عرف بعض القرّاء العرب كتابات عاموس عوز،بعدما طالعوها بالإنكليزية أو الفرنسية أو بلغة أوروبية أخرى. وكان الراحل غالب هلسا وضع قبل أكثر من خمسة عشر عاماً كتاباً عن هذا الروائي الإسرائيلي الذائع الصيت، ملخّصاً معظم رواياته عن الإنكليزية. وتُرجمت في مصر روايته «حنة وميخائيل» لكنها لم تُنشر الا في شكل محدود. كذلك تردّد اسم عاموس عوز لا سيما في القاهرة، الصيف الماضي، بحيث أثار جدالاً في الأوساط الأدبية دار حول إمكان نشر، أو عدم نشر كتبه، وحمل هذا الجدال كالعادة أصداء المواقف السياسية. اليوم نشرت «منشورات الجمل» رواية لعاموس عوز في ترجمة عربية، وهي «قصة عن الحب والظلام« في ما يزيد عن سبعمئة وستين صفحة، وأنجز الترجمة عن العبرية الكاتب الفلسطيني جميل غنايم. رواية لا تُعدّ الأضخم فحسب، بل الأهم والأكثر فنية. رواية تقترب من السيرة الذاتية (الأوتوبيوغرافيا)، إلاّ أنها أكثر تعقيداً من عملية استرجاع للذكريات الذاتية والعائلية. إنها عمل تخييلي يعيد بعثرة عناصر الواقع، ورصد التفاصيل الصغيرة المنمنمة. يتابع الروائي سياقاتها وانعطافاتها والتواءاتها. يفكك كل عبارة، ويتأمّل كل حركة، ويستطرد ويتخيل ويهلوس. ويلاحق التداعيات المتطاولة والمستفيضة، كما يلاحق الأشكال المضيئة والأطياف الغامضة والزوايا المنسية. يُدخل القارئ إلى فضائه، إلى ورشته الروائية، يعرّفه على أدواتها وطرائق تركيبها، وكيفية عقد عُرى أحداثها، وكيفية تجميعها وتوزيعها وتركيبها والتلاعب بألفاظها. مادته الأوّلية ألبومات قديمة لصور العائلة، ومقاطع من حوار مع عمته سونيا، ومقاطع من كتب، وروايات، وأبيات من الشعر، وحكايات أسطورية، وقصص أطفال، وأحاديث متفرقة ما زالت عالقة في الذاكرة. وهو إذ يعيد هندسة روايته، فإنما يستعيد مقاطع وأزمنة على شكل لازمة موسيقية. في كل مرة يستعيدها بطريقة جديدة وفي ضوء جديد. وهو إذ يكرّر صورة العلاقة المثلثة بين الأب والإبن والأم، إنما ينظر إليها بمنظار أبوّته اليوم. وعاموس في تحليله لكتابة القصة، وكل قصة لا تخلو من بعض آثار صاحبها، يجد أن العمل القصصي ليس اعترافاً، وليس استراق النظر إلى أسرار الكاتب. القصة الحقّة هي هذا العمل الاختباري، إعادة التركيب والتفكيك والتنقية. وهذا التمازج هو بين الواقعي والفعلي، والمحتمل والمفترض، لا سيما إن كان المؤلف لا يعوّل في روايته إلاّ على أمشاج من ذاكرة ملتبسة وغامضة، ومن أقاويل وإشاعات وتخمينات. وإذا كانت هذه الرواية تكتنفها في كثير من المواضع فجوات وثغرات، فإنّ عاموس عوز يعيد ترميمها بوضع احتمالات وتقريبات وافتراضات تسدّ فراغها. وعليه، يدعو عاموس القارئ إلى أن يتعامل ليس مع المساحة التي بين المكتوب والمؤلف، بل مع المساحة التي بين المكتوب والقارئ نفسه. فعل القراءة هنا لا يكشف أسرار الكاتب وخفاياه، وإنما يفضح أسرار القارئ المخزية التي يخاف أن يفشيها، والمسوخ الداخلية التي يخشى أن يُظهرها إلى النور. يصنع عوز مادته الروائية من نسيج الحياة اليومية لعائلته وسائر العائلات اليهودية في القدس، القدس الكوزموبوليتية إبّان الاحتلال البريطاني لفلسطين، من تفاصيل دقيقة ومنمنمات تصويرية معبّرة، من تأمّل المنازل، قاعاتها ومقاعدها وكراسيها وأسرّتها وأغطيتها. من روائح الطعام والمطابخ، وأشكال الكؤوس والأقداح وطعم المشروبات والسوائل. وكذلك من طريقة رصف الكتب على رفوف المكتبات وألوان أغلفتها وسماكتها وعناوينها. من اللهجات واللغات والنبرات، ومن النزوات والادّعاءات الفارغة والنقاشات والمخاوف والأحلام المُجهَضة. من كل هذا السديم الملفوف بالتهكّم والسخرية السوداء، يبني عوز روايته، في زمان تاريخي حاسم ومصيري في حياة الشعبين اليهودي والعربي. لحظة إرساء دعائم الدولة الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية. وفي مكان ذي خصوصية وحساسية فائقتين، وبؤرة نزاع تاريخي وسياسي. مكان هو القدس التي نكتشفها في الرواية سريعة العطب، سريعة الالتهاب لأنها تقف على حدود تفصل بين اليهود والعرب. القدس الأكثر هشاشة والأكثر هلعاً وبلبلة من كل المدن الفلسطينية الأخرى. عرب ويهود الجانب العربي من القدس نتعرّف اليه في الرواية لماماً، من خلال زيارات أو لقاءات عابرة بين السكان العرب واليهود. بل إنّ الآخر العربي يُنظر إليه من خلال اليهودي، الذي يهجس به عوز، وهو يصف حياة المهاجرين اليهود الأوائل وما حملوه من عادات وطقوس دينية ومن صبواتٍ ورؤى، ومن عقلانيةٍ وخرافاتٍ، ومن اعتدالٍ وشطط. ومن خلال سيرة عائلته التي وفد جناحها الأبوي من أوديسا الروسية، وجناحها الأمومي من بولندا، يروي عاموس حياة طلائع المستوطنين كروافد بشرية وثقافية متنوعة ومتباينة تصبّ كلها في البحر الفلسطيني. فهم يحملون عقليات وحساسيات مختلفة وذكريات مريرة وتطلّعات متفائلة لبناء بلد مستقل. وإذ يغلب على معظمهم التوجس والشعور بالخوف، وتطاردهم ذكرى الاضطهاد، وهذه «تيمة» معروفة عند المؤلفين اليهود جميعاً بلا استثناء، فإننا نكتشف كيف أنّ اليهودي عالق بين أحابيل الحضارات وشراكها وهوامشها. وتعبّر الرواية عن محاولة الخلاص من خلال والد الكاتب، الذي يصر على ألا يتعلم الولد الذي كانه عاموس إلا اللغة العبرية التي كان الأب نفسه يجد صعوبة احياناً في التلفظ بها. وكان يحاور في كثير من الأحيان، خصوصاً في المواقف الصعبة، زوجته وأصدقاءه بلغة الإيديش، لغة الأشكناز الأوروبيين. ونتعرف في رواية «قصة عن الحب والظلام» على الفروق والتجاذبات العاطفية والثقافية التي غلفت حياة اليهود الأوائل في فلسطين. وهذه الفروق ناجمة عن الوضعية الطبقية المختلفة لكل واحد، وعن الإرث الثقافي الذي حمله من موطنه الأصلي. وهذه الفروق السلوكية والعقلية والشعورية كانت تشكل الخبرة الأساسية في حياة أبطال الرواية - السيرة، وتساهم في تشكيل عقدهم النفسية. وأطرف نموذج نصادفه في الرواية، هو نموذج الجدة شلوميت التي جاءت من شمال شرقي اوروبا محمّلة بمفاهيم مسبقة عن شرق اوسط مملوء بالميكروبات. وإذ يلج الروائي في صفحات رائعة إلى دهاليز الحياة الشخصية لجدّته ووسواسها، فإننا نلمس من خلال ممارستها طقوس النظافة المفرطة، مدى تأثّرها بالصورة الاستشراقية عن البلاد التي نشرها الاستشراق الكلاسيكي. ويمثل هذا الهوس بالنظافة عند الجدة مخاوف عميقة وملتبسة عن محيط شرقي، بقدر ما هو ملوث، فهو فاتن ومغرٍ. لذلك تحاول وضع حدود بينها وبينه لتمنع نفسها من الانزلاق والانجذاب إليه. وهذا الضرب من ضروب العُصاب لا يعبّر عن البعد الجسدي فحسب، بل عن البعد الحضاري الثقافي. اليهودي في رواية عاموس متعدد الأعماق والهويات، ليس نموذجاً أحادياً، وليس نسخاً مكررة ومنسوخة، أو نمطاً أصلياً (Prototype)، كما درج العقل العربي على تبسيطه وتوحيده ونمذجته. اليهودي في الرواية لا يختلف بين عقلية الأشكيناز والسفارديم، بين الصهيوني وغير الصهيوني فحسب، بل يختلف الواحد عن الآخر بمرجعياته وجذوره الثقافية وروحه الحضارية وتجاربه الحياتية، وبنظرته إلى الأرض الجديدة. فصورة إسرائيل لم تكن دائماً واحدة في ذهن الإسرائيليين. بعضهم اعتبرها «غيتو» جديداً، والآخرون بلداً يشبه بلداً اوروبياً، وبعضهم دولة ذات استقلال ذاتي او مطلق، أو دولة أممية، ما يريد أن يقوله عوز أحد مؤسسي تيار «السلام الآن»، ان جوهر إسرائيل لم يكن تنفيذاً لخطة موحّدة جاهزة عن سابق تصور، إنما كان ثمرة التفاعل بين اليهود وإمكاناتهم من جهة، واحتكاكهم مع صلابة محيطهم العربي او ليونته، من جهة أخرى. والرواية في اختيارها لحظة نشوء الدولة التي كان عوز اثناءها في أعوام عمره الأولى، إنما يجعل قارئه يفتتن بهذه الإرادة الفولاذية، هذه الحيوية، وهذه الهلامية من الثقافات والأذواق والآراء التي انصهرت كلها لترسي دعائم الدولة وركائزها القوية. بل هو يحاول أن يزيل في روايته الفكرة الدارجة عند الغربيين والعالم، بأن إسرائيل تقوم على القوة العسكرية، مقدّماً صورة أخرى عن خلية نحل لمثقفين وكتاب وشعراء يحلمون بإقامة دولة تحميهم من غائلة الاضطهاد، ومن ذكرى المجازر. هؤلاء الذين تنوعت مشاربهم، إنما يتطلعون إلى بناء ثقافة ملائمة لحياتهم الجديدة في فلسطين، وهم يصنعون بأشعارهم وكتبهم وخيالاتهم دولة طوباوية، في ظل لغة عبرية حية وعصرية، منزّهة عن أي شائبة، عبرية خالصة نقية وجوهرية، تمثّل بصفائها ونقائها روح الدولة الجديدة، الروح التي تطرد الفاسد من الأفكار والقيم والآراء التي حملها المهاجرون، ولوّنت ثقافتهم وألسنتهم بألوانها. وهذا الأمر دفع لونيا، والد عاموس، الى أن يفرض على ابنه ألا يتعلم إلا العبرية، خشية تلوثه بلغة أو ثقافة غريبة عنه. وكان البروفسور يوسف عم عاموس قد ربط بين حلم الدولة، وحلم النهضة الثقافية والروحانية المواكبة لها. وهذه الآفة اللغوية نراها في عائلة عاموس انفصاماً لغوياً، فللتخاصم لغته، والتعامل اليومي لغته، والكلام المعيب والمخجل والبذيء، لغة أخرى، كما للثقافة لغتها. وفي ظل هذا المناخ يعيش عاموس الطفل، الطفولة التي تمتد وسع اجزاء الرواية. يعيش في مملكة الكتب التي كان اقامها أبوه في منزله الضيق، وكانت تتقاطع مع مسار حياته. فهو مفتون بالكتب وأشكالها وتراصفها وعبق حبرها أو عفن أوراقها ورائحة طباعتها. مفتون بغابة الكلمات والعالم السحري الخفي الذي تصنعه من حولها. الأم المنتحرة تنفتح الرواية على منزل عاموس المتواضع في حي «كيرم افراهام»، وتمثل عائلة عاموس الصغيرة التي حطّت رحالها في القدس لُحمة الرواية، فالأب الذي جاء من اوديسا صهيوني يميني مشبع بالأفكار الرومنطيقية القومية، ومؤمن بالعبقرية اليهودية، ويكره الكهنة ومواعظهم الكاذبة، ويتمنى أن يجدد الروح العبرية الثقافية. وينتابه على رغم ثقافته، هيجان واندفاع. أما الأم فقد كانت رومنطيقية منطوية على نفسها، سودواية، كسيرة الجناح، وتحلم بأن تؤلف القصائد الغنائية. وكلاهما خابت حياته، انتهى الرجل بأن يظل موظفاً صغيراً، وأن تضع الأم حداً لحياتها الكئيبة الناجمة عن علاقة زوجية غير متوازنة، وعن وطأة ذكريات الإبادة التي طاولت أهلها في بولندا. وقد أنشأ الوالدان ولدهما على الخضوع الكامل لنظام اجتماعي تراتبي، وعلى مراعاة دقيقة لقواعد الإتيكيت. ودفعه هذا الالتزام المفروض أن يحرر مخيلته، ليبتكر عالمه الخاص الذي وجد ذروته في القراءة، ثم في الكتابة. في الرواية تنبعث روائح الحياة اليومية في فلسطين الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، لا سيما القدس ببيوتها وأزقتها ومقاهيها وواجهات محالها وروائح بيوتها وطعامها. القدس الفقيرة المهملة المكتظة بالسكان، والقدس الغنية المترفة المضاءة. انها تعج أيضاً بأعلام الثقافة اليهود من شعراء وصحافيين وأدباء يتبادلون الاتهامات ويتنافسون ويتعاركون ويختلفون حول مآلهم ومصيرهم في هذه البلاد، بين مؤيد لعقد صلح مع فلسطين وتقاسم الأرض، ومحرض على طرد الفلسطينيين والاستيلاء على ممتلكاتهم. لا تلبث الرواية ان تتوغل متعقبة آثار سلالة الأبوين، وما أصابها من نوازل ورزايا، واصفة تحول شعب الدياسبورا إلى طلائع، تصبو وتعمل على المجيء إلى فلسطين، بتأثير الدعايات والتربية في المدارس اليهودية وفي البيوت. وقد فاقم اضطهاد الشيوعيين والنازيين لليهود في التعجيل بمجيئهم إلى بلاد رسموها لأنفسهم ارض الأحلام الجميلة، فوجد بعضهم ضالته فيها. وخيّبت آمال بعض آخر منهم، كما حصل للخالة سونيا، حالما وطأت رجلاها أرض فلسطين. وكأنما يتحول امر المجيء إلى فلسطين بفعل خلفية «العذاب اليهودي» الذي يدير عاموس موضوعه بذكاء وحنكة وخبث، بصفته لب الحدث لا في هذه الرواية، وإنما في معظم رواياته، يتحول أمراً قدرياً، ميلودرامياً يثير الشفقة على مصير اليهود، ويجعل من هروبهم إلى فلسطين مطلباً أخلاقياً. وإذا كانت ثمة معضلة في تقاسم الارض، فإن المعادلة عند عاموس هي هذا التوازن بين حقين أو شرعيّتين: شرعية إقامة الدولة اليهودية، وشرعية المقاومة الفلسطينية. وإزاء العربي الطيب الذي مثله في الرواية رجل أنقذ الطفل عاموس في غرفة الملابس، فإن ثمة يهودياً من ضحايا النازية، وأمام قائد اسرائيلي متعصب، يقف قائد عربي اكثر تعصباً منه. ولعل في فلسفة عاموس الحيادية التي تستمع إلى ما يقوله كل طرف، وتعطيه الحق في ما يقول، تكمن المأساة وتضيع الحقيقة. حقيقة أن آخر أتى من وراء البحار، ليشارك الفلسطيني صاحب البيت رغماً عنه.