الكتاب: اعترافات عربي طيب الكاتب: يوراك كانيوك ترجمة: عدنان حسن الناشر: دار كنعان - دمشق 2000 يحارُ القارئ في أمر هذه الرواية، لاختلاط السيرة الذاتية فيها بالنهج الروائي، ولغُفل كاتبها. أما الإشكال المتعلق بهوية النص فالكتاب مبني من وجهة نظر روائية مرة، وسيرية مرة أخرى. إذ أن الكاتب أغفل عمداً اسمه الحقيقي، واسم أبيه، وأمه، وجدِّه لأن ذكر تلك الأسماء الحقيقية سيكون كما يقول في المقدمة مصدر أذى لأناس أحبهم، و"بسبب ذلك بدلت التواريخ والسير الشخصية، لا بل حتى انني غيرت شبكة معقدة من العلاقات لكي أحجب الحقيقة بطريقة تبدو معها الحقيقة التي أريد التعبير عنها دقيقة". وهو يعطينا الحق في أن نحكم على نصه لا وفقاً لما حدث، بل وفقاً للطريقة التي وصف بها ما حدث. أي أن حكمنا سينصب على السرد الذي قدم الينا في كتاب وصف بأنه رواية. وفي الحكاية التي يقدمها العمل يأتي "فرانز روزنشفايغ" وهو ضابط يهودي ألماني للعمل مع الجيش التركي في فلسطين إبان الحرب العالمية الأولى. وهنا يتعرف الى شخصين أحدهما تسميه الرواية "أبو المسك كافور" وهو ضابط تركي يحلم ببناء دولة اسلامية كبرى، والثاني عربي اسمه عازوري. تتوطد أواصر الصداقة بين فرانز وعازوري بينما يفترق طريقا فرانز وكافور مع افتراق حلمهما، إذ يواجه فرانز حلم كافور بحلمه ببناء دولة اسرائيل الكبرى أيضاً. تفصح الرواية عن هذا الحلم من دون أن تظهر صهيونية فرانز مثلاً، بل إن الرواية تساوي لاحقاً بين حلمهما وتعتبر على لسان راويها أن الحلمين ينطويان على مفارقة استحالة التحقق. يعود فرانز الى ألمانيا، ويلتقي هناك فتاة يهودية هي "كيث" يتزوجها وينجب منها ابنة يسميها هافا. كما يسافر عازوري الى ألمانيا، ولكن النازية كانت بدأت تصعد الى السلطة، وتضطهد اليهود، وبينما يتمسك فرانز بالبقاء في ألمانيا، يلحُّ عازوري عليه كي يهاجر الى فلسطين هرباً من الاضطهاد الذي يحلق به في مركز عمله وفي الشارع. وهذه واحدة من الوقائع الغريبة في الرواية، وسوف تدعونا الى التساؤل عما اذا كانت شخصية عازوري حقيقية. فهي إذاً تمثل موقفاً ذاتياً لا يمكن تعميمه، أو هي شخصية روائية فنحن إذاً إزاء تزوير يجعل العرب راضين عن الهجرة اليهودية الى فلسطين ومشجعين لها! وهكذا يهاجر فرانز وكيث الى فلسطين، وهنا يعمد الى البحث عن ذاكرة، وهو يختلقها من خلال الحفر في حديقة منزله، وفي الشواطئ والأراضي للعثور على كسر فخارية تغذي ماضيه، وتدله على أجداده اليهود لكي يستطيع أن يشعر بأنه ينتمي الى شيء ما قديم وبعيد ومن ثم تنضم ابنته هافا الى عصابات الهاغاناه وتظهر "بطولات" في الحرب ضد العرب. لكن هافا تلتقي عازوري، فتحبه وتقترن به وبينما يتقبلها الوسط العربي ترفض وزارة الداخلية الاسرائيلية تسجيل الزواج الممنوع فتصرخ "هافا" بهم: "أنتم أسوأ من الناس الذين هرب أهلي منهم في ألمانيا"، وتترك اسرائيل مهاجرة الى فرنسا برفقة زوجها عازوري الذي سيعمل مدرساً في إحدى الجامعات الفرنسية. وهناك ينجبان ابنهما يوسف الذي سيروي قصة جده، وأبيه، وأمه، وقصة حياته المزدوجة الثنائية الانتماء. يعجز عازوري عن البقاء في فرنسا إذ يشده الشوق الى بلاده، فيقرر العودة على رغم معارضة هافا لكنه يقول أشياء غريبة عن علاقته بوطنه، إذ يُعلن أن لاشتياقه الى فلسطين القيمة ذاتها التي تستحقها كسر فرانز الفخارية. كان عازوري العربي في الرواية لا يملك تاريخاً مادياً وشواهد ذاكرة، بينما يستطيع اليهودي أن يجد لقى فخارية تثبت انتماءه الى المكان ذاته. وهنا تبدو الرواية وكأنها تعمل في نطاق ما سماه ادوارد سعيد "الاختلاق" في مقالته: "الاختلاق، الذاكرة والمكان" وبهذا تكاد الرواية تتماهى مع الخطاب الصهيوني الذي سعى الى سلب الفلسطينيين حقهم في التاريخ. أما يوسف ابن عازوري فيلقى الاضطهاد من قبل الاسرائيليين، على رغم انه عمل بكل اخلاص للانتماء اليهم، وحاول أن يكون مجنداً في الجيش ووسّط جده لدى رئيس الأركان من دون جدوى. فقد رفضه المجتمع الاسرائيلي أولاً. وذلك من خلال موقف الآباء والأمهات الذين منعوا ابناءهم من صداقته، ثم رفضته المؤسسات التي "أدلجت" الرفض بكل عناد وصلف. ولن يجد من ثم سوى الانتماء العربي ليعود اليه. لكن يوسف في هذا الجانب لا يتحدث عن الموقف العربي تجاهه، بل يظهر وجهة نظره به. يحاول يوسف الراوي، والروائي، أن يضفي على وجوده إطاراً اسطورياً، فالقدر هو الذي جمع عازوري العربي، وهافا اليهودية. ولكن الواقع جعل الاسطوري كارثياً، حين وقع يوسف وسط دوامة الصراع العربي - الاسرائيلي على الأرض والتاريخ. يحاول الراوي يوسف أن يظهر محايداً، أو خارج منطقة الانتماء، فقد رفضه المجتمع الاسرائيلي ولم يجد انتماء عربياً يرضيه. ولذلك فإن في إمكانه أن يدعي خطاباً محصناً، ضد النزعات القومية، لنفسه. ولهذا نجده يقرر نتائج خطيرة هي أقرب الى المنطق الدعائي الاسرائيلي منها الى الموقف العربي. فيقول في مطلع الرواية إن التاريخ شطره الى نصفين بعد توحيد القدس. إذ أنه كان يعيش في اسرائيل كإسرائيلي، ولكن "توحيد" القدس أظهر نصفه العربي وزاد من اضطهاد أجهزة الأمن الاسرائيلية له. ولا يستطيع القارئ هنا أن يصرف النظر عن استخدام المصطلح، فتوحيد القدس، وجهة نظر اسرائيلية تقابل احتلال القدس في وجهة النظر العربية. كذلك لا يجد يوسف لدى المنظمات الفلسطينية وهو يسميها ارهابية في بداية الرواية التي يلجأ اليها بعد هربه من اسرائيل سوى الفنادق التي تفوح منها رائحة الكحول والمخدرات. وحتى صورة الشاعر العربي الذي يلتقيه تبدو ضبابية، وربما يعني محمود درويش إذ ثمة تأثر واضح بشعره مثل لا يمكنني حتى أن أبني جسراً بين يوسف ويوسف، وبين نفسي ونفسي. ولا يجادل الروائي في مشروعية الاحتلال الاسرائيلي ولذلك يظهر كأنه شخصية مجازية.