ترى ما الذي رآه المخرج الإيطالي بيار- باولو بازوليني في العام 1972، في "حكايات كانتربري" لكي يحول هذه الحكايات، بعضها على أية حال، الى فيلم سينمائي شكل حينها الجزء الثاني من ثلاثية ضمت "ديكاميرون" و"ألف ليلة وليلة"؟ بكل بساطة، رأى انتماء هذا العمل الأدبي الإنكليزي الكبير الى الكتابين الآخرين: كتاب بوكاتشيو وكتاب الليالي العربية. بالنسبة إليه لم يكن ثمة إمكان للفصل بين هذه الكتب الثلاثة، ليس فقط بسبب تشابهها وكونها تنتمي الى عالم الحكايات الدنيوية، وتقوم من حول مفهوم "الحكي" كترياق ضد جمود الزمن والموت، بل كذلك لأنها جميعاً، توفر فرصة طيبة للتعاطي مع عدد كبير من الشخصيات التي يتاح للكاتب - وللسينمائي - ان يدرسها إذ توضع في عالم مصغر، انطلاقاً من تجاوبها مع وضعية معينة. بالنسبة إلى بازوليني، كان المهم دراسة طبائع البشر وردود أفعالهم إذ يوضعون معاً ويضطرون الى التعاطي مع بعضهم بعضاً، فلا يجدون وسيلة للوصول الى ذلك سوى اللجوء الى مخزون الذاكرة والمخيلة. ويقيناً أن "حكايات كانتربري" تستجيب اكثر من العملين الآخرين هذا البعد بالتحديد، ومن هنا جاء فيلم بازوليني المقتبس عنها، أقوى وأكثر تركيزاً، وأكثر كشفاً عن طبائع البشر، وبالتالي أكثر ارتباطاً بالزمن الراهن، أي بالزمن الدائم. و"حكايات كانتربري" التي كتبها الإنكليزي جيفري تشوسر أواخر القرن الرابع عشر، تعتبر واحداً من أهم الأعمال في تاريخ الأدب الإنكليزي. وهذا العمل الذي شرع تشوسر في كتابته حوالى العام 1387 ظل يواصل العمل فيه حتى آخر أيامه، من دون ان يتمكن من إنجاز ما كان خطط أصلاً لإنجازه: أي إبداع مئة وعشرين حكاية. ذلك أن منفذي وصية تشوسر لم يعثروا بين أوراقه بعد موته إلا على أربع وعشرين حكاية لم تكتمل جميعها. ولكن لماذا 120 حكاية؟ بكل بساطة لأن فكرة الحكايات تقوم أصلاً على مسابقة تجرى بين ثلاثين حاجاً يتوجهون في رحلة حج، ذهاباً وإياباً، من لندن إلى كانتربري، ويجتمعون في نزل على طريقهم. وفي النزل يقترح عليهم صاحبه ان يروي كل منهم حكايتين في طريق الذهاب الى مكان الحج، وحكايتين أخريين في طريق العودة، وتكون مكافأة صاحب الحكاية الأجمل، أن يتناول عشاءه مجاناً في النزل عند العودة. وهكذا يبدأ كل واحد من الحجيج برواية ما عنده. ولكن من الواضح ان أيام تشوسر انتهت من دون ان تمكنه من توفير حكايات لكل المشاركين. على رغم جمال الحكايات المروية ودلالاتها، فإن الباحثين اعتبروا دائماً أنها - أي الحكايات - ليست أهم ما في هذا العمل الأدبي التأسيسي، الأهم هو تعاطي تشوسر مع الشخصيات التي يصورها، ورسمه للعلاقات بينها، ولأخلاقياتها طوال طريق الرحلة. فالواقع ان تشوسر أتى بشخصياته من شتى فئات أو طبقات المجتمع، من الحرفيين الى البورجوازيين، ومن البحارة الى الرهبان، ومن حاجب في محاكم التفتيش الى التجار، الى العاطلين من العمل والطلاب وربات البيوت. وهو تمكن، عبر اختياره للشخصيات، من رسم صورة واضحة ودقيقة لطبقات المجتمع الإنكليزي في ذلك الحين، ثم جعل كل حكاية يرويها واحد من الحجاج، صورة عن ذهنيته وذهنية طبقته. وعزز هذا ان بعض الحكايات جاء أشبه برد على حكايات رويت قبلها مثلاً الحكاية التي يرويها حاجب محكمة التفتيش، أتت رداً مباشراً على الحكاية التي كان رواها القسيس، وروى فيها كيف ان الشيطان نزل الى الأرض ذات مرة متنكراً في ثياب قاض، والتقى بحاجب محكمة روى له كيف يتعامل مع الناس بخسة، فما كان من الحاجب إلا أن طبق النظرية وحاول أن يسلب أرملة ما تملكه. والحال أن هذا النوع من التعاطي مع الحكايات أسفر عن نوع من الحوار التناحري بين الطبقات والفئات والأفكار البورجوازية تروي مثلاً كيف على المرأة ان تسيطر على الرجل، فيقوم الموظف بالرد قائلاً إن هذه السيطرة لن تسفر إلا عن تعاسة الرجل، وذلك عبر حكاية تالية يرويها. من الواضح، إذاً، في "حكايات كانتربري" ان تشوسر إنما شاء منها ان تكون أحد أهم النصوص التي تدرس أخلاق المجتمع وأصله في زمن كان المجتمع قد بدأ يستقل بمكانته وإرادته عن وضعية كانت تجعله خاضعاً كلياً للكنيسة، من دون ان يكون له رأي في مكانه الخاص ومكانته، فإذا كانت تلك هي غاية تشوسر، ونعرف انه نجح حقاً في الوصول إليها، فهل يهم بعد ذلك ان يكون حجاجه قد اقتبسوا الحكايات التي راحوا يتفننون في روايتها، عن كتب سابقة كانت معروفة وموجودة في لغات أخرى، ولا سيما عن "ديكاميرون" وعن نصوص لدانتي وربما أيضاً عن "ألف ليلة وليلة". ليس ثمة أي شك في هذا المجال: فالواقع ان هناك حكايات في عمل تشوسر، منقولة حرفياً تقريباً عن حكايات فرنسية حكاية رجل القانون مأخوذة عن يوميات كان كتبها القانوني النورماندي نيكولا تريفيه في العام 1335، حكاية البورجوازية مقتبسة من نص عنوانه "مرآة الزواج" لأوستاش ديشام، حكاية فرانكلين مأخوذة عن ديكاميرون...الخ. غير أن تشوسر لم ينكر هذا، في الواقع، بل إنه تحدث دائماً عن ان عمله إنما هو أشبه بأن يكون بانوراما لآداب عدد من الشعوب والكتّاب، تماماً كما هو بانوراما للأخلاق. مهما يكن من الأمر فإن ما توقف الباحثون عنده طويلاً ودائماً، هو "مدنية" تلك الحكايات و"مدنية" الحجاج أنفسهم، حيث ان هؤلاء الباحثين وصفوا "حكايات كانتربري" بأنها ربما تكون أول اعمال أدبية مدنية في تاريخ الأدب الإنكليزي. إذ، في مقدمة كل حكاية، كما في المقدمة العامة التي كتبها المؤلف للعمل، نجد حضور المدينة طاغياً: اوكسفورد أو لندن، باريس أو يوركشير أو كامبردج، كلها - وغيرها - هنا حاضرة وموصوفة سكاناً وأخلاقاً وفي شتى التفاصيل اليومية. وهذا أيضاً ما يزيد من كون "حكايات كانتربري" أشبه بصورة لزمن وأهله وأخلاقه وصراعاته وضروب التنافس القائمة فيه. كل هذا من دون ان يغيب عن بال المؤلف الجانب الديني، خصوصاً أن شخصياته إنما هي أصلاً، متوجهة لأداء فريضة حج... وهذا الواقع يجعله، وسط رسمه الحاد حتى شخصيات رجال الدين لا يتورع عن التفرقة بينهم وبين فعل الإيمان نفسه. ولد جيفري تشوسر العام 1343 تقريباً في لندن، وكان في الرابعة عشرة حين ألحق بخدمة من سيصبح لاحقاً لورد كلارنس. وبعد عامين كان يرافق حملة ادوارد الثالث الغازية فرنسا. وهناك أسر ولم يطلق سراحه إلا في مقابل فدية. وحين عاد التحق بخدمة الملك في لندن، وبدأ هذا يرسله في بعثات الى فرنسا وجنوى وفلورنسا، ما مكنه من أن يكتشف جديد الأدب في تلك الديار، وسهل عليه لاحقاً وضع كتبه ونصوصه المختلفة، على نسق الآداب الأوروبية، وأحياناً في اقتباس صريح عنها كما أسلفنا. وهو في العام 1386 انتقل ليعيش في كانت التي أمضى فيها بقية سنوات حياته حتى رحيله في العام 1400. والمرجح انه كتب معظم نصوصه خلال تلك المرحلة الأخيرة من حياته، ومن أبرز هذه الأعمال طبعاً، "حكايات كانتربري" و"ترويلوس وكريزيدا" و"دراسة حول الاسطرلاب"، إضافة الى أعمال أقل اهمية كان وضعها قبل انتقاله الى كانت.