يمكن تخيل المشهد والظرف المحيط به، بكل بساطة: ثلاثة رجال وسبع نساء يهربون خارج مدينة فلورنسا، أزهى المدن الأوروبية في ذلك الزمان، لمجرد الإفلات من الوباء الطاعون الذي استشرى عهدذاك في أوروبا كلها وقضى، كما يقال، على أكثر من 25 مليوناً من سكانها. يصل العشرة الى مكان يرون أنه آمن، لكنهم لا يجدون ما يفعلون فيروحون راوين لبعضهم بعضاً حكايات تشغل وقتهم: خلال عشرة أيام يروي كل واحد منهم عشر حكايات، ويكون المجموع مئة حكاية. "ألف ليلة وليلة" في اطارها العام ليست بعيدة هنا: الحكي درءاً للخطر والموت، والحكي كتأسيس لعالم جديد. المشهد والظرف هما المرتبطان ب"ديكاميرون"، ذلك العمل الساحر والمدهش الذي كتبه الايطالي بوكاتشيو، بين عامي 1350 و1355 على الأرجح، ولا يزال حتى اليوم حياً بعد أن أسس للأدب الايطالي، وللقصّ العالمي، وأيضاً للنزعة الانسانية في الأدب. ذلك أن ما ميز "ديكاميرون" عما سبقها في الآداب الأوروبية كان انطلاقها من حكايات اليومي ومغامرات الانسان وتشابك علاقاته. ترى، أفلم يكن بوكاتشيو في ذلك الحين من أعمدة التيار المسمى "استمتع بوقتك" CARPE DIEM؟ كتب بوكاتشيو خلال حياته الكثير من النصوص النثرية والشعرية، وهو كرس جزءاً كبيراً من كتاباته لتمجيد "أستاذه" دانتي وتخليد ذكراه، لكن "ديكاميرون" تبقى أهم أعماله وأكثرها بقاء، وهي وحدها ضمنت له أن يعتبر مع بترارك أول الكاتبين عن افريقيا، عن طريق التأريخ لشيبيون ومع دانتي صاحب "الكوميديا الإلهية" المتأثرة حتماً بنصوص عربية مختلفة ويقال ب"رسالة الغفران" للمعري خصوصاً، الرائد الأكبر للنزعة الانسانية وباعث الأدب الايطالي. واللافت بالنسبة الينا أن بوكاتشيو استقى إلهامه من نصوص النثر العربي في العصر الوسيط، بل انه جعل بعض حكايات "ديكاميرون" يتمحور حول شخصيات وأحداث عربية واسلامية، ومن ذلك الحكاية المكرسة لذكرى صلاح الدين، الذي يبدو هنا في صورة زاهية، كفارس نبيل، صورة لم يكن الأدب الأوروبي عهدها من قبل. الرجال الثلاثة الذين هم على الأرجح يمثلون ثلاث سمات لشخصية بوكاتشيو نفسه والنساء السبع اللواتي يفترض انهن صورة لحبيبات كان كاتبنا عرفهن في أزمان مختلفة من حياته حتى ذلك الحين، ومن بينهن من تمثل ماتيلدا ابنة الملك روبير دانجو، المرأة التي أحبها أكثر من غيرها ودعته هي الى الاختلاط ببيئتها حيث تعرف الى الكتّاب والعلماء والفنانين واستلهم نتاجاتهم الغزيرة في حكاياته، هؤلاء الأشخاص العشرة يبدون لنا اليوم أول الانسانيين في الأدب، كما يعبرون في ما يحكونه عن كوزموبوليتية مستغربة في ذلك الزمان. فالحكايات التي يروونها، مستقاة من مصادر كثيرة: من الحكايات الشرقية، من الروايات الشعبية الفرنسية، من حكايات الفرسان الرومانيين، ومن الأغاني العاطفية ومغامرات أفّاقي صقلية، وأساطير الشمال... الخ. على هذه الشاكلة كوّن بوكاتشيو تلك النصوص التي يختبئ وراءها حس المغامرة والنزق والتطرف فيها، احساس أولي وعميق بانسانية الانسان. ومن هنا ذلك الخليط الذي نراه بين الملوك والطباخين، بين المحظيات وفتيات الهوى، وبين فارس مسلم كصلاح الدين وسيد عراك مثل جيابيليتو دي براتو. كل من هؤلاء له حكايته وعواطفه، وكل منهم له تعاطيه مع الآخرين ودائماً من موقع يجعل السلوك محدداً بالظرف والبيئة. ومن هنا ما قيل دائماً من أن الأدب العالمي والأوروبي خصوصاً بعد حكايات "ديكاميرون" لم يكن هو نفسه كما كان قبل الحكايات: باختصار: أنسن بوكاتشيو الأدب، وجعله خارج اطار الانحصار داخل حدود كانت معينة في السابق، كالحدود القومية والدينية وما شابه. ومن هنا لم يكن غريباً أن يعيش الأدب العالمي طوال قرون تالية تحت ظل بوكاتشيو و"ديكاميرون"، وألا يخفي تأثرهم بالكاتب وكتابه، بعض كبار كتّاب البشرية من تشوسر الى شكسبير ومن موليير الى سويفت ولافونتين وغوته وكيتس وغيرهم. ولم يكن غريباً أيضاً أن يحوّل الكتاب الى أنماط أخرى من الفنون: فن تشكيلي، سينما، مسرح، أوبرا...الخ. ولد جيوفاني بوكاتشيو العام 1313 في باريس، لأب ايطالي يعمل في المصارف، وأم فرنسية قيل أحياناً أنها كانت من علية القوم في العاصمة الفرنسية. منذ طفولته بدأ بوكاتشيو يتدرب على التجارة. غير ان والده سرعان ما أرسله الى نابولي، ليعيش في بلاط ملكها روبير دانجو، وهناك أغرم بابنة الملك، كما اسلفنا، واختلط بمن في البلاط من مفكرين وعلماء، وراح يقرأ لهم ويحادثهم ويسجل كل ما يلفت انتباهه، وهذا كله نجده لاحقاً معكوساً في حكايات "ديكاميرون". وارتبط بوكاتشيو بصداقة مع بترارك الذي كان مثله معجباً بدانتي، وانصرف الى دراسة أعمال هذا الأخير وحياته. وكان هو من أدخل، أيضاً، الأدب اليوناني القديم الى ايطاليا، ويروى انه انفق من ماله الخاص للاتيان بنسخ ثمينة من "الالياذة" و"الاوديسة" الى نابولي. وهو كان في السابعة والثلاثين حين شرع يكتب ال"ديكاميرون" العشريات بالعربية، واضعاً فيها خلاصة معارفه وعواطفه، ولكن أيضاً همه الانساني العميق. صحيح ان "ديكاميرون" لم تكن عمله الوحيد، لكنها كانت أعظم أعماله، وربما أعظم عمل انتجه الأدب الايطالي الانساني في ذلك الحين.