في الشهور الأخيرة عدت الى المطالعة بعد انقطاع، دواوين شعر وروايات كثيرة عربية وغير عربية. كان من بينها "ليلة المليار" لغادة السمان، و"ذاكرة الجسد" و"فوضى الحواس" لأحلام مستغانمي و"وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر. كما قرأت بعض ما دار حولها من اللغط في الملاحق الثقافية وأخيراً سلسلة مقالات نقدية تناول بها الناقد الكبير رجاء النقاش "ذاكرة الجسد" و"وليمة لأعشاب البحر" في زاويته في مجلة "الوطن العربي" ومقالة للدكتور غازي القصيبي رسم فيها التساؤلات والاتهامات القائمة بأسلوب كوميدي لاذع ذكرني بروايته "العصفورية" وجاء عنوان المقالة مناسباً "يا حقارين موتوا من الحسد! أنا الذي كتبت ذاكرة الجسد". وإثباتاً للحق ليس واضحاً إن كان جاداً أو هازلاً في ما اعترف به العنوان. أما رجاء النقاش وله طبعاً مكانته النقدية الجادة، فيقر أن هناك نفساً رجالياً في أسلوب الرواية ولكنه ينفي أن يكون من كتبها نزار قباني، ويلوم سعدي يوسف لتورطه في اللغط من دون رد قاطع. ويتساءل إذا كان أسلوب حياة وتفكير أحلام هو ما أعطى للرواية ذلك النفس المختلف. ثم يكرر مرات عدة في مقالاته المختلفة أن أصل الرواية هو في رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر ويعدد ما لا يقل عن عشرة وجوه تشابه بينهما من حيث الأحداث وتفاصيل الأبطال وحتى الأسماء والمفردات. كلاهما تتناول تشظيات الجزائر من زاوية إطار عربي أوسع. ثم يؤكد أن الرواية الصورة أقوى أسلوباً من الرواية الأصل و"الوليمة" هي الأقدم. شخصياً، أعطي الدرجة الأعلى من التقدير لرواية غادة "ليلة المليار"، والعنوان يأتي من احتفال مهاجر عربي غني يستقر في جنيف بتحقيق حلم ملياره الأول. مليار من الدولارات كسبها من أشنع طرق الاستغلال لكل من حوله من المغتربين المعذبين. وهي بين الروايات المذكورة الأسبق زمنياً في رسم تشظي وانفصامات النفسية العربية بين إغواءات النداءات القومية وانكسارات تطبيق التجارب قطرياً، ومعاناً الملاجئ المرتجلة في الغرب، باريسوجنيف. والروايات الثلاث ترسم مرارات وطن عربي يتشظى أفراده المكتوون برصاص الحرب الأهلية والهاربون خارج الحدود على السواء. ولكن رواية غادة، وقد نشرت أيضاً في مطلع الثمانينات، تتميز بالتعمق النفسي والبانورامية الشمولية وتصل في توظيف الرمزية الى مستوى رائع ليس في تطويع المفردات والأسماء فقط، بل أيضاً في تداخل شخصيات يمثل كل منها فئة كاملة من المواطنين العرب في تصادم الطموحات والمبادئ. ذكرتني الرواية - من حيث عمقها النفسي ونجاحها في جمع شاعرية الأسلوب بدقة رصد وتحليل الأوضاع السياسية وتداخلاتها الانسانية بصورة لا مباشرة -، بروايات تولستوي "الحرب والسلم" و"الإخوة كارامازوف"، وطوماس مان "الجبل المسحور"، وهي مثلها رواية ضخمة من حيث الحجم تتجاوز السبعمئة صفحة. أقف احتراماً وتقديراً وتحية لإبداع كل امرأة عربية متميزة. ويبقى السؤال، لماذا لم تنل "ليلة المليار" ولو بعض ما نالته رواية "ذاكرة الجسد" من الأضواء والأصداء؟ وهي التي تستحق الأكثر؟