء من الأهمية. فقد سافر بوش الأب خلال مزاولته نيابة الرئاسة الى اكثر من ستين بلداً، وكان ابرز ما شغله رئاسته "فريق ادارة الازمات" التابع لمجلس الامن القومي واشرافه على نشاطات تتصل بالجريمة والارهاب والمخدرات. فهو ما كان في وسعه اللحاق بتسارع المبادرات التي اطلقها رئيس عُرف بالكسل في حياته الشخصية وفضوله الفكري. وقد طاولت الثورة الريغانية الاخلاق ايضاً، فلم يتورع الابن عن قتل ابيه غولدووتر على حلبة القيم. ذاك ان مرشح 1964 ما كان اطلاقاً ليمزج الدين بالسياسة في ما ظن ان الحكومة لا دور لها في التشريع للقضايا الاخلاقية. وحين بلغ الخامسة والثمانين وكان انقضت عقود على تقاعده، دعم ناشطي الحقوق المثلية ودافع عن وجودهم في الجيش، كما عُرف احد احفاده بأنه مثليّ. ولم يتردد غولدووتر في ان يقول للصحافة ان للناس حقاً دستورياً في ان يكونوا مثليين. لا بل دعم ديموقراطياً مرشحاً للكونغرس ضد واحد من اليمين الديني، كما هاجم "أناساً كبات روبرتسون... يسعون الى ابعاد الحزب الجمهوري عن الحزب الجمهوري، ويجعلون منه تنظيماً دينياً". وأنهى بما يشبه الوصية السياسية: "اذا ما حصل هذا، قبّل السياسة قبلة الوداع". لكن غولدووتر توفي فيما الجماعات الدينية توالي دخول السياسة الجمورية من بابها العريض. وكان الكاهنان روبرتسون، قائد "الائتلاف المسيحي"، وجيري فالويل، مؤسس "الأغلبية الأخلاقية"، ابرز رموز هذا الانعطاف، بعدما شاركا منذ 1980 في خوض معارك ريغان الرئاسية وتنظيمها. فروبرتسون، من خلال اذاعته ودعاوته، ملأ الكون ضجيجاً حول المؤامرة الكونية على المسيحية وأميركا، في ما مضى فالويل في حملاته الملتهبة ضد الاجهاض والمثلية والشيوعية. وما كانت الآراء المعتوهة لآيات الله البروتستانت لتسترعي الاهتمام لولا نفاذها الى الحزب الجمهوري وتأثيرها من خلاله. وهذا، على رغم كل الضجيج الأخلاقي، لم يكبحه انكشاف ارقام مدهشة عن ثروة روبرتسون. فقد قُدّرت ب140 مليون دولار، جنى بعضها من مشروع لتهريب الماس من زائير السابقة رتّبه له رئيسها الراحل موبوتو. واستمر دور اليمين الديني يتعاظم مع الولاية الثانية لريغان وبوش، لا سيما وأن "القناة العائلية" التي أنشأها روبرتسون في 1977، غدت في الثمانينات مسموعة على نطاق واسع جداً، مؤثّرة شعبياً ومُسمّنةً ثراء صاحبها. والعام 1984 كان عام الامتحان الذي تعرضت له سنوات اليمين الاربع الاولى، فجُدّد انتخاب ريغان وبوش الأب بنجاح باهر جعلهما يحملان 49 ولاية في مواجهة ولتر مونديل، الديموقراطي الذي شغل نيابة الرئاسة في عهد كارتر. صلة السياسة بالدين لم يشارك جورج بوش في حملات التطهير الاخلاقي، لكنه شارك في الكذب الذي يتصف به سائر الوعّاظ. فقد سرت تكهنات عدة حول ما يعرفه عن صفقة بيع السلاح لايران. وظل نائب الرئيس يصر على عدم معرفته الى ان انكشف ان الصفقة، التي تمت عبر اسرائيل، كانت جزءاً من اتفاق لتحرير الرهائن في لبنان. كذلك انكر معرفته بتحويل المقابل المالي الى مقاتلي "الكونترا" في نيكاراغوا. الا ان تسرّب اخبار الاتصالات بين معاونيه وبين مواطنين اميركيين يعملون مع الكونترا، أثارت اسئلة لم يملك بوش جواباً محدداً عنها. مع ذلك فالأمور لا تشتغل هكذا لدى بناء المنظومات الايديولوجية التي تطرد البراهين والوقائع، فلا تعوّل عليها ولا تشتقّ منها. فالمهم، والحال هكذا، دوام الاحتكام الى مرجعيات اطلاقية يتضاءل معها أثر النسبي والعارض. وربما اذا حاكمنا غولدووتر بمعيار النجاح الريغاني، قلنا ان افتقاره الى البُعد الديني كان من اسباب اضعاف يمينيته وافتقارها الى الشعبية. فالصلة الوثيقة بين السياسة المتطرفة والدين في اميركا ترقى، هي الاخرى، الى القرن التاسع عشر الجنوبي. وفي دراسته "نار تستهلك"، لاحظ يوجين جينوفيز، المؤرخ الأكثر نفوذاً في ما خص العبودية، أن الحجج المؤيدة لتملك العبيد لم تفارقها النبرة الدينية، قبل الحرب الاهلية وأثناءها وبعدها. وهو يركّز على رجال الكنيسة في اثارتهم "تكريس التوراة للعبودية"، على رغم اصرارهم على "كامل الواجبات المسيحية التي تترتب على مالكي العبيد". وهذا ما يتطلب "اصلاح العبودية"، بمعنى تحويل العبيد الى المسيحية، واحترام زواجهم وحياتهم العائلية، والسماح بتعلّمهم كيما "يخدموا الله" بصورة أفضل. ومضى كثيرون من المبشّرين يدعون الى مثل هذا الاصلاح حتى خلال الحرب، فيما كانوا يجاهدون للتوفيق بين دعواهم أن الله الى جانبهم وبين هزيمتهم العسكرية. غير انهم، مع استباب السلم، راحوا يبحثون عن وسيلة تحظى بمقبولية أعلى، وتنسجم مع تقدم الرأسمالية الشمالية نحوهم مصحوبةً بقدر من الليبرالية الدينية. هكذا وفّرت الكنيسة لأشخاص كريغان وبوش، على اختلافهما، حججاً حول التقدم استناداً الى ميراث كالح. وأمكن لخليط الأفكار هذه ان يعيش طويلاً في الزمن الأحدث عهداً. فمع تمرير مرسوم الحقوق المدنية في 1964 ضعف الصوت الديموقراطي الابيض في الجنوب، وقال جونسون يومها انها بداية نهاية حزبه هناك. وهو، في هذا، لم يخطئ. فالخيار السياسي لعالم العبودية السابق غدا اقرب ما يكون الى التماهي مع الجمهوريين رداً على تماهي الديموقراطيين مع الحقوق المدنية. وأبعد من هذا ان الجبهة الجمهورية التي أذعنت لغولدووتر لم تعرف أي مراجعة للمكارثية، ومن بعدها لفيتنام. وهنا كان الرأي العام المعادي للحرب يتشكّل خارج الحزبين الرئيسيين معاً ويندمج في الظاهرة الاوسع التي عُرفت ب"الستينات"، بانجازاتها وخرافاتها معاً، برغبتها في وقف الحرب كما بأمثَلَتها ل"العم هو" ونظامه التوسعي والمستبد في الشمال. وتجسّدت هذه البرانية في السياسة عام 1972، فترشح عن الديموقراطيين الأخلاقي الراديكالي جورج ماكغفرن في مواجهة نيكسون. لكن نجل الكاهن الميثودي الذي حل على عجل في موقع شغر باغتيال روبرت كنيدي، حمل معه ولايتين فقط فأنسى الاميركيين هزيمة اليميني غولدووتر قبل أربعة أعوام. فقد اعتُبر مرشحَ القضية الواحدة التي هي فيتنام، وأُخذت عليه خفّة وزنه فيما لم تدعمه النقابات. فحين وصل ريغان، بعد ثماني سنوات، كانت تنطلق وجهة مضادة تفاوتت بين التحرر من عقدة فيتنام كيما "نستطيع استئناف الفعل في العالم"، وبين الكفّ عن أمثَلَة فيتكونغ وهانوي. ولم تُعدم الوجهة هذه ذراعها الثقافية التي عبّرت عنها افلام سينمائية عدة ربما كان اهمها "القيامة الآن". وكما دلّ لاحقاً التعاطي مع بيل كلينتون، بقي الابتزاز بالخدمة العسكرية في فيتنام قائماً، وبقيت تلك الخدمة ذات طابع معياري. لكن إذا جاز نزع الأمثَلة عن فيتنام الشمالية فهل يجوز، في المقابل، لوعي سياسي - ديني ان يرفع الحرب الى سويّة المقدس؟ الخطيئة، الخطيئة تشرب القسوة التي تنطوي عليها ايديولوجيا اليمين الاميركي من مياه كثيرة، لكن نبعها الأسخى هو البروتستانتية الأميركية الورعة التي انضوى فيها جورج بوش انضواء رونالد ريغان. فهي، من جهة، تقوّي في رموزها التواضع والبساطة، بل الشعبية والشعبوية اللتين لا نلقاهما في نظيرتها الأوروبية ذات التراث الارستقراطي الاعرق والاصلب. لكنها تنمّي فيهم، أيضاً، عدوانية داخلية متماسكة تغاير التربية الكاثوليكية التقليدية. ذاك ان المعركة التي تخوضها الاخيرة ليست ضد "الخطيئة". فالكاثوليك يربطون هذه النقيصة بحرية البشر فيرونها إخلالاً مُتعمّداً وواعياً بارادة الله. وبينما تعالجها كنيستهم بالاعتراف الذي يُحلّ صاحبها منها، يعالجها التأويل البروتستانتي بشدّة غير مسبوقة في الثقافات والاديان: فالخطيئة، هنا، نتاج تجاوز الحد بوصفه تجرؤاً على ارادة الله. والمماهاة بينها وبين الاساءة الى الرب ترقى الى داوود الذي قال، حين اقتنع بخطيئته، انه اخطأ "بحق الله". والأهم أن الخطيئة معطاة مسبقاً لا يؤثّر فيها الخيار الانساني الواعي. فهي تصدر عن فساد البشر المتولّد عن الخطيئة الاصلية، أي عن غواية الشيطان الذي يسكن كلاً منا. فالشرور في هذا العالم ما هي الا نتاج الخطايا. والأرض، بحسب سفر التكوين، لُعنت نتيجة فعلة آدم، كما رأى العهد الجديد ان الخطيئة هي الحال التي جاء المسيح لتخليص البشر منها. ثم ان الخطايا الفعلية يمكن ان تطاول الافكار والكلمات كما الافعال. ولأنها بهذا الشمول فمن دون حلول الروح القدس والتزود بالايمان، وهما من عطايا الله، لن يستطيع المرء شيئاً بما في ذلك حب الرب. لا بل حتى لو بررها سيّد السموات والارض، لن تزول الخطيئة كلياً الا في الحياة الاخرى. وحيث يطارد البروتستانت الخطيئة، يطارد الكاثوليك الهرطقة التي تحوّرت في العصر الحديث لتصير ايديولوجياتٍ بعضها إلحادي تُخاض ضده معارك فكرية وسياسية وأحياناً عسكرية ضارية كان آخر مسارحها الحرب الاهلية الاسبانية. وقد اعادت الكنيسة الكاثوليكية تجديد المفهوم مداويةً الهرطوقي بالمقاطعة الحياتية، ومؤسسةً محاكم التفتيش لغرض مكافحته. وهذه، وعلى نحو مفارق، نقطة سجّلتها البروتستانتية لمصلحتها. فلأنها لم تعبأ كثيراً ب"الهرطقة"، جُعل مجتمعها عموماً اشد قابلية للتعدد والتنوع واقل قابلية للحروب والمواجهات المفتوحة، كما للانقسامات الجبهوية الثابتة على ما هي حال فرنسا الكاثوليكية المنقسمة طويلاً الى نصفين يساري ويميني، وعلماني ومؤمن، أو ايطاليا منذ الحرب الثانية. فالمجتمع البروتستانتي لا سيما الاميركي الذي اتخذت بروتستانتيته طابعاً فرقياً، يُقرّ بالفِرَق والآراء والجماعات، وبالغنى في المحاولات العلمية كما الدينية. لهذا وجدت في الولاياتالمتحدة، احد اكثر بلدان الكون ايماناً، جميع ديانات العالم، وصولاً الى البوذية والكونفوشية والشنتوية والاحيائية الافريقية. وهذا فضلاً عن الديانات والنحل والبدع المستحدثة مثل المرمونيين وشهود يهوه واتباع كريشنا واتباع كنيسة العلم. وفضلاً عن التعددية، يتميز المشهد الديني بالحرية في اعتناق العقيدة، او الخروج عنها الى عقيدة بديلة، وفي ممارسة الشعائر. فالدستور الاميركي ينص، منذ التعديل الاول الذي اضيف اليه، على ان الكونغرس "يلتزم بألاَّ يسنّ اي قانون من شأنه أن يفرض او يمنع الممارسة الحرة لديانة من الديانات". وانما بناء على المادة الدستورية هذه اصدرت المحكمة العليا عام 1962 حكماً بلا دستورية الصلاة في المدارس، علماً ان الدستور نفسه يضع الامة تحت حماية الله، وتحمل عملة البلاد القومية شعار "بالله نؤمن"، فيما يؤدي رئيسها اليمين الدستورية بالقسم على الكتاب المقدس. وفي العام التالي أتبعت المحكمة حكمها بآخر يقضي بلا دستورية تلاوة الانجيل في داخل الصفوف. وبالطبع فموقف كهذا لا ينجم عن رفض الصلاة والتلاوة في امة كثيرة الصلاة كأميركا، بل عن احترام المشاعر الدينية للتلاميذ الآخرين والتقيّد، تالياً، بمبدأ فصل الدولة عن الكنائس المعمول به منذ نهاية القرن الثامن عشر. وهذا كله يفترض ضمناً تعدد المستويات حيث لا تقاس السياسة، مثلاً، بقياس الدين والعكس بالعكس. وانما تبعاً لتعدد المستويات نفسها يمكن لرجل كجورج بوش او بات روبرتسون ان يكون مؤمناً جداً وكاذباً جداً في الوقت نفسه، من دون ان يكون الأمر افتعالاً بحتاً. والحال ان العنصر هذا هو ما أبقى المطلب اليميني في اعلان الولاياتالمتحدة دولة مسيحية او بروتستانتية، اضعف بنود برامج الجماعات المتعصبة. الا ان التجرؤ على طرحه، على رغم المقدمات هذه، يشي بالفوران الجديد لليمين الديني. على ان التركيز على الخطيئة، لا الهرطقة، ينضح بسمّ كثير بدوره. فلأن العدو هو الخاطىء الذي "يتجاوز الحدّ" فهو من يُرجّح انتماؤه الى اهل التخوم، ما بين الداخل والخارج، كأن يكون أميركياً و"غير أميركي" في آن. وهذا ما يصحّ في السكان الهنود الاصليين وفي السود كما في اليساريين والليبراليين وغيرهم. ومثل هؤلاء الذين "أنكروا النعمة الالهية" أو لم يرتفعوا الى مصافها، سريعاً ما يغدون امتداداً للخارجي وأخطر منه. فهم المؤبلسون الذين وسّعوا المطارح للشيطان في ذواتهم، وإذ جعلوا "يتغلغلون" من مواقعهم التخومية الى الداخل عملوا على اضعافه لمصلحة الخارج - الشيطان. ومثل هؤلاء يُكافَحون بمواجهات موضعية سريعة وعابرة تفنيهم، أو بحملات استئصال وابادة للشر تتسم بطقوسية تردّ الى الوثنية. واذا بدا هذا الملمح واضحاً في معظم حالات الاستيطان البروتستانتي وتعاملها مع السكان المحليين، فالحاسم هو رفض الاقرار بالخاطئ طرفاً نداً ومحضه الاحترام. فالآخر والمختلف ليس "اليسار" أو "الليبرالية" بأي معنى سياسي للكلمة، كما لا يستحق التعامل معه كطرف تخاض ضده مواجهات سياسية وايديولوجية مديدة. انه، في المقابل، الخيانة والتلوث مما ينبغي استئصاله واستئصال الشرور التي ينطوي وجوده عليها. وهذا وذاك يتمان باحتفالية يمكن ان تظهر بعد الحدث هوليوود والهنود الحمر، أو إبّانه التعبئة والجيشان في مناسبات تنفيذ أحكام الاعدام. وقد عرف يابانيو الولاياتالمتحدة في الحرب الثانية بعض المعاني المُرّة لهذا التأويل الشعبي، كما عرفه على نطاق أضيق الصينيون واليهود في الحقبة المكارثية. وبات "تطلّب العدو" و"تطهير الروح" من تعابير الشراكة بين الوعي الديني والوعي السياسي اليميني في الولاياتالمتحدة. ولما كانت غالبية الذين تنزل بهم احكام الاعدام من السود والهيسبانيك اللاتين والفقراء والمعوقين، على ما دلت لاحقاً حاكمية جورج دبليو في تكساس، جاز في هؤلاء "الآخرين" التطهير نفسه الذي سبق جوازه في "الآخر" الهندي الأحمر. وثورة ريغان أجّجت هذه المعاني جميعاً فبدا العالم كله، فضلاً عن الدولة الفيدرالية نفسها، حصوناً للخطيئة والخطاة. لكن الثورة لم تكتمل. وأغلب الظن أن بوش الأب الذي دافع عنها حين كان أتفه من أن يتصدى لها، ارتاح لوقوفها عند حد. فالزعيم لم تكن دولة الرفاه اولويته الاولى، مع انه كان ضدها بالطبع. وهو، كذلك، حاذر الهجمات على الضمان الاجتماعي وبرامج العناية الصحية. وفيما تحدث باستفاضة عن الصلاة في المدارس وعدم الاجهاض، لم يفعل اي شيء جدي ليستعيد الصلاة الى الصفوف او لينهي الاجهاض. هكذا انتهت سنوات اليمين المجيدة في عهديه فيما بعض القضايا الاكثر عاطفية لم تتحقق. وبدا اليمين، الاقتصادي والديني، توّاقاً الى اكمال ثورة ليس جورج بوش الأب بطلها بالتأكيد. * كاتب ومعلّق لبناني. الحلقة الرابعة: "جورج الأب رئيساً" الخميس المقبل. ** تنشر الحلقات الخميس والسبت والثلثاء.