} بعد ان تناولت الحلقة السابقة الحرب على كلينتون، هنا حلقة أخرى: تمخّضت أزمة اليمين فولّدت جورج دبليو وصيّرته الرئيس الثالث والاربعين. ودبليو الحرف الاول من اسم ووكر، والد جدّه. فالعائلة التي غدت سلالة سياسية، وُفّقت فعلاً في مسعاها هذا، فإذا سليلها اول رئيس يحل محل ابيه في البيت الابيض منذ ورث جون كوينسي آدامز والده جون آدامز مطالع القرن التاسع عشر. لكن مسار النجاح كما سلكه هذا الكائن المولود في 6 تموز يوليو 1946، شهادة باهرة على العبث الانساني. فحين كان عمره سنتين انتقل ابواه الى تكساس، غير أنه عاش أول تشكّله، ما بين 1950 و1959، في ميدلاند من اعمال الولاية الجنوبية. ثم انتقلت العائلة الى هيوستون، فلم تُلحَظ أية نباهة فيه لا طفلاً ولا صبياً. ما لُحظ التصاقه الشديد بأمه خصوصاً بعد رحيل روبن بسرطان الدم. بطبيعة الحال، لم تُرد بارباره التعويض بمأساة حيّة عن مأساتها بوليدها الاصغر. هكذا قست على ولدها الأكبر والقسوة، في تربية البروتستانت، عاصم من زلل وانحراف. وحتى الآن لا تزال حمرة الوجه التي اكتسبها دبليو في ميدلاند، وهي تكثر في البلدات والتجمعات الزراعية، يخالطها انشداهٌ ربما نجم عن صفعة من الأم دامت مفاعيلها طويلاً أو، ربما، من الأب الذي رفعته السلالة قدوةً لنجله وخفضت نجله مقلّداً ممتثلاً له، وقدوةً مضجرةً، كأن الرئيس السابق صادر ابنه كلياً، بعدما تولت الأم تشذيبه تعبيراً وغرائز، فراح يحاكيه خطوةً خطوةً، ويتحرك على إيقاعٍ روبوتي. ويُخيّل للمتأمّل في السيرتين ان ما من سبب شخصي يفسّر تبؤ دبليو الرئاسة غير العمل بالقدوة. فالأب سرّ ابنه هنا. وما دام الكبير أحرز الرئاسة، انبغى ان يسعى الصغير اليها بلا زيادة ولا نقصان. ودبليو نفسه في الكتاب الذي وضعه العام الماضي بمعونة كارِن هيوز، وعنونه "تعهّدٌ يُحافظ عليه"، والذي ربما كان اشد السِيَر السياسية تفاهة وإضجاراً، يذكر سبباً "صالحاً" لرغبته في الرئاسة هو ان اباه وامه اعطياه "حباً غير مشروط" حين كان غلاماً! الاعداد الأول لكن الأبوين أرسلاه في الواقع، عام 1961، الى المدرسة الداخلية التي سبق للوالد ان درس فيها، وكانت في أندوفر من ماساشوستس. هناك في "أكاديمية فيليبس"، لعب كرتي السلة والقدم وطبعاً زاول البايسبول الذي احترفه أبوه. لكن دبليو كان ايضاً هتّاف الفريق الرياضي لصفّه ومفوّضَه، وهو المُعادل الذي استطاعه لرئاسة أبيه فريق البايسبول. وهو اذ يُلمح، في سيرته، الى تلك الفترة يتذكر "البقاء الى وقت متأخر في الليل، والى ما بعد اطفاء الأضواء في العاشرة، واضعاً كتابي على أرضية الغرفة حيث أقرأ على الضوء الآتي من القاعة، محاولاً الصمود". والصمود على القراءة والتحصيل خانه سريعاً. فبعد ثلاث سنوات سُجّل في جامعة ييل في كونيتيكوت التي لم يكن أبوه وحده من درس فيها، اذ تخرّج فيها الجدّ بريسكوت أيضاً. ويصعب الجزم بأسباب وضعه الجديد هناك: فإما مسوقاً بالحزن على فراق العائلة، وإما احتجاجاً على قبضتها الخانقة بعيداً من عينها الساهرة، أو ربما تعبيراً عن أزمته مع الدرس والتحصيل، جعل ينفق الوقت في السكر والحفلات التي أقامها مع زملائه في أخوية "الجمجمة والعظام". وهذه ايضاً كان انتسب اليها جورج الأب في ييل. ويروي لاني ديفيس الذي كان زميل صفّ دبليو وصار احد مستشاري كلينتون، انه كان يمازحه بأن "سرّه الأكبر يدور حول ذكائه الذي لم يُرد لأحد أن يكتشفه". والحال ان قصته مع تلك الجامعة التي عُرفت بليبراليتها ونقديتها لم تنته فصولاً. فقبل ايام فقط توجه اليها ليلقي فيها، بوصفه رئيس جمهورية، خطاباً يحتفل بعيد تأسيسها ال300. ووسط استهجان الطلبة وصفيرهم، تحدث عن ماضيه في ييل، واصفاً "أيام الجامعة" ب"أيام الدَوخَان"، في تلاعب على كلمتي days و daze الانكليزيتين اللتين تُلفظان اللفظ نفسه. وذكّر برغبته في الغطّ نوماً آنذاك، وبنشاطات "جفّفتها الذاكرة". واذا كانت افضل سمات دبليو واكثرها صدقاً انه يسخر من نفسه، وبإفراط يوحي انه يطوّق عمل النقاد ويستبقه، فأفضل هذه السخرية ما صدر عنه في ييل. فإذ ذكّر برصيده السيئ، أضاف: "لأولئك بينكم الذين يتلقون شهادات الشرف والجوائز والعلامات المميزة أقول: حسناً تفعلون. أما للطلاب الذين ينالون علامة C فأقول: أنتم أيضاً يمكنكم أن تصبحوا رؤساء الولاياتالمتحدة". فحين أشار الى انه نال شهادته من الجامعة في 1968 عاجله احد الطلاب هاتفاً: "بالكاد". و"بالكاد" تختصر حقاً الكثير من مراحل حياة دبليو ومحطاتها، وصولاً الى رئاسة الجمهورية. لكنه هو نفسه من قوّم لاحقاً، ببلاغته المعهودة، سنوات شبابه. فقد اعترف بأنها كانت ضعيفة الجدوى: "فحين كنت صغيراً وغير مسؤول كنت صغيراً وغير مسؤول". وفعلاً تعاطى المخدرات اذ اعترف للصحافيين، عام 2000، بأنه لم يقربها "منذ" سبع سنوات، ثم "صحّح" زلّة لسانه بأن ردّ تاريخ التعاطي الاخير الى 1974. وفي ييل تميز بالعادية، فأحبّه بعض زملاء صفّه كشاب طيّب، وشاركه غيرهم الانخراط في أخوية اخرى هي "ديلتا كابّا إيبسيلون". فالاخويات معطوفةً على مشاركته، منذ بداية الستينات، في نشاط ابيه الانتخابي، كانت جسوره الى الحقل العام. وفي ظل ابتعاده من العائلة تكون الاخويات الوسط الاجتماعي البديل، خصوصاً ان الانتساب اليها يستدعي وجود المفتاح الذي يلعب داخلها ما يلعبه الأب في الأسرة. على هذه الحلبة رقص دبليو. اما ضجيج ييل بالتحركات الطلابية، لا سيما التظاهرات ضد حرب فيتنام وطلباً للحريات الجنسية والمتعوية، فأثار عنده الاستياء والنفور اللذين يعتصم بهما أنصاف البلديين في مواجهة الفيض المديني والتباساته. الهرب من فيتنام إذاً الأب والأخويات التي تجمعة بضع طقوس تكريس الى لهو عديم الرهافة، كانا وسائطه الى الدنيا. هكذا نشط، في 1966 و1968، في حملات ابيه ليتخرج في العام الاخير بشهادة بي آي في التاريخ. هنا كانت المخالفة الاولى من الصغير للكبير، إذ عزف عن اختيار الاقتصاد، الا أنه حين أراد أن يطابقه مجدداً انتصبت الحرب الفيتنامية عائقاً. فقد كان على دبليو ان يباشر خدمته العسكرية، وشاء ان يقلّد الوالد أيضاً. لكن الأخير عرّضه لامتحان صعب لأنه خدم في الحرب الثانية وكاد يُقتل، ومعادلها في الستينات كان الحرب الفيتنامية. وكحل وسط لا يدفع التماهي الى نهاياته سُجّل دبليو في الحرس الوطني الجوي لتكساس، قائلاً للضابط المسؤول انه ينوي تقليد أبيه. فلما لم يحرز في الامتحان نتائج جيدة وطال انتظار قبوله، سرت التكهنات بأن والده استغل علاقاته كلها لتنسيبه الى الحرس كي لا يساق الى فيتنام. فقسوة بارباره في البيت شيء وقسوة الادغال الآسيوية شيء آخر. وبقي جورج الصغير حتى 1973 في الحرس ليعمل، من ثم، لدى شركة زراعية مقرها هيوستن. كذلك انخرط في برنامج لتعليم الاطفال ونصحهم في الدواخل الفقيرة للمدينة نفسها. وربما شجّعته استجابة الاطفال فداعبته حينذاك فكرة الترشح نائباً عن تكساس، لكنه ما لبث ان عزف عنها. وفي العام نفسه قُبل في مدرسة البيزنس التابعة لجامعة هارفارد العريقة فنال منها، بعد عامين، شهادة أم بي آي صالحته مع اختصاص ابيه في الاقتصاد. ومثل الوالد عاد الى ميدلاند للعمل في الصناعة النفطية كمنسّق مشاريع ينظم عمليات الحفر والتنقيب ويكون همزة وصل بين الجيولوجيين واصحاب الاملاك والمستثمرين. بيد ان اواخر السبعينات راحت تبادره بأسئلة غير مسبوقة. ففي 1977 اعلن نيته خوض معركة مجلس النواب وخاضها فعلاً. لكنه في العام نفسه التقى لورا ويلش، ابنة ميدلاند التي تعمل موظفة مكتبة واستاذة مدرسة ابتدائية. وبعد ثلاثة اشهر فقط اقترن دبليو بهذه الفتاة الريفية مظهراً وملبساً وتسريحة شعر. غير ان ما ربحه بزواجه، والعائلةُ من عدّة الشغل في سياسات المحافظين، خسره في انتخابات 1978 امام خصم ديموقراطي لم يتورّع عن استخدام "الأصل غير التكساسي" لدبليو. وبينما وجد الاخير دعمه في صناعة النفط، شكّل فقراء العمال الزراعيين قاعدة منافسه. مزيداً من التكساسية إذاً. وهذا ما استمر معه طويلاً على شكل كليشيهات عاد اليها في سيرته مرةً بعد مرة. فتلك الولاية هي "حيث الناس يلتصقون سريعاً بقيم أساسية"، وحيث "يعرف معظم الناس انهم يستطيعون تحسين حيواتهم من خلال العمل الشاق والتعليم". الهرب الى النفط الا ان سياسة تكساس ستؤجّلها الهزيمة الى ان يغادر والده المسرح السياسي. وفي هذه الغضون سيتم التركيز على مزيد من النفط. وبالفعل استأنف دبليو نشاطه في صناعته فأنشأ شركة صغرى للاستكشاف والتنقيب سماها "أُربوستو إينيرجي إنكوربوريشن"، وأربوستو هي المعادل الاسباني لبوش الذي أملته المتاجرة مع المكسيك. فاسم السلالة ينبغي حفره في الفضاء كله بمقدار ما ينبغي الوفاء بمستلزماته في نبعه الاساسي: السياسة. ومن هذا القبيل شارك مجدداً في حملة ابيه، اذ اختير نائباً لريغان، فيما كانت لورا ويلش تنجب له ابنتين توأمين هما جينّا وبارباره سُمّيتا، عملاً بالتقليد نفسه، تيمّناً بجدتيهما. لكن دبليو لم ينجح في النفط اكثر مما في السياسة. فبينما كان الوالد يُنصّب نائباً للرئيس كانت شركة النجل تتداعى، وهو ما عالجه بتغيير الاسم. فمن دون التخلي عن ذكر السلالة أحلّ "بوش إكسبلوريشن" الانكليزية محل "أربوستو إينيرجي" الاسبانية. والحق ان حظه في الصناعة لم يكن كحظ ابيه، فدهمه انخفاض سعر النفط اوائل الثمانينات جاعلاً شركته تندمج عام 1984 في "سبيكتروم 7" التي غدا ابنُ نائب رئيس الجمهورية رئيساً لها. لكن انخفاض الاسعار آذى الشركة الجديدة ايضاً ولاح الفشل مجدداً في افق دبليو. وفي 1986 عولج الأمر لا بتغيير الاسم بل باندماج آخر اطلق الشركة الجديدة "هاركن اينيرجي كوربوريشن" التي عمل عضواً في مجلس ادارتها ومستشارها. وتحسنت بالتالي اوضاعه المالية، فيما سجّل النفط بعض الانتعاش. وأُعطي دبليو معاشاً ضخماً وحصة باعها لاحقاً بسعر مرتفع جداً. لكنه يومها، اواسط الثمانينات، خضع لصحوة دينية ترافقت مع بلوغه الاربعين. وتمضي الرواية الرسمية قائلةً إنه حين استيقظ ذات صباح منزعجاً لافراطه في الشراب، قرر الكفّ عنه معتبراً انه "اكتشف الله". وبحسب ما يُخبرنا جون ديديون عن تلك الفترة، كان دبليو يتوجه مرة في الاسبوع، بصحبة بعض رجال الاعمال في ميدلاند المهجوسين بتقلبات الوضع النفطي، الى طلب الارشاد الروحي من جماعة سمّت نفسها "رابطة درس التوراة". فمن فمها يمكن معرفة "الكيفية التي تُعاش بها حقائق التوراة في حيوات القادة وأعضاء الطبقة العليا"، كما يمكن البحث عن معنى الحياة. والواقع ان السيناريو الرؤيوي الذي بدأ ب"اكتشاف الله" لم يكن بريئاً. والخلفية هي اعداد دبليو، ولو بشيء من البطء والتعرّج، الى منصب عام. فالوالد لن يغادر المسرح سريعاً بل يتهيأ، على العكس تماماً، لتولي مقاليد الرئاسة. وبالفعل انتقل النجل الاكبر وعائلته، في 1987، الى واشنطن العاصمة لمساعدته في تحضير معركته الجديدة. ويقال ان دبليو كتب بعض خطبه في الحملة، وربما طابت له تسميته مستشار الشركة فغدا مستشاراً للحملة نفسها بصفته صلة وصل بين الإعلام المؤيد للجمهوريين وبين رجالات اليمين المحافظ والديني، تماماً كما عمل ذات مرة منسّقاً لأعمال استكشاف النفط واستخراجه. وهنا، وكائناً ما كان الأمر، نسج دبليو صلات سوف تخدمه كثيراً في حياته اللاحقة. نجل الرئيس بعد فوز جورج الأب بالرئاسة، بقي بكره مستشاره لاختيار طاقم ادارته، أو هكذا قيل. لكن التنصيب اعاده الى دالاس حيث اشترى، في 1989، حصة في فريق بايسبول اسمه "تكساس راينجرز"، ليتكرر على نطاق أوسع ما حصل قبلاً مع "هاركن اينيرجي". فمع ان استثماره في الشركة كان هزيلاً جداً، اذ لم يتعدّ 606 آلاف دولار من أصل رأس المال البالغ 86 مليوناً، سُجّلت له حصة 10 في المئة، كما غدا واحداً من مديري المشروع وناطقاً بلسان المجموعة المالكة له. ومثلما طرح الكثيرون سؤالهم حين عُيّن مستشاراً: بماذا يمكن أن يُستشار دبليو؟ تجدد السؤال بعد تعيينه ناطقاً: بماذا ينطق؟ فهو غالباً ما يخطئ، حين يفتح فمه، فإذا صدف وأصاب فقد يتعثّر في اللفظ. على ان هذا ليس مهماً في النهاية. فالمسألة كانت، في الحالات جميعاً، اقرب الى العلاقات العامة التي تستفيد من بنوّته لذاك المقيم في البيت الابيض. وبدوره كان للنطق باسم المجموعة ان رفع أسهمه في تكساس وزاد في تكريس اسمه اسماً محلياً ذا امتدادات مركزية. فلم يأزف العام 1990 حتى راودته فكرة خوض معركة الحاكمية، الا ان ما توافر من شجاعة لم يقطع حبل التردد، فتخلى عن الفكرة كما فعل قبلاً. والحال انه، وهو الأعلم بطاقاته على الأقل، ظل كثير التردد في اقتحام السياسة. ما لم يتردد فيه كان اشرافه على بناء ملعب بايسبول جديد ل"راينجرز" في أرلينغتون بتكساس. فحماسته، هو النصير مديداً للعبة أبيه، أمر لم يرق اليه الشك. لكن الحماسة لا تختصر مبادراته وسلوكه مما اثارته تحقيقات لم تسعفه رئاسة أبيه في تجنّبها. ذاك ان الشكوك ذهبت ب"لجنة الأمن والاتصال" الى ان دبليو حصل على معلومات خاصة هي التي حدت به الى بيع حصته في "هاركن اينيرجي" قبيل اعلان الشركة عن خسائرها المالية الفادحة. وانتهى التحقيق من غير ان يثبت ضده شيئاً، لكن شامتين رسموا على شفاههم ابتسامة ساخرة من نتائج التعويل على استشارة دبليو مرةً وعلى ذمّته مرة أخرى. وأيضاً وأيضاً تطوّع للعمل الى جانب ابيه في انتخابات 1992 الرئاسية التي خسرها الأب امام بيل كلينتون. وهذا، من دون شك، ترك مرارة كبيرة ممزوجة بالحيرة لأن الناس لا يكنّون لأبيه ما يكنّه هو، لكنه أسس لكراهية الفائز الذي هزم "داد". وربّ ضارّة نافعة: فقد زال كل تردد يطاول السياسة عند دبليو فقرر دخولها من ابوابها العريضة ضماناً لبقاء السلالة سلالة. هنا طرأ عاملان. فما كان ليبدو ازدواجاً، في ظل الأب، غدا، بتقاعده، استمراراً. الا ان الجوهرة المكنونة لم تخرج من بطن الارض في مناخ ظافري واحتفالي بل في جوّ حزين شكّلته هزيمة 1992. وبشيء من تبادل الادوار بدأ ينقلب الأب المهزوم ابناً لابنه الصاعد الذي فرض الظرفُ السياسي عليه اشراك شخص آخر في أبوّته. ولم يكن هذا الا رونالد ريغان الذي يضيف الرعاية الايديولوجية الى التفرّع البيولوجي عن جورج بوش. وبالفعل خيضت السجالات المعتقدية اللاحقة للجمهوريين تبعاً للصلة بالريغانية او المسافة عنها. فالقاعدة التي يعوّل عليها دبليو كانت تنتظر الفاتن لا الباهت الذي كانه الوالد. وبالعودة الى سيرته، لا يترك دبليو أي شك حول ضعف الجاذب الجماهيري الذي يمكن أن يصدر عن آل بوش: ف "كثيراً ما يسأل الصحافيون ]أخي[ "جِب" ويسألونني ما اذا كان "داد" يعطينا نصائح سياسية. ودائماً ما اضحك في سري حين اسمع هذا السؤال. وما اعتقده هو انهم يتصورون اسرة بوش تتجمّع حول رُكبة ابي، لتناقش دور أميركا في العالم أو أثر السياسة النقدية في اقتصادنا. والحقيقة، وبحسب لغة الوالد، "هذا ما لم يحصل". فنحن كنا اكثر تعرضاً لأن نخرج فنلعب البايسبول وكرة السلة او كرة القدم. كنا نناقش أموراً راهنة ولكن مثلما تفعل عائلات عدة. غير ان اشد ما كان يقلق الاولاد على طاولة غداء آل بوش، ما اذا كان ]الكلب[ مارفِن يتناول خضاره فيما نحن جميعاً نأكل الحلوى والفاكهة". حاكمية تكساس كانت الخطوة الاولى حاكمية تكساس. فبعد معركة شرسة ومُرّة ضد حاكمتها الديموقراطية المحبوبة آن ريتشاردس اصبح دبليو، عام 1995، الحاكم. غير انه خاضها بشعارات ريغانية حول الرفاه والجريمة، مطعّمة بشعبوية احسانية وعامة، عن تحسين اوضاع الفقراء وتكثير فرص التعليم لأبنائهم. وقد بذل جهداً كبيراً لتسويق نفسه كتكساسي، فلا يتكرر له ما حصل في 1978. هكذا جال الولاية كلها متهماً خصمه بأنها تقضي وقتاً كبيراً خارجها، ثم هزمها بنيله 5،53 في المئة من المقترعين. والعلاقة بتكساس ليست تفصيلاً. فهي تفسر جزئياً ذاك التجاوز اليميني من دبليو لأبيه. فالأول لم ينتقل اليها كالثاني، بل كان اصلاً ابنها وربيبها، كما لم يتعرض للتأثيرات الشمالية التي تعرض لها أبوه بل ترعرع في الجنوب وتعرّض لتأثيراته وحده. لكن لأن دستور الولاية يحدّ من سلطات الحاكم، اهتم دبليو بكسب ثقة الديموقراطيين الاقوياء هناك. هكذا حصل على تعاونهم بالشعارات الشعبوية فيما كان يُطبّق برامجه المناوئة للرفاه. ولئن اتهمه نقاده، هو الذي تفحّ منه رائحة النفط، باهمال الاعتبارات البيئية والضمان الصحي للاطفال، فهذا ما لم يعطّل مفعول شعبويته التي اعطاها شيئاً من الصدقية برفعه مرتّبات المدرّسين. والشعبوية هذه لم تكن مجرد نزوة. ذاك ان الأبوّة الريغانية باتت تستدعيها، خصوصاً ان الدرس الذي خلص اليه الجمهوريون من هزيمة 1992 يخدم هذه الوجهة: فلأن الأب بدا وسطياً ومرتبكاً، استطاع الديموقراطي المعتدل كلينتون ان يلحق به الهزيمة، فيما لم يهبّ راديكاليو اليمين لنجدته. إذاً، الى مزيد من التطرف والصراخ، سيما وان المرحلة تلك كانت تشهد تناسلاً محموماً للتنظيمات المجنونة الصغرى والمسلحة. وعصف بالبلد جو قيامي تراوح بين القتل المقدس والموت المقدس. وفي تكساس نفسها، وفي مدينة واكو، سجّل العام 1993 ذاك الحصار الشهير الذي ادى الى حريق مجمّع ديفيد كورش ومقتله مع الكثير من اتباعه. وعلى هذا النحو واجه دبليو مشكلة الاعدام فأظهر قسوة تضرب جذورها في التقليد البروتستانتي الشعبي والغرائز الجماهيرية. وبلغت مزايدته على اشرس المزايدين ذروتها في قضية كارلا فاي تكر، المتهمة بالقتل والمحكومة بالموت. فقد ظهر من يكتب العرائض مطالباً بالعفو عنها، وكان في عداد المطالبين ممثلو الفاتيكان وانصار بات روبرتسون اياه. ورفض دبليو أقل من تنفيذ الاعدام في موعده المقرر في شباط فبراير 1998. بذا سجّل الحاكم الشاب في رصيده انه اعدم اول امرأة في تكساس منذ الحرب الاهلية اواخر القرن التاسع عشر. خلال ولايته تلك بدأ البعض يعامله كرئيس محتمل. واستعداداً لليوم العصيب باع "تكساس راينجرز" وحصل على 15 مليون دولار. فالكونسورتيوم الذي فعل اصحابه ما كان يفعله بيرلوسكوني الايطالي بشرائه فريق بايسبول محترفاً، ثم "أقنع" حكومة أرلينغتون المحلية ببناء ملعب جديد له، صارت عائداته لا تُقدّر بثمن. أليس هذا نجاحاً حققه دبليو بذاته، هو المتهم بالفشل الدائم؟ معاذ الله. ففي كتابهما "شرب: الحياة السياسية القصيرة إنما السعيدة لجورج دبليو بوش"، ناقش مولّي أيفانز ولو دوبوس، وهما مراقبان وناقدان تكساسيان لدبليو، هذا الاحتمال. فالفكرة القائلة انه عاش في عالم رجال الاعمال بعيداً من معونات الحكومة والحاجة اليها، وان هذا بعض سرّ ولعه بالاقتصاد الريغاني، خرافة محضة. فعندهما ان هذا الفاشل في مجال النفط لم يحرز ما احرزه من ثراء الا عبر موقع ابيه في السلطة. فالموقع هذا هو ما جمّع حوله الأصدقاء الأغنياء وما أقنعهم بالانضمام الى كونسورتيوم لم يكن دبليو غير عضو ثانوي فيه. وهو ما حمل حكومة ارلينغتون على فعل ما فعلته. وابعد من ذلك ان دبليو لم يفتقر يوماً الى دعم "العائلة" وعلاقاتها، لا في القطاع الخاص فحسب بل في العام كذلك. وليس في حاكمية الولاية فقط بل في رئاسة الدولة الفيديرالية أيضاً. بيد ان الطريق الى الرئاسة لا بد من ان تمر بتجديد الحاكمية، وهكذا كان. ففي حملته لاعادة انتخابه في 1998 خاض المعركة ضد غاري مورو البيئوي، وكان شعاره "المحافظة العطوفة" ذات الرنّة العائلية والامومية. يومها انتاب بعض ديموقراطيي تكساس انه يسرق شعاراتهم مبادلاً كلينتون سلعته حين سرق شعارات جمهورية. وفعلاً اكد دبليو رفع أجور المعلمين، وخاطب الصوت الأقلي بحماسة واندفاع. وفي النهاية كسب رقماً قياسياً هو 69 في المئة من الاصوات وصار اول حاكم في تاريخ تكساس ينتخب لاربع سنوات متعاقبة اخرى. والأهم انه نال 49 في المئة من الهسيبان و73 من المستقلين و27 من السود و65 من النساء، وهي نسب غير مألوفة اطلاقاً في مرشح جمهوري. لقد اثمر إذاً خلط الجمهورية التقليدية بلغة بورجوازية صغيرة وشعبوية، حتى لو كان القائد في وزن ريشة. واذا كانت محاولات تافهي الاريستوقراطية التماهي مع تصميم الشعبويين، مألوفة في التاريخ، فالمدهش حجم الاضافة التي قدمها دبليو الى تراكم مُحقّق، وهي مراوحة بين صفر وتناقض ذاتي سريع التهافت. ففي خطاب تسلمه الحاكمية للمرة الثانية، رأى أن "الجواب الفعلي يوجد في قلوب أناس مهتمّين ومحترمين سمعوا الدعوة كي يحبّوا جيرانهم كما يودّون ان يُحَبّوا هم انفسهم"، وأن "علينا جمع اسلحة التعاطف لدى كل جماعات الولاية". لكن خلال حاكميته الثانية، تعاظم الاهتمام الوطني والعالمي بعقوبة الموت التي ميّزت تكساس. ذاك أن الأخيرة بدت السبّاقة والمتفوقة في إنفاذ هذه الوحشية الطقسية، من دون أن يعبأ دبليو. فهو حافظ على قوته بين الجمهور، فيما قضت المفارقة بأن يستفيد شعبياً من الازدهار الوطني العام لعهد كلينتون. مع هذا انجز خلال سنواته في المنصب اكبر خفضين ضريبيين في تاريخ الولاية بلغ مجموعهما قرابة 3 بلايين دولار. وكان، في الموازاة، يكرّس ويعمّق "محافظته العطوفة" متحدثاً بإسهاب عن استخدام المنظمات "المستندة الى الايمان" كي تقوم بالعمل الذي تقوم به الحكومة تقليدياً. وقد طالب بمزيد من الحرية للكنائس والمعابد اليهودية والجوامع الاسلامية حتى تؤمّن خدمات اجتماعية وتقوم بأدوار كانت تنجزها الدولة والاجهزة الفيديرالية. أما بلغة الوقائع التي تعززها الأرقام، فاحتلت تكساس في ظله احدى ادنى المراتب بين ولايات اميركا في ما خص البيئة وجوع الاطفال، واعلاها في حكم الموت. كاتب ومعلّق لبناني. الحلقة التالية "أساتذة جورج دبليو" الخميس المقبل.